الفصل (٣١) من رواية «آتيلا آخر العشاق»، للروائي الكردي «سردار عبد الله»
"لم
أستطع البقاء أكثر من ذلك، فانطلقتُ بالبرق، حصان الحاج عزيز الأبيض، نصارع معاً،
الريح والمطر والطرق الطينية الوعرة. كانت رحلة عجيبة بكلّ المقاييس، لم يتوقف
المطر لحظة واحدة. عند العصر، بدا لي الوضع وكأنّي تهت، وفقدت الاتجاه للعودة.
فتوقفتُ في الطريق، وخصوصا أنّني أصبحت على مشارف الغرق مرّتين متتاليتين. كان
السيل من القوّة بحيث لفّ في موجه المجنون، الحصان، فوقعت عن ظهره. غرقتُ في تيه
لا أمّيز رأسي من قدمي، حين أخذت تتلاطمني الأمواج الهائجة للسيل، الذي جعله لونه
الطيني الأحمر، أكثر رعباً... وما زاد في رعبه، هو أنني كنتُ سأموت بعيداً عن
فاطمة التي كانت قد أخذت هي الروح، وأنا لكي أقارع الموت وأهزّه عليّ أن أعود
إليها، أن أمثل بين يديها المباركتين، فهي صاحبة القدر والروح، وهي من تملك إبقاءہ
أو إخراجه من الجسد المتعب هذا. في غمرة احتضاني للموت المُحمرّ بدم الأرض المختلط
بسيل بكاء السماء، تخيّلتني أغرق مع فاطمة، فتلبّستني حالة العاشق، الذي تمنيتُ أن
أكون مكانه فأغرق مع الحبيبة، والذي يذكره الهدهد: «ما إن وقع أحد المعشوقين قضاءً
وقدراً في الماء، حتّى أسرع عاشقه وألقى بنفسه في الماء، وعندما اقترب كلّ منهما من
الآخر، سأل المعشوق العاشق قائلاً: أيّها الجاهل إن كنت سقطت أنا في هذا الماء
الجاري، فلمَ ألقيت بنفسك في لجّته؟ فقال: لقد ألقيت بنفسي في الماء، لأنّني لم
أعرف نفسي من نفسك، فقد مضى وقت بلا ريب حتّى أصبحت أنا أنت وأنت أنا، وأصبحنا
واحداً، فهل أنت أنا، أم أنا أنت؟ وإلامَ كانت الثنائية؟ فإما أنني أنت، أو أنك
أنا؟ أو أنك أنت أنت، وعندما تكون أنت أنا، وأنا أنت على الدوام، يكون جسدانا
واحداً والسلام. وإن كانت الثنائية بيننا، فالشرك قد أصابك، وإذا امّحت عنّا
الثنائية، فالتوحيد قد أدركك».
وأخيراً...
بعد تلاطم مع الأمواج، وجدت نفسي وقد جرّني البرق إلى الطرف الآخر، مُنقذاً إيّاي
من الغرق، ومتحدياً السيل في قوّة جريانه، وطغيان أمواجه المتلوّنة، بحمرةٍ كأنّها
الدم. كانت المرة الثانية أصعب بكثير، حيث جرفنا السيل معاً. ولم يكن لي سوى
التمسّك مرّة أخرى، باللجام الذي كان يعني لي كلّ الحياة. وها نحن... أنا والبرق،
الذي أنقذني من الغرق قبل قليل، نخوض معركتنا الثانية ضد السيل الأحمر المجنون.
وكان واضحاً أننا إمّا سنموت، أو سنتجاوز معاً غضبة السيل الأحمر، هذه المرة
أيضاً. ومن ثم سنكمل طريقنا باتجاه فاطمة، معاً أيضاً. رأيتُ فاطمة وهي تلطم على
جثتي المصطبغة بحمرة السيل الغاضب، الذي يكسوني ببقايا الطمي الأحمر، الذي غطّى
كلّ مكان في جسدي.. ثمّ شعرتُ بضربة قويّة على ظهري، وتمكنتُ بصعوبة شديدة من فتح
عيني، فإذا بي على اليابسة، مستلقياً على ظهري، تهاجم الأمطار وجهي بشراسة. بينما
كان البرق يتقافز في مكانه بجانبي. كانت موجة قوية قد قذفتنا بقوّة، في تلك
المنطقة التي ضاق فيها ممرّ السيل، إلى أقصى درجاته. تمكنتُ من النهوض بصعوبة
شديدة. وكان السيل قد استقر بنا أمام تلة صخرية مهيبة. كان هناك في التّل الصخري
الكبير، مكان لا يطاله المطر، وكأن الزيادة التي خرجت من قمّته، قد حوّلته إلى
مظلة تقي التجويف الذي يقع تحت سقفه، من الأمطار الغزيرة. فربطتُ البرق هناك، ثم
أخذتُ أبحث عن مكان مستوٍ أؤدّي عليه صلاة العصر. فجأة! وقعت عيناي على صخرة
رمادية كبيرة مستوية السطح، تبعد عدّة أمتار عن مكاني، لكن الأمطار كانت تغسلها
بسرعة جنونية، وكانت الرعود تملأ المكان بأكمله. ذهبتُ إلى هناك حيث الصخرة وجنون
المطر، ووقفتُ أحاول أن أجد القبلة للتوجّه إليها، بغرض أداء الصلاة. لكنّي لم
أفلح. عندها توجهتُ باتجاه النتوء الذي كان في أقصى طرف الصخرة المسطحة الكبيرة،
والذي كان يشبه مقدمة سفينة..
