-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

احرث لي فرجي يا رجل قلبي



غادة سعيد – بورتو - البرتغال 





هكذا صرخت إنانا أو عشتار منذ آلاف السنين

امتدّت سهرتنا إلى ما بعد الحادية عشر ليلا. شربنا من "البيرة" ما يكفي لكي نعيد بناء التاريخ والوطن من جديد. سبقتنا "خوانيتا"، وأدّت ثمن المشاريب. لم تكن حالتنا تسمح أن نتجول في شارع "العريض" ليلاً، أو أن ندخل مرقصًا ليليّا لإكمال السهرة. رغم أننا كنا في عطلة سياحيٌة لبلدي سوريا بعد غيبة طويلة. ذهبنا إلى الفندق نفسه. وجدتُني في الغرفة نفسها مع "أسمري" بعد التحاقه بنا...
كانت إسبانيّته راقية. لكنته "القشتالية" ذات موقع مخملي، رغم جدوره المغربية وهو الهارب الباحث عن "حريّة" تشبه السماء. بسيط في مظهره الخارجي، لكن حركاته توحي بعمق أصيل. كان قد شرب كثيرًا، لكنّه لم يفقد تركيزه وسلامة عباراته.
تحت ماء الحمّام الساخن، كنّا عاريين تمامًا، ونحاول فقط التخلّص من عرق السهرة وروائح الدخان.
صوت المذياع من داخل الغرفة وعلى أثير إذاعة "شام إ ف م"، يصدح بأغنية قديمة للمطربة "منيرة المهدية":
( انسى اللي فات وتعالى بات ليلة الثلات،
بعد العشا يحلى الهزاز والفرفشة..
وارخي الستارة اللي فريحنا،
لا حسنْ جيرانكْ تجرحنا..)
وجدته قويّ البنية دون أن يفقد رشاقته. شعر صدره الأسود يغري بالسفر المجوني، ولحية ذقنه القصيرة تفضح ميوله الثقافية. عندما مرّر كيس الصابون على ظهري، تنمّلت مفاصلي. سمعت رطانته الرقيقة، وكأنه يكتب قصةً اباحية في برّية مجهولة. كنتُ "زنوبيا" بكل مفاتنها الفنينيقة المثيرة، وكان "الدّون نكيشوط" الفارس الجريح الهارب من موقعة "الطواحين" على ظهر حصان متحضر. لم أجد غضاضة وأنا أرى فيه فارسًا وسليلاً عربيّا. ربمّا هي "الأنماط القديمة" التي تُشكّل "اللاشعور الجمعي" التي تكلّم عليها "غوستاف يونغ".
وقت ما انتصفت المطربة "مها الجابري"  في أغنيتها (شو بيصعب عليك):
(ضلك فكر فيي..
ظلك فكر فيي..
فكر بقلبي لكان خيمة دفا وحنان
يسمع بظلا رضاه
ويسعد الالو حرمان..)
كنّا في السرير، وكان يُكلّمني عن مشروعه السياحي المقبل:
- الذهاب إلى سوريا العميقة.
قلت له:
- هل تقرأ ما بداخلي؟
حرّكَ رأسه بالنفي، وقال لي:
- نقاشنا خلال السهرة، وضعني أمام رؤية جديدة.. مللتُ "سياحة" الثرثرة، والتسكع بين أزقة طرطوس وبنياتها الرطبة وروائح عوادم السيارات وزيارة نخيل أمريكي أثقل  شوارع المدينة وبخور مطاعم الوجبات المغتصبة..
فاجأنا الفجر  ونحن ما زلنا ندردش تحت الفراش. تذكرتُ "الدبكة" التي تمتدّ إلى ما بعد الفجر. هي مضاجعة من دون سرير، لقاح الذاكرة والواقع. كانت حريّة الجسد الأنثوي أهم شيء فقده "السوري" في بلاد أضحت الديانات متحكمة في تفاصيله.
التقينا على مائدة الفطور نفسها في المقهى الملاصق لفندفنا المعتاد. وجوه متعبة. روّاد المكان يلبسون ألبسة كعلامة على تديّنهم. كنتُ الوحيدة التي ترتدي فستان أبيض اللون وشفافا تخترقه كلّ العيون. لكنّ جسدي حرّرته مسامّي من الوصايا الآخرين، قبل رجوعي مرةً أخرى لمدينتي بعد غيبة طويلة امتدت لأكثر من خمس عشر سنة. حينها عرفت لماذا ارتبطتِ اللغات الأوروبيّة بالجسد، عندما سمعتُ "غونزالو" يقول "لأسمري":
- Me siento bien cuando uso mi cuerpo...
( أشعر بالرضا التام حين أرتدي جسدي)
التفت "أسمري" نحو "خوانيتا" وغمز بعينيه:
- كنتُ أعتقد أنني الأبيقوري الوحيد...
أشعل "غونزالو" سيجاره الكوبي الطويل، نفث في وجه "أسمري" دخانه الرمادي الكثيف، وعقبّ على كلامه:
- لا تتنطّع أيها الأسمر.. أنت مهندس تعبّر عن اباحيّاتك بالأرقام والخيال. هل كنتَ ستمتلكُ الجرأة نفسها لو كنتَ كاتبًا أو مخرجًا سينمائيّا في الأوطان العربيّة ولا تمتلك إلا قلمًا أو الصورة الحيّة والجسد الفعلي وسيلة للتعبير..؟!
