-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

حين أضحى النص كائناً «ابستيمولوجياً» من خلال قصص لمصطفى تاج الدين الموسى



بوزيان موساوي (المغرب) / خاص سبا


حتى نتمكن من ملامسة بعض أغوار تجربة المبدع السوري «مصطفى تاج الدين الموسي» في الكتابة الدرامية القصصية، كان من الضروري أن نسوق هذا التمهيد:
لما نقرأ اليوم تحف الأدب العالمي، الغربي منه بالخصوص، يساعدنا التاريخ على التموقع، نشأت العبثية والسريالية بعد الحربين العالميتين، ثم تلتها الوجودية السارترية كَرد فعل ضد تحكم وديكتاتورية القطبين العملاقين أيام الحرب الباردة، وتبعثرت حساباتنا مع هيمنة النظام العالمي الجديد، والليبرالية المتوحشة، والعولمة... حتى أصبحنا لا نتحكم حتى في خيالنا.

ولما نقرأ أدب «العالم الثالث»، ومنه الأدب العربي، يستعصى علينا تحديد المفاهيم، هو عالم لم يعش صيرورة تاريخية طبيعية حتمية، كل محطة زمنية فيه عاشت قطيعة ابستيمولوجية مع ما سبقها ومع ما تلاها، وكأن الخراب يلازمها:
كتب مصطفى تاج الدين الموسى: «(...) في غرفته انتشر ثلاثة منهم، اثنان شرعا بتخريب المكتبة التي تحتوي رفوفها على المئات من الأفلام السينمائية، وآلاف الكتب، وذلك برميها أرضاً بحقد...»، القصة 13 «حدث ذات مداهمة»، من مجموعته القصصية «مزهرية من مجزرة» – 2014م.

وحتى نقرب القارئ أكثر من تمظهرات أدبية أفرزها هذا الواقع، اخترنا مساءلة مجموعة من الثوابت في الإبداع الدرامي القصصي، انطلاقاً من نصوص الكاتب السوري الحداثي مصطفى تاج الدين الموسى.

وهذه العناصر الثابتة/ المتحولة هي: الزمان، والمكان، والشخوص، والحدث.
أولاً - الزمان:
يوجد لدينا الزمن المرتبط بمعاملاتنا اليومية والمحدّد باليوم والساعة والدقيقة، وهو كرونولوجي «محسوس»، مثل: (صباح اليوم)، من  قصة «الخوف من منصف حقل واسع» من مجموعته التي تحمل نفس العنوان عام 2015م، و (بعد يومين)، من قصة «في لوحة تشكيلية».
أما تقنية النظام الزمني في القصة، حسب النقد البنيوي، فتحيلنا على البحث عن سمات التمايز بين أزمنة ثلاث:

·       زمن الكتابة:
هو انفعالي بامتياز؛ لأن الكاتب يعيش ويعايش الأحداث في زمكان بؤرة توتر مستمر، واقع سوريا المفجوع هنا/ الآن، وعلى تداعيات هذا الزمن، كتب بصوت سارده بامتعاض: «خلال بضع سنوات من الفراغ، وخوفاً من الملل... تسلى بأن كتب قصصاً كثيرة بأحجام متنوعة. أنفق عليها كل ما جناه من أحلام وأمنيات... من حزن وحب... من فرح وضجر وخيبات... من سجائر وفناجين قهوة ونشرات أخبار...»، من قصة «القصص الخالدة».

·       زمن السرد:
فهو رغم واقعيته الظاهرة، ينتمي كالقصة ذاتها لعالم متخيل، أو لعالم مواز ومشابه للواقع المعيش، نقرأ: «في الليل، وعلى جناح العتمة، ثمة أطياف طلعت من الأبنية المهدمة... اقتربت من جثة الفراشة وحملتها بهدوء، لتشيعها بصمت مرير إلى أقرب مجموعة قصصية... حيث دفنتها في قصة قصيرة»، من قصة «تشييع».

·       زمن الحكاية:
كتب أحد النقاد: «يمكن تحويل أي صيغة فعلية إلى صيغة حكاية أو رواية في الزمن الماضي مع بقاء الصيغة الفعلية محافظة على زمنها الأصلي في إطار القصة أو الرواية»، وتتجلى ظاهرة المفارقة/ التزامن ببوح مسكوت عنه عند مصطفى تاج الدين الموسى في فقرة من قصته «الخوف في منتصف حقل واسع»: «عجوز يجلس أمام باب البناء، أخبرني أن أغلب سكان هذا الحي قتلوا أو هاجروا في الحرب التي حدثت هنا منذ عقود، لم أهتم لكلامه... المهم أنني أصبحت يعيداً عن كل البشر الذين أعرفهم. بعد الآن لن يزعجني أحد منهم، لهذا يجب أن أكتب هنا كل قصصي». المفارقة واضحة: هو نفي التزامن بين زمن السرد وزمن الحكاية عند مصطفى، لا يعدو أن يكون سوى البحث عن تلك المسافة الممكنة بين زمن الحدث وزمن السرد أو الكتابة؛ لأنه ليس ناقلاً لأخبار كما الصحفي، بل صانع إبداع وجمال.

