دلال عنبتاوي
تعد قصيدة الومضة نمطا جديدا من أنماط القصيدة
العربية، فهي قصيدة النضج والاكتمال؛ لأنها القصيدة التي تستفز عقل المتلقي وفكره،
وهي تُبنى في الغالب على عدد محدود جدا من الكلمات، وسطور بسيطة مختزلة ومختصرة،
لكنها مفتوحة على عالمٍ مترامٍ من التأويل والتحليل والشرح.
ما الومضة ؟
جاء في لسان العرب أن الومضة لغةً من وَمَضَ
البرقَ وغيره، يمض ومضا ووميضا، أي لمع لمعانا، والومض والوميض من لمعان البرق،
وأومضت المرأة: سارقت النظر. ويقال أومضته فلانة بعينها إذا برقت. والقصيدة هنا في
هذا المعنى، تحمل اللمعان والتلألؤ والتألق والإشراق والتوهج، وفيها شيء من
الإدهاش والتشويق، وفيها شيء آخر من الشفافية والغموض الآسر، وعدم إيضاح كل شيء.
وفي القصيدة من التكثيف والاختزال والاقتصاد
اللغوي، الشيء الكثير وقد قيل «البلاغة في الإيجاز». وقد أثار وجود هذه اللفظة في
عالم الأدب، وتحديدا في القصة والشعر، الكثير من الجدل؛ لأن القصيدة الومضة جاءت
كشكل جديد، يقوم على القصر والتكثيف والكثير من الاختزال، إلا أنها ظلت متمسكة
بشرط الإدهاش، فهي قصيرة مكثفة، تتضمن حالةَ مفارقةٍ شعرية إدهاشية، فلها خِتامٌ
مدهش مفتوح أو قاطع حاسم، ومن المؤسف أننا نرى كثيرا من النصوص التي يطلق عليها
أصحابُها اسم ومضة، وهي لا تتناسب مع المفهوم ولا تتقارب معه بأي شكل من الأشكال.
لأن قصيدة الومضة، لحظةٌ أو مشهد أو موقف أو إحساس شعري خاطف، يمر في المخيلة، أو
في الذهن يصوغه الشاعر بألفاظ قليلة جدا، و تأتي محملة بدلالات كثيرة، وتكون
الصياغة فيها مضغوطة حد الانفجار.
وقد انتشرت قصيدة الومضة لدى كتاب قصيدة النثر،
بشكل كبير فبرز لها أسماء كثيرة مثل، القصيدة المضغوطة، الكتلة، المركزة، المكثفة.
وجاء كل هذا لأنها في غاية الإيجاز، ومهما قيل فيها وتعددت أسماؤها، إلا أن أفضل
تسمية هي التي قدمها الشاعر عز الدين المناصرة؛ لأنه اشتقها من مفهوم التوقيعات
النثرية أومن الومضات التي تعتمد على صفاء الصورة.
والحقيقة أنها راجت جدا في سبعينيات القرن
الماضي، وبدأت تستقل بنفسها حتى أصبحت شكلا شعريا خاصا إلى جانب الأشكال الشعرية
الأخرى المعروفة. وأنا أرى أنها ليست وليدة هجينة أو غريبة بل هي إحياء وإعادة
صياغة لما تم معرفته في الشعر العربي القديم من المقطعات، ذلك الشكل الذي عرفته
العرب منذ نشأة الشعر عندهم، مع أن البعض يعتقد أن شعر الومضة تأثر بمؤثرات أجنبية
معاصرة كالشعر الانجليزي القصير، والقصة القصيرة، وقصيدة الهايكو اليابانية.
ولابد من الإشارة هنا أن اللغة التي تنظم فيها
قصيدة الومضة يجب أن تتمتع بعدد من السمات أهمها، القصد والتركيز والتكثيف؛ لأن من
سماتها لغويا، السرعة واللمعان. ويجب أن تكون تلك اللغة لغة الناس، وليس المقصود
هنا اللغة المتداولة في الحياة اليومية، إنما يجب استخدام تلك اللغة التي تعمل على
استبدال التعابير والمفردات القديمة بتعابير ومفردات جديدة تعتمد على الشفافية،
فهي لا تستخدم اللغة بمعناها القاموسي التعيني، لأنها تعبير شكلي مميز تغلب عليه
المعاناة والتمرد والرفض.
إن الومضة الشعرية عالم خيالي مركب على نحو
خاص، يهدف إلى تحقيق ذات الشاعر في تكوينٍ موضوعي قائم بذاته، وهي أحد انساق الشعر
العربي الحديث فهي غنية بالإيماء والانسياب والتدفق. وأرى أن وجودها في هذا الزمن
أصبح حتميا، فهي شديدة التماس مع واقعنا؛ لأنها تتناسب مع التسارع المذهل للأشياء
من حولنا، وهي تعبر عن روح العصر وسرعته واختزاله واختصاره للأشياء، إلا أنه يشترط
فيها أن تظل وفية لجذور القصيدة الأم، من خلال احتفائها بالخيال المتوقد والحساسية
المرهفة، والوحدة العضوية، والصورة الشعرية، وتسعى بشكل حثيث للابتعاد عن الحشو
والزيادات، والسيطرة على توجيه انتباه القارئ وشده من خلال الاهتمام بالمفاجأة
والمفارقة، والتركيز على الجملة القصيرة المكثفة جداً.
ويجب أن يظل طموح شاعرها أن تكون تلك القصيدة
الومضة، قادرة على التوصيل للمتلقي كل دفقاته الشعرية والشعورية، ضمن تعبير متميز
يحمل الروح والفكرة والشاعرية بكل ألق وإبداع.
المصدر: جريدة الدستور الأردنية