-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

«كورونا» التحدي الأخطر للفكر



محمد ناصر المولهي (تونس)


“الكورونا” الفايروس المستجد الذي ولد في الصين وانتشر كالنار في الهشيم إلى عشرات الدول من آسيا إلى أوروبا إلى أفريقيا إلى أميركا، مازال يشق طريقه، مخلفا تغييرات جذرية، لا فيما هو ملاحظ فقط، بل تغييرات اجتماعية وفكرية وثقافية عميقة.

ليس الكورونا مجرد فايروس، يمكن مجابهته طبيا وعلميا، بل تحول إلى مفهوم جديد عن الإنسان المعاصر، الإنسان الأكثر فردانية، والمفرغ من بعده الأخلاقي والعاطفي، الإنسان المركزي الذي يملك العالم في هاتفه الذكي، الشخص الذي يدور كل العالم من حوله ويوهم نفسه بأنه السيد على عرش نفسه، فيما لا يقبل من يختلف عنه.

هدم الأخلاق:
إنها لمفارقة أن تلغي الفلسفة وهم الإنسان بأنه مركز الكون، ليعيد التطور العلمي نفس الوهم وبدرجة أخطر إلى الذوات التي تبني عالمها الافتراضي وتغرق فيه.

بالعودة إلى قضية الكورونا أشار الكاتب المغربي حسن الوزاني في مقال سابق في “العرب” إلى أن هذا الفايروس خلق نمطا اجتماعيا جديدا في الصين مثلا، حيث ازداد الإقبال على تنزيل الكتب الإلكترونية، كما ارتفعت نسبة الإقبال على التطبيقات الترفيهية مثل ألعاب الفيديو بشكل كبير.

إذن الفايروس ليس فقط حالة طبية، وليس مجرد وباء تحول إلى جائحة ترعب الناس، وتذكرهم بوباء الطاعون الذي عانت منه أوروبا وبالحمى الإسبانية التي قتلت ملايين البشر، وغيرها من الجوائح، إذن الفايروس الجديد ليس أكثر خطرا ممن سبقوه، لكن الخطير هو ولادته في عالم أشبه بالقرية، عالم متغير عما كان، عالم يحكمه نظام تواصل متشعب وتقنيات تكنولوجية مرتبطة بكل أجزاء الحياة من الكرت البنكي إلى الهاتف الذكي، وهذا ما جعل التأثيرات كبيرة، وخاصة في تغيير أفكار الناس وبنية مجتمعات.

من أول من تصدوا إلى مقاربة فايروس الكورونا فكريا كان الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني في مقال له بعنوان “الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة”، حيث ينزل الفايروس الجديد تاريخيا بداية بشرحه أن المرض اختراع أخلاقي خاص “بنا” كبشر، وصولا إلى أن فايروس الكورونا الجديد نزع هذه الأخلاقية.

يقول المسكيني إن “الجسد يبدو بمثابة مجموعة لا متناهية من الأمكنة التي تجمّعت دون سبب واضح في موضع واحد. وكوّنت ‘فردا‘. ولذلك، فإنّ خطورة المرض وطرافته الحادة، إنّما تكمن في كونه شروعاً أخرس في هدم المكان، ومن ثمّ في تعطيل فكرة ‘الفرد‘ من الداخل”.

وفعلا ربما يعطل الفايروس المستجد فكرة الفرد ككيان أخلاقي، ويحوله إلى رقم، أو حالة حيوانية يبقى مشكوكا في أنها حاملة للعدوى، وتؤكد ذلك الإجراءات المتخذة مثلا في المطارات حيث يتعامل مع الناس على أنهم أجسام مشكوك في حملها للفايروس، لا يهم اسمك أو لون عينيك أو بشرتك أو حتى لغتك وابتسامتك ورائحتك، لا تهم أفكارك أو حتى حدود جسدك التي تنتهكها أجهزة قيس الحرارة وغيرها، دون مراعاة لأدنى عامل أخلاقي.

من حق كل الدول حماية نفسها من خطر الفايروس، لكن ألا يمكن خلق منظومة حمائية لا تمس من جوهر الفرد، لا تلغيه، ولا تتعدى على خصوصياته، وتعامله بشكل أخلاقي على الأقل؟

قرأت مثلا في اليمن عبارة تقول “القبض على مشتبه بإصابته بالكورونا”، الخبر بمعزل عن صحته من عدمها، يكفي أن نتأمل عنوانه، “القبض” كأنه مجرم أو كائن عدو، إنه السقوط الأخلاقي الكبير.

المفارقات التي ولدت مع العدو الجديد كثيرة، لكنه فعلا نجح في زعزعة فكرة الفرد الأخلاقي، وجعلها نموذجا حيا متجسدا، كما كسر مفهوم المجتمع الحضاري المعاصر، وخلق نظما استهلاكية جديدة، والأخطر أنه خلق ثقافة جديدة، أو هو أعاد إحياء ثقافة مقبورة، هي ثقافة الخوف، الخوف من الآخر بشكل خاص، واستعادة النزعة الأنوية في درجتها الصفر في حدود الجسد المجرد.

والجديد أن هذا “العدو” نشأ اليوم في واقع وبيئة مختلفين عن تلك التي نشأ فيها “أجداده” من الفيروسات القاتلة، لقد نشأ في ظل تطور تكنولوجي مهيب، وتطور طبي كبير، ولكنه وجد بيئة فكرية وثقافية أكثر خصوبة، هي بيئة الفرد المركزي، هذا الفرد الذي ظهر في مواقع التواصل مثلا في صور سيلفي مع الكمامات، فرد آخر مختلف عن “أجداده”، فرد مفرغ تقريبا من الأخلاق القديمة المشتركة، فرد يمكن تحويل ملامحه بسهولة مثلما يفعل تطبيق الفوتوشوب. فالفيروس إذن يتعامل أكثر مع أفراد افتراضيين، ولا يمكننا ان نجزم إن كان هذا لصالح الإنسان أو ضده. فهذا مدعاة كبرى لتفكير أكثر دقة وشجاعة في الفرد ومآلاته وهو ما يكشفه مقال فلسفي آخر حول الفايروس كتبه الفيلسوف سلافوي جيجك.

