رسول محمد رسول
حتى عام 2010، ما كان للشاعر السويدي غونار
إيكيلوف (1907 – 1968) ديوان شعر مُترجم إلى العربية، ربما كانت له قصائد مترجمة
ومنشورة على نحو متفرق هنا أو هناك، وفي سنة 2011 صدر عن مشروع كلمة في أبو ظبي
كتاب (عالم جونار إيكيلوف) يضمُّ منتخبات من قصائده عكف على ترجمتها إلى العربية
الدكتور صالح العويني حتى بدا هذا الإصدار من أوائل الكتب التي ضمَّت بعض قصائد
هذا الشاعر، وهو مُنجز ترجمي له أهميته بخصوص تجربة غونار إيكيلوف الذي يعدُّ
علامة فارقة في الشعر الأوروبي عامّة والسويدي خاصّة في القرن العشرين.
وبعد ستة أعوام، وضمن كتاب الدوحة في قطر، صدر
كتاب (درب الغريب.. محتارات شعرية) لإيكيلوف نفسه بترجمة كاميران حرسان، ومراجعة
محمَّد عفيف الحسيني، ضمَّ نصوصاً شعرية مُصطفاة من ثلاثة عشر ديواناً للشاعر
أصدرها للفترة من 1931 إلى 1967، لتغطي فترة قرابة أربعة عقود في مسارات إيكيلوف
الإبداعية امتازت بالإنتاج الشعري المتواصل التي لا يمكن الاستهانة بها من الناحية
الجمالية والموضوعاتية.
ترجمان الأشواق:
لا أدري؛ أكانَ علينا الانتظار ثمانية عقود
لنترجم تجربة شاعر أوروبي – سويدي إلى لغتنا العربية وهو الذي رحل من السويد إلى
بريطانيا لدراسة اللغات الشرقية، لا سيما الفارسية، وآدابنا العربية والإسلامية؟
لماذا جاء إلى آدابنا؛ تحديداً إلى الصوفية الإسلامية؛ إلى جلال الدين الرومي،
وسعدي الشيرازي، ومحي الدين بن عربي، لا سيما إلى تجربتنا الشعرية العريقة، بينما
نحن تأخّرنا عن قراءة تفاعله معنا؟
لقد تأخّر تفاعلنا معه وتلك حقيقة لا تقبل
النقض، وترانا لا نحتفي بكليّة تجربته الشعرية؛ فلا ديوان من دواوينه مترجم إلى
العربية قائم برأسه بين ظهرانينا لهذا المبدع الشاعر الذي أحبَّ تراثنا ونقلَ إلى
لغته السويدية ديوان شعري لمحي الدين بن عربي (ترجمان الأشواق) ليكون بين ظهراني
مواطنيه.
درب الغريب:
نعود إلى إيكيلوف الشاعر الذي وصف موجوديته في
الحياة بأنها "درب الغريب"، وهو الذي اختاره المترجم كاميران حرسان
عنواناً لمختاراته قصائد الشاعر في هذا الكتاب، وهو الدرب الذي ظل ميسمه حتى آخر
العمر، ويعود السبب إلى تعاسة المصير الذي لاقاه طفلاً عندما فارق الوالدان ابنهما
إلى غياهب الموت فبقي إيكيلوف الطفل يتيماً يحث خطاه باحثاً عن دفئهما الغائب حتى
استقرت في داخله مأساة ما كان يعيش، لكنه، وعندما نما عوده راح يستحضر المأساة
ليواسيها، "فما وهبته اللحظة والعمر لا يمكن لأحد أن ينتزعه منّا"، هكذا
يقول، ويضيف في قصيدة (مرثية): "من باطني أحضرت المواساة دوما".
وفي ديوانه (أغنية العبّارة) كتب قائلاً:
"أؤمن بالإنسان الوحيد، الذي يتجوّل وحيداً". وفي قصيدة أخرى بعنوان
"صرير" من ديوانه لسنة 1945 (ليلة في أوتاجاك) سيجعل الحيرة أغنية عندما
يتساءل: "لا أدري أين الوقوف؟".
مع ذلك، سيقرر إيكيلوف أن يقف عند مجرى هو الذي
اختاره بنفسه، فبالبحث عن الـ "هُناك" ظل يلازمه ليسافر في نهاية الربع
الأول من القرن العشرين إلى الغرب الإنجليزي ليدرس اللغات الشرقية، لا سيما
الفارسية، ويفتح أفقاً لبلاده برمته عندما سينخرط في التراث المشرقي الصوفي،
ليحوِّل اللا - ممكن إلى ممكن؛ بل وينتسب إلى ما أسماه "فن اللا -
مُمكن"، لكي يمضي في أتونه ويخلق منه ممكناً لا يستحسن كينونته سوى شاعر
مخضته الوحدة، وعذبه الشعور باليُتم، ولكن كُل ذلك لم يحدّه من اكتساب ودّ الممكن
حتى خاض غمار مُمكناته بعد أن كان يعيش حالة بين موت وإرادة في أن يكون ويوجد.
رومانسيّة وسرياليّة:
اليُتم والوحدة، كلاهما يدفع الشاعر إلى خلق
أجواء ترنوا إليها ذاته، وعندما نشر إيكيلوف مجموعته الشعرية (تكريس) في سنة 1934،
وقد تشبعت روحه وذائقته بالآداب المشرقية الشعرية الصوفية، مال إلى استلهام
التجربتين الرومانسية والسريالية في الشعر الأوروبي، وهو الذي عاش في دهاليزهما
وبين فضاءات شعراءها ومبدعيها عن كثب، وقرأ متونهما الشعرية والجمالية حتى تعرَّف
إلى خطابهما معاً.
لقد حظي ديوانه (تكريس) بلقيا طيبة فاستحسن
القارئ ما كتبه إيكيلوف من قصائد خرجت من معتاد الشعر إلى مغايرته بلوح جمالي
إبداعي جعل الناس تهتم به، وتشير إلى هذا الشاعر بالبنان كمبدع سويدي يستحق
القراءة والمتابعة.
وفي رحلته لم يخذل جمهوره حتى أتحفهم بديوانه
(الحزن والنجم) كان ذلك في سنة 1936، والأجمل ديوانه (اشتر أغنية الأعمى) الصادر
سنة 1938، وكلاهما سار في منحىً رومانسي من حيث المبنى والمعنى ففتح له أفقاً في
أوروبا التي عرفت أنها بإزاء شاعر يكتب للإنسان حتى تبلورت تجربته في ديوانه
الشهير (أغنية العبّارة)، خصوصاً قصيدته "أؤمن بالإنسان الوحيد"،
والوحيد هنا ليس إيكيلوف اليتيم إنما الإنسان الحر من أيَّة تابعيّة غير تابعيته
للإنسان فيه، لنقرأ من هذه القصيدة:
«أؤمن
بالإنسان الوحيد،
الذي يتجوَّل وحيداً.
كيف نبلغ التشارك؟
تجنب الطريق العلوي
والخارجي المتطرِّف؛
فعدم الانحياز
هو السبيل العملي الوحيد،
على مدار الوقت».