أحمد مصطفى – ألمانيا
قف
هنا للحظة واسمع قصتي، قفوا يا من تعرفون اسمي ولا تعرفونني، هذا أنا ماضيكم
الغابر، الماضي المنسي في شذرات الخيال، الماضي الذي يحمل كل تلك الأقدار المندلقة
من غفوة الزمن.
كانت
تلك الليلة المشؤومة، حين كانت النيران تطفأ في كل الدور الحجرية القديمة ذات
الأبواب نصف الدائرية، إنها بيوت الرشوان التي تطل من بعيد وهي تطوف بخيمة فارتان
باشا؛ الذي لم يكن باشا في حينه، لكن سوء طالع غير كل التاريخ، حين وقعت عيناي في
غفلة على آخجيك، وهي تنزل التلة الميتانية القديمة متجهة إلى نبع جه تل.
لم
أكن أعلم أن وهج شمس الربيع أضفى عليها ذاك السحر الإلهي، أما إنها بالفعل كانت
كذلك؟
لم
أشعر إلا وأنا ملقى في فراشي وأخي الصغير بركل وأختي الصغيرة شهرييان يبكياني.
يبدو
إنني قد مت وعدت إلى الحياة.
هذا
ما قالوا لي لاحقاً، لكني أصبحت ثقيلاً حتى لم أتمكن من أداء واجباتي ولا صلواتي،
كل ما كان يتراءى لي هو ذاك الوجه الملائكي، إنها ابنة صاحب الخمارة (الحسناء
آخجيك).
بدأ
الكل ينبذني وأنا أتردد إلى خمارة الأرمن متنكرا، لعل آخجيك تسكب لي كأسا من الخمر
المارديني المعتق، رغم إنني لم أكن أطيق الشراب، إلا إنني كنت أكرر طلب الخمر حتى
تقترب مني وتلامس أنفاسها الندية أنفاسي التائهة؛ فأسكر فيحملونني ويلقون بي خارجا
حتى يعود أخي بركل رش ويحملني إلى البيت.
الطعنة
الموجعة هي تلك التي جاءت في غير أوانها حيث رحلة عائلة فارتان دون سابق إنذار،
وعادت حرقة آخجيك تذوبني مثل الشمع من جديد.
كان
أبي من كبار الصوفية وقد اجتمع حوله الكثير من المريدين، ومع هذا لم تستطع كل
كراماته الخارقة أن تخفف من وهج العشق الرباني في وجداني.
لم
يكن لي بدا من حيلة كي انعتق من ريف رشوان كي أخطو درب قدري الذي اختارني، قلت لأبي:
سأنطلق لنشر الطريقة المضيئة في أرمنستان، فوافق الشيخ الجليل على مضض لكنه أصر أن
يرسل معي أربعمائة من المريدين.
كان
موكبنا مهيباً وحيث كنا نحل كان يلوذ بنا الناس طالبين الدعاء والغفران، وكما
اتفقت مع المريدين أن يقولوا بأنني قادم من صنعاء منبع العلوم الروحانية، وكانت
سمرتي وسمرة أخي بركل لا تدعان مجالا للشك في هذا النسب المزعوم.
كلما
كانت قصتي تنتشر كشيخ صنعاني جليل كانت مسافة اللقاء بآخجيك تزداد بعدا.
كلما
كنت أرتقي في الطريقة المضيئة كان فارتان يرتقي في السلطة والقسوة، حتى أصبح يعرف
بفارتان باشا في منطقة زوزان كلها، وكلما علت مراتبه ازدادت غطرسته، حتى إنه أصبح
وحشا آدميا، فحين التقيته، كان بلغ ذروته وأصر على إذلالي وطبق بحقي أبشع الأساليب
المنفرة التي لا تطاق، ولكن لقاءاتي العابرة بآخجيك خففت من وطأة الشقاء و الغربة.
كانت
على الدوام تقول إن هناك خطأ ما وإنني لا أبدو كشيخ صنعاني، وكنت أنشد: أيتها
الساقية الحبيبة إن كان هناك ثمة غلط في قصتي كشيخ صنعاني، لكن مجيئي إلى أرمنستان
لم يكن غلطا، فإن نار الحب دفعني إلى هذا الضياع.
كلما
كنت أزداد ضياعاً وعشقاً كلما كانت آخجيك تلين، إلى حد إنها قبلت بي زوجاً متحدية
الموت.
لكن
المهر كان غالياً إلى حد الهلاك، حيث علي أن أرعى خنازيرهم الكثيرة، بل الأسوأ إن
الباشا طلب مني أن أعود بتلك الخنازير إلى ربوع رشوان، حتى يزيد من إهانة أبي.
إنه
صراع الدين والسلطة مذ خلق الله هذه البسيطة.
انفض
من حولي كل المريدين، ومات أبي وهو غير راض عني، وتغيرت معالم التاريخي
والجغرافيا، حتى أن اسم هذا القسم من سروج صار يعرف باسم (Beriya
Berazan)،
وبقيت تلك التلة التي كنت أنزوي فيها عن الناس وأعود إلى محنتي هي الوحيدة التي
تدل على هويتي الحقيقية (مشته نور) كل تلك المحن لم تلن من عزيمتي حتى إن الفرمان
السلجوقي الذي أفتى بهدر دم كل من مشتتة النور وقره بركل الذي بات يعرف بهذا
الاسم، فأرسل السلطان السلجوقي أحد قادته لمطاردتنا وهو (العيس بوزان).
الذي
قضى على كل تاريخنا فسبيت أختي الجميلة شهرييان، كخليلة لعيس بوزان، واقتادوها إلى
معسكره القابع على نبع رشوان الجنوبي، لكن أختي شهرييان انتحرت ودفنت في إحدى
القرى البعيدة، وقطعوا رأس أخي بركل رش الذي أصبح يعرف عندهم بقره بركل، كانت
وصيته الوحيدة أن يدفن في أعلى تلة موجودة حتى لا ينسى الناس قصته.
وكنت
أنا آخر ضحية من ضحايا هذا الحب الإلهي، الذي أودى بتاريخنا عن بكرة أبيه. أما عيس
بوزان فقد اختلفت القصص حوله؛ البعض قال إنه جن، وآخرون قالوا إنه تنسك وبقي إلى
آخر حياته يقاسي ثمن ما اقترفته يداه.
كل
شي تغير الأسماء والأماكن والبشر، الشيء الوحيد الذي بقي منا هو ذاك الحب الذي خلد
مع آخجيك على ألسنة الشعراء والمريدين.
مشته
نور شيخ صنعاني، وبركل رش قره بركل، وشهرييان شارباني، وبوزان عين عيسى.
هؤلاء
نحن وهذه هي قصتنا التي رويت ليست كما عشناها.
حين
تهبط من هذه التلة وترى الناس ما زالوا كما كانوا فأروي قصتي كما هي في الحقيقة،
وإن رأيتهم كما هم أرويها كما هي، فلا أريد أن أضفي على تيههم تيهاً.