معركة ثقافية:
طبيب ومريض وشمس:
قصة «صورة كورونا» التي هزت شبكات التواصل
من أهم المقاربات الفلسفية التي تناولت قضية الكورونا ما كتبه الفيلسوف والناقد السلوفيني سلافوي جيجك في مقال مميز بعنوان “كورونا: الفيروس الأيديولوجي”.

يبدأ جيجك بالتذكير بالسحابة البركانية التي انطلقت من آيسلندا ربيع سنة 2010، لتوقف حركة الملاحة الجوية في كامل أوروبا، يربط المفكر بين هذه الحادثة وبين الكورونا، معتبرا أنه “على الرغم من قدرة البشرية الهائلة على تغيير الطبيعة، فإن هذه البشرية ليست سوى نوع واحد من الكائنات الحية على كوكب الأرض”، ولكن المفارقة التي يطرحها هو أنه “كلما زاد التواصل في العالم اشتد الخوف أكثر”، إنه عالم الإنترنت الذي ارتبط فيه شرق الأرض بغربها، ملايين الناس يتواصلون اليوم من خلال الإنترنت، وهو ما جعل كما ذكرنا في بداية المقال، العالم كقرية، ولذا فما انتشر من ووهان الصينية ليس الفايروس فحسب، بل ما هو أخطر منه، إنه الخوف.

ويتفق تقريبا المسكيني مع جيجك في مسألة الخوف، حيث جاء في مقال المسكيني تفسير للخوف أن “أنفسنا خائفة بشكل ‘ما-بعد-حديث‘؛ أي الخوف من مساحة الوباء غير المرئية المختبئة في أجساد الآخرين التي تحوّلت فجأة إلى دوائر حيوانية تنفث عناصر العدوى”.

ويذهب جيجك إلى تحليل الفراغ الذي حل بمدن كثيرة، فرغت شوارعها وتعطلت كليا عن الحركة، معتبرا في ذلك نوعا من الجمالية فـ”المدن التي تبدو الآن مثل مدن الأشباح، والمتاجر ذات الأبواب المفتوحة ولا يوجد بها عملاء، أو مشاة أو سيارة هنا وهناك، والأفراد ذوو الأقنعة البيضاء – ألا يقدمون صورة لعالم غير مستهلك يريح نفسه؟”. كما يقر بأن الأقنعة البيضاء صارت فرصة للتخفي وخلق هويات مجهولة خالية من الضغوط الاجتماعية، بينما الحجر الصحي فرصة بدوره لمراجعات فكرية، يقول “على الأقل، سيستغلون وقتهم في الخمول للإفراج عن نشاط مكثف والتفكير، وليس الشعور بحالهم”.

مقال جيجك ينتهي برفض التمييز الذي استشرى مؤخرا، خاصة ضد الصينيين، حيث يوجه كلامه بشكل مباشر إليهم قائلا إنه “ليس هذا هو الوقت المناسب للشعور بالخجل، بل هو الوقت لحشد شجاعتهم والمثابرة بصبر في نضالهم”. الأشخاص الذين يجب أن يخجلوا كما يقول “هم في جميع أنحاء العالم، ممن يفكرون في عزل الصينيين”.

في إطلالة سريعة على ما يروج في مواقع التواصل، نجد الكثير من المثقفين والكتاب والمبدعين العرب يتحدثون بدورهم عن فايروس الكورونا الذي وصل إلى عدد من البلدان العربية، الكثير منهم انتهج السخرية، وهي سلاح هام، حتى وإن أنكره بعضهم، فالسخرية تبقى وسيلة دفاعية في غاية الأهمية.

هناك تحليلات كثيرة، منها خاصة ما يتعلق بـ“المؤامرة الكونية”، وأخرى تقارب المسألة من باب اقتصادي أو سياسي، تنوعت آراء المثقفين، منهم حتى من سخر من الثقافة نفسها، معتبرا أنه يمكن مقاومة الفايروس بالرقص. في إشارة إلى ما راج في السنوات الأخيرة حول مقاومة الإرهاب بالثقافة والفن. وهذا من باب الجهل، حيث الثقافة والفكر هما باب الدفاع الأول في مواجهة الجوائح.

لا يمكن مواجهة جائحة بحجم الفايروس المستجد من دون ثقافة، الثقافة هي الباب الأول الذي من خلاله يمكن التصدي للآثار النفسية والاجتماعية التي هي أكثر عمقا وخطورة من الآثار الطبية.

وربما كسب الفايروس الجديد في جولة أولى من “المعركة” الثقافية التي يخوضها، حيث تسبب في إلغاء تظاهرات ثقافية في شتى أنحاء العالم، مثل معرض لندن أو مهرجان البحر الأحمر للسينما بالسعودية، وإمكانية إلغاء معرض أبوظبي، لكن هذا الجندي المجهول وغير المرئي، سيفشل في النزال الطويل وبتكاتف المثقفين والفنانين، وبمواجهة جماعية مسؤولة وواعية، والأهم من هذا كله تحترم الفرد وتصون حرمته الفكرية والجسدية.

عن صحيفة العرب

تعديل المشاركة Reactions:
«كورونا» التحدي الأخطر للفكر

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة