-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

كوباني: أنت واضحة وغامضة! تشبهين قمح الوطن وخبزه وتبغه!



حسين محمد علي / خاص سبا


تتداخل الصور لدرجة الازدحام في شغف طفولي ممتع حين أعود بالذاكرة إلى تلك السنين، هكذا هي الأزمنة الجميلة دائماً، زمن الطفولة والصبا جميل، هذا ما نتخيّله والإنسان يظلّ مشدوداً إلى البدايات، والبدايات في نظر الإنسان أجمل من اللاحقات، هكذا نحرص أن نقعد عند أمسنا بكثير من الحب والحنين.

ترى من أين أبدأ وأنا الغائص في تفاصيل الذاكرة حتى الاختناق؟! هل ستكون الكلمات قادرة على إعادة رسم ما مضى بالصورة والصوت والحركة واللون وأنا لا أملك إلا الحبر والورق الأبيض؟!

في الوضع الصحي ما أذكره أنّ أوّل طبيب اسمه «ذكار» لم يكن طبيباً بالمعنى الأكاديمي، قيل: كان ممرّضاً مع جيوش الحلفاء في الحرب الكونية الأولى، واكتسب خبرة عملية في معالجة الأمراض. عيادته كانت في بيت (محمد بديع)، مدخل الشارع إلى المركز الثقافي. أكثر الأمراض فتكاً كان السلّ«Merez» ، وأمراض العيون صيفاً والتيفوئيد والملاريا وبخاصة في منطقة الـ (دشت)، حيث المروج والماء الراكد والشجر، المكان المثالي للبعوض وغاراته في ليالي الصيف.

أمّا الطبيب الحقيقي بالمعنى العلمي فهو الدكتور) مظفّر العبّاسي) ابن دمشق، لقد أدمن العيش في كوباني وتماهى فيها، ترك دمشق وهو ابن نعمة وسليل عائلة عريقة، قدم إلى البلد عام1952 ، واتّخذ عيادته وسكنه في بيت ( علي باقي ( ؛ ليصبح قاموساً بأمراض المنطقة ، يعرف أمراض عوائلها، طبيب فطن مجتهد صاحب النكتة الشامية الناعمة ، وإذا أُثيرت أسئلة بلهاء لا يتورّع عن طرد المريض وحتى ضربه ... وقد عمل معه مساعداً وممرضاً ) حسين علّوش ( ، فاكتسب منه خبرة عريضة ، حتى بات في حكم الطبيب ، وكان (حسين علوش(  من الجرأة والدراية لدرجة أنه كان يتصدى لعمليات خطيرة في عيادة بيته مع الدكتور (مظفر). منها عمليات بتر أقدام وأشلاء المصابين بالألغام التركية اللعينة وفخاخ الموت المتربّصة بالناس حين يغامرون بعبور الحدود. لقد كنت وأقراني شهوداً على العديد من تلك العمليات الجريئة ، كنا نسترق البصر من ثقوب باب العيادة لرجل مسكين مسحوق القدم ممزّق ينزف وقطع اللحم تتدلّى .. تقطر دماً ، وشظايا العظام متناثرة ، تعمل المشارط والمقصّات وحتّى المناشر في تلك الأشلاء، والرجل مغلوب على أمره يصرخ ويتوعّد ، ويستغيث بالربّ والأنبياء والأولياء، كلّ ذلك يجري دون تخدير!

مظفّر العبّاسي تدين له كوباني بأكملها ، لقد كان ولا يزال محارباً عنيداً للآلام والأمراض، وقد بلغ من العمر عتيا . وقبل أن أختم سيرة ومسيرة هذا الرجل الحكيم لا بد أن أصف عيادته ؛ كانت بسيطة متواضعة ككل بيوت الناس، كان يرفض مظاهر الترف والأبهة، محبّاً للحيوانات، عيادته شبه حديقة للحيوان ؛ فيها الماعز والخراف وديك الحبش والدجاج والإوز ، يستمتع بمشاهدتها وقت فراغه ، كان يربّي كلباً رشيقاً اسمه ) فوكس ( . قال لي مرة في دردشة ودية : إنه مصاب بمرض سرطان النظر إلى السماء ، وهو يراقب أسراب الحمام تجوب فوق المنازل بكل شغف ومتابعة .