–
ربّي إنّي نويت لك الصلاة، وها أنا أتخلى عن اليابسة، وأتوجّه إلى وجهك الكريم،
صادقاً مخلصاً. أنا أعلم بأنك في كلّ مكان، لذا اخترت هذه الصخرة، لكي أقف عليها
خاشعاً، أتطهّر تحت رحمتك.. فلتغسل هذه الأمطار كلّ ذنوبي وخطاياي، أو فلتضربني إحدى
هذه البروق، وتحرقني حيث أنا، وتحيلني رماداً، يذوب ويندمج في لون الصخرة الرمادية
العنيدة، أو لتحمل هذه الامطار والسيول الهائجة رمادي ذاك إلى حيث تشاء.. إلهي،
أنت أعلم بما في روحي، فأنت الذي فتحت أبواب روحي المغلقة، بوجه حبّك الذي تجلى في
عشقي الجنوني لفاطمة. إلهي، إنّني أتضرّع إليك أن تقبل صلاتي التائهة الخالصة هذه.
فأنت قبلتي أينما حوّلت وجهي. أنت الذي أرشدتني إلى القبلة من خلال هذا النتوء
الصخري. وها أنا أرحل إلى ملكوتك، مبحراً بهذه السفينة، وسط كلّ هذه الأمواج
والعواصف والبروق والرعود، التي يبدو أنّها عازمة على إحراق العالم هذا المساء.
فلا تؤاخذني لأنّي ضيّعتُ قبلتي، تحت سماء تحتلها غيوم رمادية، أقرب إلى السواد،
ويبدو أنّها من شدّة كثافتها وكثرتها، لن تنجلي مرّة أخرى. إنني أتوجّه إليك في
قلبي وروحي، فقبلتك هي الروح والقلب.. حيث لا تطاله الشياطين. إني نويتُ لك صلاة
العصر... بسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، ...
كنت أشعر بكلّ قطرة مطر، تضرب رأسي وظهري وقدمي، وأنا خاشع في حالة السجود، التي
كانت تطول بفعل حالة الخدر الأقرب إلى الثمالة، التي كانت تحتلني أكثر فأكثر، مع
كلّ قطرة مطر، فتطيل سجودي... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته... أنهيتُ صلاتي، ورفعت وجهي ويديَّ المفتوحتين بمستوى صدري،
وأنا أتضرّع إلى الله بدعواتي التي دهمتني خلالها موجة بكاء غريبة.. فاختلطت دموعي
بقطرات المطر التي كانت تضرب وجهي بجنون، وتغدو بطعم جديد. مزيج من طعم الدموع
والأمطار.. مزيج من دموعي، ودموع السماء؛ دموعي على سفينتي الحجرية المتجهة بعزلة
رهيبة إلى الله، ودموع الله من علياء ملكوته. فأحال الطعمين معاً، إلى مزيج من
روحي المندمجة بروح الله، الذي تلبّسني في تلك اللحظة، وأنا أرى كفّي المتلاصقتين،
تمتلئان بماء المطر، فأشربه بنهم، كتائه لم يذق طعم الماء منذ دهر.
شعرتُ
بنشوة كبيرة، لم أشعر بها من قبل أبداً. فركبتُ البرق، الذي كان لونه الأبيض قد
تحول إلى أحمر مُمزّق. ووجدت جسدي نظيفاً، مسحت الأمطار كلّ الطين العالق فيه.
شعرتُ
بحالة طُهر ونقاء غريبة. أحسستُ نفسي وكأنّي ذلك الطفل الذي وُلد وسجلّه خالٍ
تماماً من كلّ أنواع الذنوب. انطلقت بالبرق، حتّى من دون أن أعرف الاتّجاه الذي
عليّ أن أسلكه. دهمني شعور غريب، وثقة وإيمان مطلقان، بأنّني على الطريق والاتجاه
الصحيح نحو بيتي، في تلك القرية التي تنتظرني فيها تلك الملاك الطاهرة. كنت أسابق
الريح والزمن، والمطر الذي غسلنا نحن الاثنين من جديد. لم أشعر بالوقت وأنا أطير
على ظهر البرق، الذي كان يلتهم الأرض تحت حوافره بقوّة ونهم عجيبين. كنت طائراً
صوب فاطمة التي كانت تلوّح لي من بعيد، وهي فاتحة ذراعيها، وقد تحوّل المطر إلى
طرحة شفافة تكسوها بالكامل. فأخطفها عن الأرض، وأطير بها بعيداً، إلى ما وراء
المطر والسحاب".