-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

ملاحقة ظلال الموت «الشهادة الثانية»



جان بابيير / خاص سبا


بعد المجزرة التي هزّت كيان مانو، وأوقعت هيمن أرضاً تعرّف مانو على بعض من ذوي الضحايا وأقاربهم في المقبرة، ومن خلال أسئلته لهم ذهب إلى بعض البيوت في المدينة؛ ليكتب عنهم تقارير مصوّرة وكتابيّة، لكنه ارتأى ألّا ينشرها في تقرير، ليضيف إليه شهادات حيّة تدخل في بناء العمل، وقبل هذا قال: لم أكن أودُّ أن أقتلهم ثانية على الورق وهم حيوات، وليسوا عملاً استقصائيّاً، بقدر ما كان واجبه يتحتّم عليه تجاه دمائهم، واحتفظ بقبورهم في قلبه إلى الأبد.
كانت الساعة تشير إلى الرابعة والعشرين دقيقة من صبيحة يوم رمضانيّ من أيّام حزيران من عام 2015، مثلهم مثل كلّ الكوبانيّين بعد تناول السحور، كانوا يفترشون أرض الديار،ويغطّون في نوم عميق، في حيّ الجمارك نفس حيّ مانو، بعد رجوعهم من تركيا، نهضوا على صوت انفجار قويّ يهز كيانهم والأرض وكأنّه زلزال!
حمل نجم الدين آتاش مدرّس اللغة الإنكليزية بسرعة أطفاله إلى الداخل، وأسرع إلى الشارع ليرى ما يحدث، فإذ بالناس يركضون صوب المعبر الحدوديّ عند الجمارك، وسأل جاره (الذي مات في تلك المجزرة):
-         ما هذا، ما الذي يجري؟
 رد عليه بذعر:
-         تفجير في البوّابة الحدوديّة بسيارة مفخّخة!!!
همّ بالذهاب إلى هناك لتقصّي ما يجري فإذا بزوجته تمسك بيديه، وتحاول بدموعها إرجاعه إلى البيت، وهي تقول:
-         لا تذهب؛ فالأطفال خائفون!!
 وبينما تحاول زوجته إدخاله، ترتفع أصوات إطلاق للرصاص من بعيد، أخرج الأستاذ أطفاله وزوجته وأمّه الطاعنة في السن إلى بيت أخيه الواقع مقابل بيتهم.
خرج ابن أخيه مسلّحاً يركض إلى مكان إطلاق الرصاص ويقول لعمّه:
-         اهربوا... الدواعش تسلّلوا إلى المدينة!!!
شعر بالصدمة، وهل بقي متّسع للهرب بأطفاله وعائلته؟ لا ليس هناك متّسع من الوقت حتى لتشغيل سيّارته والهروب بهم، الرصاص ينهال من بعيد، تحديداً من شرق بيتهم، من غرب بستان حجّ رشاد. ونتيجة ذلك أُصيب جاره وعدد من أصدقائه.
النساء يولولنَ والأطفال يصرخون مرعوبين، في هذه الأثناء لمح أربعة أشخاص يأتون باتّجاههم من صوب الصوامع التركيّة، يرتدون لباس الوحدات الكرديّة ويرفعون علم الوحدات... وعند رؤيتهم أحسّ بنوع من الطمأنينة والراحة لبرهة، وقال لنفسه: "إنّهم يأتون لمساندتنا".
وعندما اقتربوا منهم أكثر، مسافة 25 متر.... رفعوا أيديهم وخاطبوهم باللغة العربيّة:
-         لا تخافوا، لا تخافوا نحن إخوانكم!!!
كان الموت في حيّ الجمارك يتحدّث بلغة القرآن.
عندها اعتقد أنّهم من عناصر الجيش الحرّ التابع لـ (أبو ليلى) المتواجد في المدينة.. فهمّ بالذهاب إليهم، لكنّهم بدأوا بإطلاق الرصاص عليه من أسلحتهم المتطوّرة، أين يختبئ؟ وكيف ينجو؟
كان أعزل، ركض يميناً ويساراً، ولحسن حظّه لم تصبه أيّ من رصاصاتهم.. فتيقّن بأنّهم داعش... كان الرصاص ينهال عليهم فأُصيبت أمّه بشظايا وأُصيب هو ببعضها، احتموا ببيت أخيه هرباً منهم، وكان أحد جيرانهم أيضاً قد لحق بهم وبحوزته بندقية. قال نجم لجاره:
-         أعطِني سلاحك وليحدث ما يحدث، نحن موتى لا محالة، إذاً لنقاوم بما نملك.
خرج مع السلاح، واحتمى بزاوية الجدار، وبدأ بإطلاق الرصاص على مصدر النيران، أصاب أحدهم وبعد رشقتين لم يبقَ في سلاحه ذخيرة. قال لنفسه: "ماذا أفعل ببندقية دون طلقات؟ العصا أفضل منها"، لم يجد حلّاً، فعاد إلى الداخل، وأغلق الباب بإحكام، وبدأ بوضع أكياس القمح وراء الباب والرصاص ينهال على الباب كالمطر الغزير، ولكن لم يكن المسلّحون يعلمون أنّه لم يبقَ معه ذخيرة.