بالتزامن مع مظفّر كان طبيب عملاق هو (إبراهام قسيس) من أرمن قنيّة ، عيادته تقابل بيتنا شمالاً بأشجار السرو العتيقة ، بيته هذا من الأبنية القليلة المبنيّة من الحجر الجيري) الكلسي( ، هندسة كلسيّة مترفة، قيل لي : إنه كان مقرّاً للمستشار الفرنسي . هو خرّيج فرنسا وزوجته فرنسيّة ، وله ثلاثة أولاد بسيماء أوروبية، كنّا نلعب معهم مع بقيّة أولاد الأرمن ، يعيشون حياة مترفة من طعام وثياب وألعاب ، إبراهام الطبيب مثل مظفّر كان طويلاً أفرع دقيق الملامح أصلع قليل الاحتكاك بالوسط ؛ بسبب ضيق الوقت من زحمة المرضى ، ولربّما يعود ذلك إلى انطوائية نخبوية اكتسبها من دراسته في فرنسا ، أذكر أنه استقدم في وقت مبكّر جهاز التصوير بأشعة X   أو المرايا كما كنّا نسمّيه.  غادر كوباني أواخر الستينات ، وكانت عيادته في حلب مقابل كنيسة اللاتين يؤمُّها أهل البلد بعد ذلك بسنوات ؛ بسبب أخلاقه النبيلة وثقة الناس به.

هذا البيت أصبح بعد ذلك مقرّاً لإدارة حصر التبغ ) الريجي(  ، وقبل أيام وأثناء كتابة هذا السفر والأحداث التي جرت في سوريا عام 2011 وما بعد ، ارتفع فوقه العلم الكردي بألوانه الأخضر والأحمر والأصفر ، ولاحقاً أصبح بيتاً للشعب .

في البلدة كان هناك طبيب أسنان أرمني هو ( أرتين خريج جامعة عينتاب ، كانت عيادته تقع خلف قهوة علوش، تعلم على يده (كريكور)، وبعد أن سافر) أرتين ) إلى أمريكا تابع تلميذه (كريكور) مهمة علاج الأسنان ببراعة وحرفية متقنة، صنع القوالب ومارس الخلع وتلبيس الذهب.  في تلك الأيام لم تكن هناك صيدليات ، الأطباء هم من يصفون الدواء ، ويقدّمونه في عياداتهم ، وكان المريض يبقى مقيماً لدى أقاربه مع ما يعني ذلك من أعباء وعدوى ومشاهد مقزّزة ، المريض كان يذهب للطبيب يومياً لأخذ الجرعة إلى أنْ يشفى أو يأتي الله أمراً كان مفعولاً . وأول مَن فتح صيدلية صيدلانيٌّ من حلب هو) الشاذلي (. وكان ذلك في أواخر الستينات ؛ وهي صيدلية صغيرة في دكّان صغير ضمن حوش (حسين علوش) ، ثم تتالت الصيدليات . ومنها صيدلية (جميل بركات)، وكانت ملكيتها لـــ (مصطفى مجوز) صاحب صيدلية حلب في شارع القوتلي بحلب وصيدلية ( لوران ) وله صيدلية الوطن في حلب في حيّ السليمانية في زاوية الشارع الرئيسي.

وتكملة للملفّ الصحي للبلد كان ثمة نسوة يمارسنَ مهنة الطبّ وبخاصة طبّ العيون والكسور وعلاج أمراض الأطفال ، تارة بخلائط الأعشاب ، وحيناً بالسحر والشعوذة. ومن اللائي مارسن طبابة العيون السيدة ( فهيمة والدة الحاج عيسى ) ؛ وهي أرمنية بالأصل لكنها أسلمت.

و(رحيمة والدة شيخ موس (المشهور في البلد بدكان العطارة والبذور.  كانت المذكورتان تعالجان العيون بعقاقير كاوية مؤلمة بألوان فاقعة كالأحمر والأزرق والبرتقالي . وبالنسبة لنا كان اصطحابنا إلى أولئك محنة وعقوبة تستدعي منا الهرب أحياناً وإطلاق رشقات من المسبّات بسبب الآلام من تلك الأدوية.

 وللأمانة فإن أمراض العيون التي كانت تستشري في أواخر الصيف وبدايات الخريف قد تمّ القضاء عليها بفضل دواء البنسلين الفعّال من قبل الطبيب مظفّر ، وقد تخلّصنا من جحيم فهيمة ورحيمة وعقاقيرهما الكاوية . أما القابلات الولّادات ففي كل حارة ولاَدة ) بيرك Pîrk ) ، أشهرها كانت "فاطو غزالة"  ، وكانت امرأة عطوفاً خبيرة ذات أصول أرمنية ، ولكنها أسلمت ، وعُرفت بالتقوى والورع .

كلّ هؤلاء وغيرهم عاشوا فوق هذه الأرض ، تركوا بصماتهم وتواقيعهم لنا ، ذكرهم يثير فيَّ حنيناً موجعاً ، ففي كل غيمة أمطار طفولتي ! وفي كل مساحة تراب أثار أقدامي ! وفوق كل حجر توقيعي وتواقيع الذين أدوا أدوارهم فوق هذا المسرح ورحلوا إلى غير رجعة ! فآهٍ مما عرفتُ ومما تعرّفت عليه  !

تعديل المشاركة Reactions:
كوباني: أنت واضحة وغامضة! تشبهين قمح الوطن وخبزه وتبغه!

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة