رسول محمد رسول
لم
أقرأ كتاباً للفرنسي غاستون باشلار (1884 - 1962) مخصوص التأليف في التأويل ولا
الهرمنيوطيقا، قرأتُ غير ذلك في كتبه المعتادة بترجمتها إلى العربية، وكذلك كتابه
(الماديّة العقلية) بترجمة الدكتور رضا عزوز، ومؤخراً كتابه الضخم الذي صدر
بمجلدين (الأرض وأحلام يقظة الإرادة..
في
هذا العام نفسه صدر للدكتور أحمد عويز كتابه (الذاكرة والمتخيل.. نظرية التأويل
عند غاستون باشلار)، الصادر عن دار الرافدين في بيروت 2018، ولعلّه الكتاب الريادي
الذي يتناول موضوعة التأويل لدى غاستون باشلار؛ بل الريادي في المكتبة الفلسفية
العراقية على أقل تقدير إلّا ما غاب عن ذاكرتي.
لم
يسع باشلار لأن ينضم إلى التأويليين في القرن العشرين، فهو غير محسوب عليهم، لكنه
تسلّح بالمعرفة الفلسفية، لا سيما فلسفة الألماني إدموند هوسرل (1859 - 1938)،
وشأنه في ذلك شأن العشرات من المفكّرين بمختلف مشاربهم الفلسفية الذين تأثروا
بمعطيات الفلسفة الفينومينولوجية.
ولما
بدأ أحمد عويز مقتنعاً بعدم وجود مبحث مخصوص عن التأويل كتبه باشلار، فإنّه انحنى
أمام ملامح اشتغالات باشلار التأويلية المبثوثة فيما كتبه من مؤلّفات؛ فالتأويل
نراه، وكما يقول عويز، وقد «توزّع في مجموعة من المؤلّفات التي كتبها باشلار خلال
سنوات، وكل كتاب حاول فيه أن يغطي مجالاً محدداً من الصور الحُلميّة في جماليات
المكان، وتأويلات أحلام اليقظة، وتأويلات العناصر الأربعة، أي: النار والماء
والهواء والتراب، وصولاً إلى النزعات النفسية التي حملتها تأويلاته». ويضف عويز
موضحاً: «أن هذا الكتاب يقيم مقاربة تُسلّط الأضواء على البُعدين المُهمين في
العقل الإنساني، الذاكرة والمتخيَّل؛ فكلاهما يمثل أساساً مركزياً في رؤية باشلار
التأويليّة المعنية بالخيال الإنساني، وتكوين الصورة بناءً على قاعدة ظاهراتيّة
تندفع في بعض تحليلاتها نحو ما سمّاه باشلار نفسه سيكولوجيا الأعماق» (ص 11).
لا
يتردّد أحمد عويز بالكشف عن منهجه في دراسة التأويل عند باشلار، فجاء إلى «عرض
التصوّر عبر نزعة وصفيّة يعقبها تحليل يقوم على نقديّة تميل إلى تفكيك بعض
التصوّرات، وبيان الانحرافات المنهجيّة» (ص 11)؛ فالعرض والوصف والتحليل والتفكيك
والمنهج الذي اشتغل به عويز تمناه أن يقوم على «نقديّة» تبدو لقارئ الكتاب محاولة
اجتهادية - من جانب عويز - لكنها بقيت، في حدود هذا الكتاب، أسيرة عدم اشتمال
قراءة كُل مؤلّفات باشلار! فأحمد عويز يكتفي بخمسةٍ فقط من مؤلّفات باشلار
المُترجمة إلى العربية، ولعله العوز ليتغافل عن أخرى لم يطلع عليها، ولا حتى
بلغتها الفرنسية أو المُترجمة إلى لغات أخرى غير العربية، وأتمنى على عويز أن
يواصل البحث عن مديات التأويل الباشلاري في مؤلّفاته الأخرى التي لم ينظر فيها!
من
وجهة أخرى، لا أميل معه إلى تناسي ما قدّمه «الدارسون من قراءات» لفلسفة باشلار،
أما توخيه «لفهم المقولات - الباشلارية - من مضانها» (ص 12)، فهو التوخي غير
المُرحَّب فيه بهذه الدراسة أو أيّة دراسة أخرى عن باشلار، لأنّ القراءات
التأويلية التي دارت رحاها حول فلسفة باشلار لا تعد ولا تحصى، وغاستون باشلار ليس
مفكراً عابراً في القرن العشرين ليُنسى عن جُماع ما قيل عنه، خصوصاً أن باشلار
نفسه لا يتغافل عن الواقعي، ولم يغرق في المجرّد، ولو آثرها أحمد عويز لخرجنا بمتن
دراسي أكثر إضاءة على فلسفة باشلار، لا سيما إضاءة الجانب الأبستمولوجي أو
«المعارفي» الذي برع فيه باشلار أيّما براعة حتى عُدَّ مصطلح «القطيعة
الأبستمولوجية» علامة بارقة تُحسب له في القرن العشرين.
