خالد حسين / خاص سبا
لا شكَّ
أن هذه الكتابة الذي تتجاوز الأنواعَ والأجناسَ أو تلعبُ لعبتَهَا وتفيضُ عليها،
كما يقول جاك دريدا Jacques Derrida، تنبثقُ وفي نيّتها التّآمر على البلاغة
بمفهومها الميتافيزيقي وتشويش التواصل مع القراءةِ الكسولةِ التي تروم البحث عن
المعنى المستقر، من حيث إنها تكتفي بسطوح الكتابة دون المخاطرة بالهبوط في
هاويتها، منعرجاتها، أوديتها، وهذا ما يفترضُ بقراءةٍ جسورةٍ أن تتجوَّلَ في
الجغرافيا الوعرة لهذه الكتابة ــ العتمة؛ بمعنى أن الكتابة المندلقة من أتون
التَّجربة وصراعها مع اللغة والثقافة والعالم تقتضي قراءةً موازيةً لها في القوّة والإستراتيجية،
فالكتابةُ المختلفة تقود إلى قراءةٍ مختلفةٍ وإلى قارئ مختلف، ذلك أنَّ «الكتابةَ
ـ اللذّة» تمضي بقارئها إلى قراءة اللذة؛ لتؤسِّسَ من ثمّة «لذة القراءة»، وهذا
ديدنُ الكتابة المتمردة، المؤسَّسة على الاستفزاز بنيةً وثيماتٍ وإستراتيجية في
انكتابِ الكتابةِ ذاتِها.
لكن
ينبغي، أيضاً، أن نضع في اعتبارنا أن الكتابة في أُسِّها «لِعْبٌ»، بمعنى «العمل
الذي لا يهدف إلى تلبيةِ أيةٍ حاجةٍ أخرى غير حاجةِ العملِ لأجله هو/ نيتشه»، ولكن
هذا لا يعنى أن الكتابة لا تهدف إلى أشياء تتجاوزها، بل إنَّ التوجُّهَ نحو البياض
توجهٌ قصديٌّ بغاية إنجاز «شيء» ما، بيد أنَّ الانخراط في عشق البياض هو ما يجعل
الكتابةَ مشروطةً باللعب، كما لو أنَّ الكتابة ذاتها تعبيرٌ عن «دافع اللعب»، إذ
تُنسى القصدية عند عتبة البياض، فينغمر الكاتب في متعةِ اللَّعِبِ ذاتها، حيث
البياضُ حيِّزُ اللعبِ، هو يلعب بالعلامات اللغوية، وهي تلعب به، لعبةٌ
متبادلةٌ وأثيرة، تعمُّ مشهد ولادة
الكتابة بعيداً عن القصدية التي تتأسس بموجبها، فاللعب ينسفُ القصدية وينفتح على
المتعة، المتعة لأجل ذاتها فحسب. هكذا أمر الكتابة كطفل انغمر في لذة اللعب ونسي
نفسه.
لكن
لنمضي في شؤون هذه «الكتابة»، الكتابة بوصفها سياسةً بما تَسعى إليه من سياسةٍ
جديدةٍ لانكتابها، لوجودها، فلابدَّ لمغامرة الكتابة من أن تسلك مسالك مغايرة في
التَّكيْنُنِ؛ ولهذا علينا أن نتقرَّى علاقتَها أو سياستها باللّغةِ ذاتِها؛
لكونِها تتأسَّسُ في هذه «اللّغة» ذاتِها وبها؛ فالكتابة المندفعة من أَتُونِ
«مغامرة الكتابة وكتابة المغامرة» لا عملَ لديها، كما يذهب بارت، سوى حياكةِ
المؤامرات ضدّ اللّغة التواصلية، أو ضدَّ فاشية اللغة حيث تتزعم الكتابةُ حركةَ
التَّمرد، فهي تعمل على تحرير الدَّالِّ/ العلامةِ من عبوديةِ الوظيفةِ
التواصليّةِ بتكريسِهَا لطبقاتٍ متراكمةٍ من الأيديولوجيا؛ لتغدو العَلاماتُ
اللغويّةُ مرهقةً، رثّةً، مستعبدَةً؛ فيأتي تمرُّدُ الكتابة ليعيدَ لها الحريةَ
والنَّصَاعةَ، وبناءً على ذلك تُحَاولُ «الكتابةُ» في انكتابها تدميرِ الإطار المؤسساتي
للغة، وهذه الصفة التدميرية هي التي تميّز نَصَّ «الكتابةِ»، إذ تتكشَّفُ اللّغةُ
عن كينونةٍ جديدةٍ، عن ثغرةٍ، شرخٍ في نظام/ جسد «اللغة ــ المؤسَّسة»، وفي
إشراقةِ هذه الكينونة يتجلَّى «العَالَمُ» منيراً، مختلفاً، مغايراً وغريباً إذ
تعملُ «الكتابةُ» على نزعة الأُلفة عن العَالم وتدميرِهَا، وهذا لن يَتَأتَّى
للكتابةِ تدشينَهُ ما لم تتعامل مع «اللغة ــ المؤسَّسة» من موقع العَداوةِ