هو الزمن الداخلي عند القاص مصطفى، فهنالك لحظات مشرقة تساوي سنوات من العدم، هو «الزمن الوجودي»؛ نقرأ: «حاولت أن تحصي في سرها عدد الليالي التي استيقظت فيها لترى ما قد حدث بشكل غامض، لكنها فشلت... ثم تذكرت أنها إذا أحصت عدد أثواب نومها الممزقة والمرمية في زاوية خزانتها فسوف تعرف عدد الليالي المخيفة التي مرت عليها منذ بداية هذه الحالة الغامضة...»، من قصة «أزمنة أنثوية حادة».

يعبر الكاتب/ السارد عن هذا الغموض في تحديد ماهية الزمن عند الإنسان أو من/ ما يشخصه في الخرافة/ القصة، لما يجعلنا نقرأ: «تلك الساعة القديمة جداً، المعلقة على هذا الجدار، أرهقها هذيان عقاربها (...) تلك الساعة... أمعنت نظرها جيداً، في ما تبقى من وجوه القتلى، أمعنت كثيراً... أمعنت طويلاً... علها تعرف وقتها»، من قصة «تلك الساعة».

وكذلك رأى «آلان روب غرييه» أن: «الزمن أصبح، منذ أعمال بروست وكافكا، هو الشخصية الرئيسة في الرواية المعاصرة (والقصة كذلك، إضافتي) بفضل استعمال العودة إلى الماضي، وقطع التسلسل الزمني، وباقي التقنيات الزمنية التي كان لها مكانة مرموقة في تكوين السرد».

لكن أهم ما قد يفيدنا في المبحث الثاني من هذا المقال المخصص لدلالات الفضاء/ المكان ورمزيته وتصوره ابستيمولوجياً، هو ذوبان الزمن في المكان، فانطلاقاً من خلاصات أينشتاين، تتأكد لنا فرضية: «إن الأزمنة مصطلحات لأوضاعٍ مختلفة في المكان».

ثانياً - مصطلحاتٌ لأوضاعٍ مختلفة في المكان:
كيف يمكن إذاً أن تكون دالات الزمن مجرد «مصطلحات لأوضاع مختلفة في المكان» في قصص مصطفى تاج الدين؟
مسح طوبوغرافي أولي وانطباعي – بالعين المتمعنة في قصص ومسرحية كاتبنا – يحيلنا على أمكنة تشبه في الظاهر فضاءات عادية ومألوفة: المدينة (أو المدن)، المقهى، الصالة، القطار، الطرقات، من وراء النافذة، السرير، معرض اللوحات، خشبة المسرح... لكن، وكما كتب الدكتور عبد الجبار الآلوسي:
«ليسَت الحقيقة التي تحيطُ بنا، هي ما نراهُ بأعينِنا من إنسان وكائن حيّ وجماد، بل هي إلى جانب ذلك كلّ ما يضيفه الخطاب اللغوي من قيمة إخبارية عن هذه الكائنات والأشياء...».

والمكان كائن حي في قصص مصطفى تاج الدين الموسى، لكنه يكون أحياناً مؤثثاً برداءة من صنع البشر: غير مكترث بما يحدث من حوله: «بينما أنا أشرب، وأشرب من النبيذ، وأدخن بصمت غير مكترث للكلام عن يميني، أو للألحان عن يساري»، من قصة «الجريمة الأولى والأخيرة»، من مجموعته «آخر الأصدقاء لامرأة جميلة» – 2017م.

ومن الفضاءات الرئيسة التي تحتل الصدارة في الكثير من قصص كاتبنا، ذاك الحيز الذي يتموقع فيه السارد وراء النافذة، ويحيلنا تموقع السارد من وراء النافذة في النقد الأدبي على نظرية «التبئير»، وتعني بإيجاز ركن/ الزاوية التي ينظر من خلاله  السارد للأشخاص، وللأشياء، وللفضاءات، وللأحداث: هي وجهة نظر السارد/ الكاتب يختلط فيها الواقع بالخيال، بالتمثلات، بالحقيقة، بالعبث، بالقبح، بالجمال.