مع
ذلك، يبدو أنّ عويز عرض للكثير من تحليلات باشلار الخاصّة بالذاكرة والمتخيَّل
وبما ينم عن تقديم صورة لكيفيات تأويلاته الباشلاريّة في مؤلّفاته المُترجمة إلى
العربية التي اعتمدها أحمد عويز. ولذلك يستعرض في «تمهيد» كتابه، وعلى نحو وجيز،
كُل ما يريدهُ ليخرج بحديثه عن نظرية التأويل الباشلارية، لا سيما علاقة باشلار
بفلسفة إدموند هوسرل الفينومينولوجية من حيث الافتراق عنها أو الموافقة معها، وهو
تأصيل علمي اصطفاه عويز في هذا الكتاب وكم كنت أتمنى التوسّع فيه لأهميته في حدود
العلاقة بين الطرفين من دون أن نتغافل عن ميل عويز، في الفصل الأول، إلى التأكيد أنّ
ظاهريّة هوسرل لم تندس كُلها في توظيفات باشلار الظاهراتية، فالأول «يبني نظريته
التأويلية الظاهراتية في تأويل الحاضر بذاكرة الماضي، ويؤول الماضي بوعي الحاضر،
وبهذا تستعاد صورة الذاكرة ولحظة انبثاقها وتؤول صورة الحاضر المتخيلة ظاهراتياً»
(ص 39). وهذا التأصيل سيأخذ أحمد عويز إلى مقاربة فلسفة باشلار مع راعي التأويلية
فريدريش شلايرماخر (1768 - 1834)، ومن ثمَّ
فلهلم ديلتاي (1833 - 1911)، وكلاهما ألماني فطحل ترك أثراً في فلسفة
التأويل. وإذا كان شلايرماخر ركّز على البُعد السيكولوجي، فإنّ باشلار ينأى عنه،
يقول عويز: «إنّ باشلار يفصل بين النظرات السيكولوجية المحضة والنظرة الظاهراتية
التي يدعو إليها ويتبناها» (ص 45)، ويردف تالياً ليقول مع باشلار: «ليس ثمّة جدوى
في مطاردة سوابق لا واعية في الذات المبدعة» (ص 45). ما يعني أنّ باشلار لا يحبِّذ
التحليل النفسي، ولا يتورّط بتحليل شخصية المُبدع، ولا الانخراط في سيكولوجيا
المُبدع بما لها من نوازع رومانتيكيّة كان شلايرماخر احتفى بها من ذي قبل، لكن
باشلار يحتفي بذات الشخص الحالم عندما يتم اختزالها ظاهراتياً في مقاربة لعوبة من
منهجية الاختزال الهوسرليّة التي يسعى لمدّها نحو كوجيتو ديكارت (1596 - 1650)
بغية تحقيق أنطولوجيا الذات عبر أحلام أو تأمُّلات اليقظة.
كوجيتو
الحالم
مع
المبحث الثالث في الفصل الأول، نواجه مصطلح «الكوجيتو» الديكارتي ولكن بلهجة
باشلاريّة هذه المرّة؛ إذ يورد عويز مقولة مشتقة من ديكارت دون توثيق! هي: «أنا
متأثر بالصور وأتخيلها إذن أنا موجود»، لكنها المقولة التي لا تخصّ «الأحلام
الليلية» التي لا يوليها باشلار مزيد اهتمام، بدلاً من ذلك يميل إلى «أحلام
اليقظة» وتالياً إلى «تأمُّلات اليقظة» ثم «تأمُّلات شاردة» التي يعدّها مصدراً
خصباً لإنبات تأويل الكوجيتو في ذات «الحالم المتأمِّل» فيأتي الحديث عن الكوجيتو
قدر تعلّقه بأنطولوجيا الذات، وهو أمر محتّم - بحسب الكوجيتو الديكارتي - حتى أننا
نجد أنفسنا بأزاء مقاربة باشلارية - ديكارتيّة كان الطموح أو يؤصّل تناصها أحمد
عويز في تفصيل وافر بين الفيلسوفين لنكون بصدد مصدرين؛ هوسرلي + ديكارتي؛ تنبني
فيهما فلسفة باشلار لتحقيق أنا الحالم بالعالم على نحو أنطولوجي؛ لكون باشلار يعتقد
في كتابه (جماليّات المكان/ ص 88) بأنّ «الصورة وهي نتاج الخيال المطلق هي ظاهرة
وجود». وفي ضوء ذلك يردف أحمد عويز قول باشلار: «الذات الحالمة ليست هي محض تجريد
واختزال للعالم عبر الخيال، إنّما هي الحقيقة الخيالية لتأمُّلات الذات الإنسانية»
(ص 57). ولنا عودة أخرى للكتاب في بعض مما أثار من مشكلات غير التي أشرنا إليها
فوق.