والعُنْفِ والتَّمرُّد والعصيان والإفساد، على ما يذهب «جان جاك لوسركل Jean-Jacques Lecercle» في مصنِّفِهِ القيّم «عنف اللغة»، ذلك أنَّ الكتابةَ في سبيلِها
لبَنْيَنَة نصٍّ مختلفٍ؛ فإنها تخوضُ صراعاتٍ من الصعوبة بمكان قوْنَنتها؛ لكونها
تشتغل ضدَّ القوانين التي تسيّر اللغةَ؛ لأنَّ الكتابةَ في انوجادها تنْدفعُ إلى
قهرِ أنظمة اللّغة الاستعمالية والنَّحوية والدَّلالية، وتعيثُ فيها فساداً
وتخريباً، ولهذا تُنْعَتُ الكتابةُ الجديدةُ بالهذيان والهُراء لأنَّها تخرق
النَّظامَ اللُّغويَّ المعتاد وتزدريه، وتخرج عن طَاعتِهِ، مُعْلنةً العصيانَ على
سلطتِهِ القائمةِ على المنطقِ والتَّلاؤم الدلالي بين الكائنات المعجمية وفق ما يرتئيه
النَّظام استعمالاً ونحواً، بمعنى أنَّ الكتابةَ تَنْسِفُ هذا الانسجام بين
الدَّالِّ والمدلول، وتسير في طريقِ اللامنطقِ في امتدادِهَا وتشعُّبِها؛ لتكون
أشبه بالخريطة أو بالجذمور النباتي المطمور في التراب، إذ ينمو بطريقة فوضوية
شنيعة تحت طائلة مبادئ الاتصال والتنوع والاختلاف والكثرة( جيل دولوز/ غيتاري) أو
أشبه بألعاب اللاوعي وهو يتفجَّر بالأحلام حيث يسود «اللا ــ منطق» في ترتيب الصور
وتتابعها، فالمنطقُ الذي يسود الكتابة يتأرجح بين الولاء للنظام اللغوي والتمرُّدِ
عليه والهزءٍ به، بل لا يمكن الرِّهان على ذلك الجزء من الولاء، فهو ليس إلا ذرَّ
الرَّماد في الأعين، ولذا تتَّسمُ الكتابةُ الجديدةُ بالهرطقةِ والتَّجديفِ
واستثارةِ حُرَّاسِ اللُّغةِ الذي يتوخونها نقيةً، فصيحةً، جزلةً، محروسةً
بالمعاجم وأساليب القدامى في الخطاب، بيد أنَّ «الكتابة» لاهَمََّ لها سوى تفخيخ
اللغة بالانحرافات، وإحداث الشروخ فيها، وتعتيم خطاباتها وتلويثها ومناكحة بعضها
لبعضها الآخر وفق المبدأ الجاحظي في إنتاج الكتابة.
إنَّ
«الكتابة» من هذا المنظور لا تكون إلا عُنْفاً يُرْتَكَبُ بحقِّ «اللغةِ ــ
المؤسَّسة»، حيث تستهدف مواقعَهَا بالرَّجرجةِ والانزياحات المدهشة والتَّناقضات
المثيرة للحسِّ السليم والتغيُّرات المفاجئة فتُثيرُ انعدامَ الاستقرارِ في
بنياتها وأوصالها، ولهذا تستغيثُ «اللغةُ ــ المؤسَّسةُ» بحرَّاسِها من كهنةِ
مجاميع اللغة وأساتذة الأدب الغيارى على نقاءِ اللُّغةِ للذَّودِ عن فضائها
المُنْتَهَك بهذيان الكتابة وهُرائها ودَنسَهَا؛ لتستمرَّ في استقرارها، لكن
هيهاتَ لها ذلك، مادامت الكتابة لا تُتقن سوى الهجومِ على اللغةِ وإفسادِهَا
وتخريبها، فالعلاقةُ بين اللُّغةِ والكتابةِ حربٌ وطيسٌ، لا سبيل للتعادل فيها
بالنسبة للكتابة؛ فثمَّة احتدامٌ ونزاعٌ بين الكيانين غالباً ما انتهى وينتهي
بانتصار «الكتابة»، وما الأجناس الجديدة إلا دليلاً وبرهاناً على شكيمةِ الكتابةِ
في إلحاقِ الهزيمة بـ «اللغة ـ المؤسَّسة» على عتبات التاريخ ومسرحه، بل إنَّ
الكتابة لا تُنْجزُ كينونتَهَا إلابالعمل ضدَّ المقولب والعرف والعادة؛ ولهذا تبدو
مهتاجةً تدميراً وعنفاً في علاقتها باللُّغةِ ــ المؤسَّسةِ التي تبرح مشهدَ
الصَّراع ممزَّقةً، متشظيةً، مبعثرةً تحت إرادة الكتابة وشهوانيتها الفتَّاكة:
إنها
الكتابة التي ترفع لواء الاختلاف، تلك التي تتقمَّص ثعالب ماكرة لتقودَ الريحَ،
كتابة لن تُنْجِزَ معناها أبداً، كتابة تسكنُ الإشراقَ وتحاذي الانخطافَ، كتابة لا
تمكث عند حَدٍّ.