فتراه (السارد) يلتزم بالتبئير الداخلي؛ لما يكون طرفاً يحكي من داخل الحدث، فيستعمل الضمير المتكلم (الأنا): «صباح اليوم انتقلت إلى منزل قديم في الطابق الثاني من بناء شاحب في حي بعيد شبه مهجور شمال المدينة»، من قصة «الخوف في منتصف حقل واسع»، من المجموعة القصصية التي تحمل نفس العنوان.

وتراه في أكثر من قصة يلتزم بالتبئير الخارجي، فيستعين بشخصيات أخرى شاهدة على الحدث: «قال أحدهم لأصدقائه: ذاك الغريب هرب من بلاده إلى هنا بعد نصف ساعة من قيام انقلاب فيها...»، من قصة «أكثر المساءات سعادة... في حياة النادلة الشابة»، من مجموعته «قبو رطب لثلاثة رسامين». أو بشخصيات على خشبة مسرح تبدي وجهة نظرها في مواضيع مهمة بشكل عبثي شبه هزلي:

«ناديا: ما أبشع أن تبدأ حرية المرأة بتأمل رجل غامض في لوحة» (المشهد الأول من مسرحية «صديقة النافذة» – 2017م).
وتراه كذلك في أكثر من قصة، أو في أغلبها يلتزم بتيئير درجة الصفر، كما الحال في قصصه «في أثناء الأخبار العاجلة»، و «اجتماعات حزبية خطيرة»، و «التمثال» من مجموعته القصصية «نصف ساعة احتضار» – 2016م، حيث يستعمل السارد ضمير المتكلم (الهو)، أو (الهي)، ولا يتدخل في الأحداث إلا من خلال أساليب الانزياح التي تخفي وجهة نظر (الأنا). (أنا) الكاتب مصطفى تاج الدين الموسى، كأن يجد لنفسه (السارد/ الكاتب) مكاناً في مجرد لوحة فنان:
«في عام 1864م ثمة رسام مخمور ومشهور (...) رسمني في غرفته الضيقة خلال أيام على قماش في لوحة تشكيلية كبيرة (...). لم أكن أعرف أن المسافة بعيدة كل هذا البعد بين لوحتي و أرضكم»، من قصة «في لوحة تشكيلية».

والعلاقة بين المكونين  (الزمن والمكان) كيميائية/ فزيائية في نفس الوقت:
هو زمكان الأحداث عند مصطفى تاج الدين، واقع جاثم على أفئدة شخصيات من البشر وغير البشر، لا ذنب لها سوى أنها ولدت في المكان الذي هو منها ولها، وفي الزمن الخطأ.

ثالثاً - نوعية وكنه وأبعاد الحدث/ الأحداث المبررة للسرد والمسرود:
في قصص كاتبنا، نتوه بين ما هو حدث قصصي/ درامي من صنع الخيال واللغة، والحدث الواقعي، وهي الظاهرة نفسها التي يطلق عليها النقاد:  ـ موازنة الاحتمال ـ
الحدث ـ كما يتكرر كل يوم في الواقع المعيشي المفروض بكل مآسيه ـ  لم يعد في حد ذاته حدثاً قصصياً بامتياز؛ لأن الترتيب المنطقي للأحداث يضفي عليها روحاً من الرتابة بسبب واقعيتها الشاذة، والتذوق لأي جميل لا يتم إلا بإيقاظ ملكة التخيل والإدهاش وروح المتابعة والترقب، يخلقها جميعاً عنصر خلخلة الترتيب المنطقي لجريان الأحداث، بل أصبح في المجموعات القصصية  لمصطفى حافزاً للهروب والنفور والتظاهر بعدم الاكتراث واللامبالاة: «دخلت المقهى المتواضع في حارتنا، متأبطا جريدة، لوحت على عجل للرجال (...) لا شيء يغري في الجرائد سوى الكلمات المتقاطعة»، من قصة «قائمة الوفيات»، من مجموعته «الخوف في منتصف حقل واسع».

وحتى تكتمل الصورة أكثر وبشكل أدق للسرديات الدرامية القصصية لدى القارئ العربي، قام المبدع القاص السوري مصطفى تاج الدين بتأليف مجموعة قصصية ضخمة تحت عنوان «ساعدونا على التخلّص من الشعراء»، صدرت عن دار «نون 4» للنشر والتوزيع والطباعة في تركيا – 2019م، بلغت عدد صفحاتها (439) صفحة.


يتبع في الجزء الثاني...
تعديل المشاركة Reactions:
حين أضحى النص كائناً «ابستيمولوجياً» من خلال قصص لمصطفى تاج الدين الموسى

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة