قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاصّ «محمد مشّة»

ناريمان حسن / خاص سبا

عالمي كان صغيراً، ولو تواجدت مفردة أخرى غير هذه؛ لقلتها. أصغر بكثير ممّا قد يتهيّأ لأحد هنا. دفعتْني الوحدة نحو منحدرات وعِرة، نحو أشياء خفية، نحو اللاشيء وملاحقاته. ارتكزت في النقاط الضبابية النقاط التي لا تبصر منذ الوهلة الأولى مهما كان وهجها ساطعاً. لم أبحث عن مصباح يضيء الإنسان، ولا عن طيف متكامل المواصفات يصلح لتستند عليه عتمة كائن ما.

حلمتُ مرّة أنني تواجدت في مكان مزدحم: أشخاص، سيارات، وفرح عامر. كنتُ في قلب الحدث تماماً. أضواءهم كانت تحيطني، وآخرون يحتضنوني.

لقد كنتُ أبتسم، نعم أبتسم ابتسامة غير ابتسامتي المعتادة، وبعد برهة قصيرة رأيت الدود يخرج من فمي، على صفّ مستقيم، ويقفون حول شفاهي. قاموا بخياطته، ورموا عليه مياه الأسيد، فصدر عن ذلك تشوّه ما... ممّا دفعني إلى إخفاء فمي دائماً بدافع الخجل.

وحدث مرّة أخرى أن خرجت – ذات مساء – إلى الأزقّة، جلستُ على مقعد كان مخصّصاً لشخصين ويعلوني عمود إنارة.

كنتُ أتأمّل المشاهد كما تبدو على هيئتها، فكرتُ ملياً في حزن الفراشات، في تشرّد الكلاب، وأيادي المتسوّلين، قلتُ في سرّي ليلتها:

«إن الحياة عاهرة حقيقية، ولأنها كذلك يجب أن ننال منها في فعل كل الأشياء بما يتوجّب فعلها».

في السرقة، القتل، التعذيب، الاستحقار...

قررتُ حينها أن أفعل شيئاً مختلفاً هذه المرّة؛ فكل العادات باتت قديمة ومكرّرة: أن أملأ هذا المقعد الفارغ أمامي.

اخترعت لنفسي أطيافاً كثيرة، أطعمتهم من فؤادي، وسقيتهم بملح عيناي، وعانقتهم مثلما تعانق الجذور شجرة ما، وفي المشهد الأول اتجهت فؤوسهم نحوي.

قاموا باستئصال بعض أطرافي، كان الألم أكبر من وجودي كله، وددتُ حينها أن أقول بعض الأشياء.

أدركت حينها أنهم استأصلوا لساني أيضاً مع تلك الحملة، بلعت ذلك أيضاً، ولم أبث حرفاً... وماذا كان سيحدث لو فعلت؟! فعَلى كل حال الذي يتحدّث هامساً بينه وبين ذاته، لا أحد يهتم بسماعه أساساً.

ومرةً من فرط وحدتي؛ رسمتُ رجلاً وسيماً على مفكّرتي. قرّرتُ أن أقع في حبه! قالوا لي مرّة إن الحبّ قرار.

دخلت برفقته إلى عالم الأبيض والأسود، دربته على كتابة الرسائل بشكل جيد، وعند كتابته لي رسالة خبّأتها تحت سريري، أو دسستها بحمالة صدري، خشية أن يراها أحد، قال لي:
«إنني أحب جدائلك الملونة بالحناء».

ولأصنع مشهداً مثالياً، قمت بقصّ جدائلي، ووضعتها في صندوق صغير، وأرسلتها إليه، وذهبنا بعد ذلك في رحلة طويلة نحو البحار، وفي حدث غير متوقع سقط هو في بركة ما، كنتُ حينها حبلى بالشوق.

خبّأت ذلك جيداً تحت الثياب الواسعة؛ خشية أن أقتَل في جريمة للشرف، بعد تسعة أشهر تماماً أنجبت طفلاً شرساً بأنياب حيوانية ضخمة. لقد أكل من لحم جسدي ما طاب له، إلى أن انتُهكت قوايَ وسقطت.