لم يقل "الأسمر" شيئا. اكتفى هازئا برفع كتفيه وحاجبيه تعجّبًا. تدخلتُ أنا:
- تعرفون.. مقاس الحداثة هو التحرّر الجسدي. نحن حضارة كلام فقط. ما إن يتعلّق الأمر بالجسد حتى ينتفض تحت جلودنا ألف جلاد وجلاد.. لكني اخترتُ الكتابة لكي أواجه هذا التحدي.
صفقت "خوانيتا" ساخرةً:
- لقد بدأتِ بكسب الرهان منذ الآن...
ضحك الجميع من غمزها. أما أنا فقلتُ منشرحة:
- أيها الوسيمون.. لا حق لكم في ألا تكونوا متحرّرين من كلّ شيء.
علّق "الأسمر":
- ربّما يكون التحرّر هو معيار الجمال الإبداعي الذي تبحثين عنه.. في سهرة الليلة سأعدم كل العيون التي ستفترسكِ في هذه المدينة المتحرشة حتى بنوافدها..
وباسني على شفتيّ قبل أن يلتفت إلى رواد المقهى:
- اتفقنا.. لا حقّ لنا في ألا نكون متحرّرين في بلد شرقيّ يخاف جسده..
أوقفه "غونزالو" قبل أن يهُمّ بالوقوف:
- هل تصدّقوني حين أقول لكم إنّ حضارة العرب الإسلامية سبقت الغرب المسيحي بالتحرّر من إشكالية الجسد، وأن  أبا نواس هو شاعر استثنائي في الأدب العربي.. وعلى طول ساحة "الحريّة" بكل ما تحمله من معنى "اممي" للكلمة؟!
بكلّ هدوئه المستفزّ، ردّ "الأسمر" بسخريّته المريرة:
- شاعر استثنائي.. لأنه كان الشاعر الوحيد غير الفحل.. وبلغة العصر: شاعر "أمو" (homo).. مثليّ.. شاذ.
- ألا يدخل ذلك ضمن التحرّر الجسدي الذي نتحدث عنه.. مثلا؟!
قالت "خوانيتا"
أكمل "غونزالو":
- لأنه الشاعر الوحيد الذي لم يتعرّض للاضطهاد رغم مجونه وخمريّاته الفاضحة. معظم الفقهاء والحكّام كانوا يحفظون شعره عن ظهر قلب في مجالسهم الخاصة، لأن شِعرَهُ كان إفصاحًا عن حقيقة الجسد التي لا يمكن إنكارها..
التفت "غونزالو" نحوي. أشار إلى ملصق فيلم على واجهة سينما "الكندي" للفنانة "غادة بشور"، خلال رقصها بالعصا في حفلة أحياها المطرب السوري"وفيق حبيب"، وهي التي ابتدأت حياتها الفنية كراقصة استعراضية في ثمانينيات القرن الماضي في "فرقة أمية للفنون الشعبية":
- أحبّ هاته الفنانة لأنها تكتب بجسدها، ولهذا أجد جسمها حيًّا، مثيرًا ومتدفقًا. لكن أنتِ نسخة متطورة من الكتابة الجسدية. سيكون قلمك المادي المرئي والمتجسد أمام آلاف العيون الحاقدة الغاضبة والمكبوتة جسديًّا وعرقيًّا، والتي تغيّرت في غفلة العقل "السوري" المتحضر، بحيث تسرّبت أكثر فأكثر الأفكار "الدينية" من المجتمعات القريبة من سوريا، دون أن يواجهها "العلمانيون"، وتركوها تعيش بينهم في اطار "حرية" التعبير الثقافية.. ترى الآن يا غادة هل أنتِ مستعدة لتكوني كاتبة "روايات وقصص ايروتيكية" حد فضح وتسمية الأشياء بمسمياتها في بلد ما زال يتقادفه "الحلال والحرام" وتنخره إزدواجية مثقفيه في ما يتعلق بحرية المرأة بكامل مفهومها الإنساني.. بل بعبارة أخرى هل أنتِ يا "غادة" مستعدة لأن تقبلي من الجميع كلمة "عاهرة" أو تلطيفا "مارلين مونرو" السورية..؟
خفضت رأسي، وقلتُ:
- أكيد لا... لكني لن أتنازل عن حقّي في تحرير جسدي من كل لاهوتيّة أو أخلاقية.


تعديل المشاركة Reactions:
احرث لي فرجي يا رجل قلبي

can

تعليقات
    تعليقان (2)
    إرسال تعليق
    • Unknown photo
      Unknown19 يناير 2020 في 6:29 ص

      رائع 🌼

      إرسال تعليقحذف التعليق
      • Amer abdalhay photo
        Amer abdalhay30 يناير 2020 في 2:39 ص

        يا غادة.. نصك هذا ما بعد الحداثة!
        أن تكتبي بهذه اللغة هي ليست لغة أدبية خالصة، إنها لغة فكرية، اختزلت فيها الحضارة السورية المذبوحة الأن!
        نصك الشمسي هذا اختصار حضاري شديد لحالتنا الفكرية والادبية المكسور ة، بل التائهة!
        هل سنستعيد ذاتنا يوما.. تلك الذات الهائلة!

        إرسال تعليقحذف التعليق
        الاسمبريد إلكترونيرسالة