كان أفراد العائلة في الداخل يتكوّمون على بعضهم مرتعبين، وكانوا يسمعون أصواتهم بوضوح، الموت يطوّقهم من كافّة الاتّجاهات. نظر نجم إلى أطفاله والنسوة في الداخل وأمّه المصابة، قال بصوت واهن:
-         يا لها من ميتة حمقاء!!!
في هذه الأثناء كان ابن أخيه مروان موجوداً بين الحاضرين، وهو مقاتل في قوات الحماية الشعبيّة، كان قد أخذ إجازة بسبب إصابة في أحداث تلّ أبيض. رأى مروان أربعة مسلّحين قادمين إليهم من داخل الأراضي التركيّة عبر خندق كان مخصّصاً لنقل أفراد الجيش الحرّ في الأحداث الأولى، فقام مروان برشّهم بسلاحه، فناداه أحدهم قائلاً:
-         هفال نحن من الجيش الحرّ، جئنا لمساعدتكم ألا تعرفني...؟؟
نظر إليه مروان فعرفه، لقد كان يحارب معه في تلّ أبيض من ضمن فرق الجيش الحرّ، فخفض مروان حينئذ سلاحه، فباغتوه غدراً، وأطلقوا عليه النار، وأُصيب بجراح. وهنا لاذ الناس بالفرار إلى داخل البيوت، فتقدّم المسلّحون، ودخلوا البيوت، وطاردوا نجم الدين أتاش، فاختبأ في إحدى البيوت بعد أن أخذ بعض الطلقات من جاره، واشتبك معهم بالرصاص، لكنّه لم يكن يملك ذخيرة كافية، وكان المسلّحون يصرخون:
-         اخرجوا يا كفّار..!
وحدثت مشادّات كلاميّة بينهم وبين نجم الدين الذي ردّ عليهم قائلاً:
-         بل أنتم الكفّار وأعداء الله!
بعدها ترك المسلّحون مواقعهم وذهبوا إلى مكان آخر؛ إذ لم يريدوا إضاعة وقتهم مع رجل مسلّح، وهو لم يكن يدري أنّهم دخلوا على بيت أبيه، وقتلوا زوجة أبيه ميّاسة أتاش واثنين من إخوته مصطفى وفوّاز، ثمّ أكملوا على بيت جيرانهم فقتلوا ستّة من أصل ثمانية كانوا في المنزل من عائلة واحدة.
أخرج نجم هاتفاً صغيراً كان بحوزته،وتحدّث من خلاله مع بعض أقاربه، ربّما يستطيعون إنقاذهم ولكن دون جدوى،كان الرعب يخيّم على كل من في الداخل وهم لا يعرفون أنّ زوجة أبيه ذات الـ (65) عاماً واثنين من إخوته قد فارقوا الحياة برصاصاتهم الغادرة.
أمّا جارتهم فقد أُصيبت والتجأت إلى بيت أخي نجم وخلفها عناصر داعش، وبدأوا يقرعون الباب، أراد أن يفتح الباب لها لمساعدتها بسرعة، ولكنّها أخبرته بصوت يملؤه الأنين:
-         إنّهم خلفي.
وهنا أدرك أنّها مصيدة لفتح الباب، فتملّكته الحيرة، ووقع في صراع نفسيّ عنيف، فهو لا يستطيع أن يفتح الباب خوفاً على نفسه وعائلته، وكذلك لا يستطيع إنقاذها. هكذا بقوا في ذلك الرعب حتّى الساعة الحادية عشرة والنصف، حيث لم يعد يسمعون شيئاً، لا رصاص ولا صوت للبشر وهنا بدأوا يتّصلون بمن هم في الأحياء الأخرى حتّى أخبروهم:
-         ستأتي فرقة ﻹنقاذكم وإخراجكم، حدّدوا مكانكم.
شعر آنذاك أن خوفه على النساء أكثر من الجميع بدأ يتلاشى، فقال ليطمئن الجميع:
-         الحمد لله كُتب لنا عمر جديد!!!
عندما أتوا ﻹنقاذهم كان قد تمّ قتل أكبر عدد من العُزّل في الحيّ، وحينما فتح نجم الباب وقف صامتاً مندهشاً:
-         يا إلهي ما هذا؟
جثث هامدة بريئة في شارعه... جاره وزوجته وبعض المدنيّين...
ركض إلى بيت أبيه، فوجد زوجة أبيه وأخويه قتلى، اسودّت الدنيا أمام عينيه، وتملّكه حزن شديد، وهو يتمتم بصوت مليء بالحشرجة:
-         ماذا أفعل؟ لا لم يعد هناك شيء يفيد. يا ربّ!!!
نقلوهم إلى بيت أحد أقربائهم غرب المدينة، وبدأوا بمعالجة نجم وأمّه من الشظايا التي استقرّت في جسديهما، وبعد يومين قاموا مع القليل من الرجال - حيث لم يكن آنذاك قد عاد الكثير من الأهالي إلى بيوتهم – وتوجّهوا إلى المقبرة لدفنهم في مقبرة جماعيّة.
لا حاجة للكوبانيّين أن ينتظروا الساعة، لقد رأوا القيامة بأعينهم في هذه الدنيا وليست الآخرة، وكانت هيمن تعضّ على جرحها في مكان آخر من المدينة مع مانو وكاميرتها لرصد الموت.


تعديل المشاركة Reactions:
ملاحقة ظلال الموت «الشهادة الثانية»

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة