عبدو أحمد / خاص سبا
هائماً كان يمضي في الشارع المقابل للصدفة
القديمة، يحمل على ظهره المنحني حقيبته العتيقة، فيها لحظات معلقة على عجل وذكريات
مترامية بشكل فوضوي على الرصيف المهترئ كذاكرته المتآكلة، أوقف دورة الزمن، وراح يستنشق
الصدفة القديمة.
ثم مضى في الأزقة المرسومة بشكل غير منتظم، كالتجاعيد المرسومة على
لوحة الحياة المعلقة على وجهه، راح يطرق الأبواب القديمة، لكن صدى الصوت لا يخترق
إلا غشاء طبله الممزق، لا أحد في الدار والأشباح في وقت الاستراحة الآن، أحذيته المهترئة ما استطاعت السير بعيداً؛ فخلعها
كما خلع الكثير من الأماني في أوقات مختلفة وأماكن مشابهة، في مسيرته الحافية
وكأنه غيمة تحركها عاصفة هوجاء ما استطاع ردعه عن المسير شيء، حتى المسمار الذي
اتخذ من قدمه مسكناً، فقط جرس الذاكرة القديم الجديد أوقفه، ارتمى في الزاوية
المظلمة وعلى البلاط العتيق شعر براحة كما لم يشعر بها من قبل، حتى حين كان صغيراً
لا يعرف سوى حضن أمه ملجأً.
فتح عينيه، هو لا يعلم كم من الزمن استغرقت رحلته مع النوم (ثانية، دقيقة،
يوم، سنة أو أن نومه طال كنوم أهل الكهف).
المهم أنه الآن يشعر بجسده خفيفاً كالريش، ابتسم لنفسه ابتسامة نصف
ميتة وقال:
-
أهلاً بك في جحيم الحياة من جديد.
كصياد هاوٍ على ضفة نهرٍ غير مبالٍ بالقامات
المنصوبة على ضفتيه، نهره هذا ينبع من طفولته الشقية ويصب في شبابه المنسيّ بين
الأزقة، ما من طعم متوفر في جعبته، فاختار إصبعه طعماً، ورمى بها في النهر، في
لعبة الحياة والموت لحظات الانتظار كافية بأن تجعل الصياد فريسةً.
وهو يتأمل نهره منتظراً فريسته ما كان لشيء يعكر شروده اليتيم سوى
(الفريسة الصياد)، أجل لقد أمسى فريسةً لفريسته، لم يتغير شيء سوى ثقل الحقيبة،
فعدد جديد من الذكريات خرجت من قاع النهر؛ لتستقر في الحقيبة.
الزاوية عادت لسباتها، فمنذ أن بات صوت الرصاص موسيقا الصباح، وفي
المساء يتحول إلى مهرجان بكاء، الزاوية هجرت أهلها، واتخذت الأشباح لنفسها سكاناً.
وهو يسير ببطء في الشوارع الباكية كانت الأرصفة تأكل لحم قدميه
رويداً رويداً، في محاولة لإيقاف مسيرته في شوارع الذاكرة، وهو يمضي لا يزعجه شيء
سوى ظهره الثرثار، فبعد أن كان يشكو من ثقل الحقيبة بات الآن يشكو من ما يسميه (التطفل).
-
التطفل!
-
يا إلهي! ما هذا الثرثار؟ (يهمس للفراغ وهو
يمضي).
ها هنا تنتهي الأرصفة المهترئة، وتبدأ الطرق
المتعرجة بين الأراضي القاحلة، مضى في الفراغ وقتاً من الزمن، واختار لنفسه صخرةً
وحيدة يتيمة مثله؛ ليسند إليها ظهره، جلس وهو ينظر للمدينة آخر مرةً قبل أن تمزق
الأسلاك الشائكة حقيبة الذاكرة، ويقتل الجنود ما تبقى منها بالحراب، تأمل طويلاً، اغرورقت
عيناه بالدموع، دموعه تلك كان آخر ما يخلعها أو ربما كانت أولى الخسارات الهوجاء.
ومضى كالطيف تحت الضباب.