-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

وطن بين صوت الرصاص، وأنين القلم



عبدو أحمد / خاص سبا


ذات مساء من مساءات كردستان الباردة، والغيوم تستعرض غضبها في وجه السماء، انهمرت سيول الأفكار في رأسه، بعضها تحرّضه على البقاء منطوياً على بياض الصفحات، وأخرى تحرّضه على الانتقال لساحات القتال، وأخيراً اتّخذ القرار.

ففي شتاء عام ٢٠١٥م قرّر «زانا» الالتحاق بالبيشمركة، وفي الربيع وجد نفسه في ساحات مخصّصة لتخريج رجال أقوياء، أما استراحاته فكان يمضيها بين أزهارٍ لوّنت وجه الربيع على حافة جبلٍ شامخ. مرّت شهور التدريب خالية من التفكير، فالتعب كان كفيلاً بإبعاد شبح الأفكار عن مخيّلته الفتية.

أتى الصيف بقيظه الذي يذيب الأجساد، حمل بارودته مع رفاقه إلى الجبهة، حيث حرارة المعارك أشدّ من حرارة الصيف، كان معه «متين»، الذي جمعهما التدريب، وصار من أعزّ الأصدقاء – متين هادئ مرح يضحك كثيراً ويطلق النِكات، أما زانا عبوس الوجه عصبيّ، لا يجيد المزاح، كان متين بشعره الأجعد أشقر الوجه، أما زانا أسود الشعر أسمر الوجه، حيث الصفة الوحيدة المشتركة بينهما أنهما طويلا القامة – وكان هذا كافياً كي يطلق متين مقولته: «نحن ضد العنصرية، أشقرُ وأسمرُ غامق»، يليها سيل من القهقهات يطلقها بخبث.

وبعد انقضاء ساعات السير الطويلة التي نالت منهم ومن مركبة النقل على الطرق التعِبة من الزمان والمكان، حانت لحظة الحقيقة وجهاً لوجه مع عدوٍّ يلتحفه السواد، لباسهم أسود وقلوبهم أشدّ سواداً، لا يفصل بينهم سوى سواتر ترابية كانت قد هُيّأت للاحتماء حين تشتدّ المعارك وينطق الرصاص.

في سهل نينوى، حيث حطّ الجنود رحالهم وجهزوا بنادقهم، ليس للوقت في قاموس الحرب مكان، بعض اللحظات تمرّ سريعة كالبرق حين يعلو صوت الرصاص، وبعضها يصيبها الشلل حين يهبط شبح الحنين على الجنود الساهرين تحت سماء الصيف الصافية الساكنة والتي لا يقطعها سوى قهقهة جنود ساهرين على حدود الوطن.

يرمون بقهقهاتهم في وجه الليل، فلا يلقون صدى لها وكأن جدار الليل قد امتصّ الصدى، كي لا توقظ الأشباح، يقول زانا مخاطباً نفسه بصوت عالٍ:
-         ماذا لو كان الوطن ضحكة طفلٍ، في الأمس سرقوا طبشوره؟
ماذا لو كان الوطن لحناً، لا يصدره سوى أناملٍ بريئة؟
ماذا لو كان الوطن ربيعاً، تسقي وروده سيول الأمطار لا الدماء؟
يردّ عليه متين:
-         ما بك يا ثرثار؟ لقد أيقظت الموتى بكلامك، ألا تكفّ عن الثرثرة؟!
-         آهٍ يا صاحبي!! ليتها كانت ثرثرة فحسب، إنما هي أسئلة تفرض نفسها على عاشقٍ اضطر أن يترك الكثير من أمانيه؛ ليلاحق حلماً، حلم لدى غيره جاهز مجهّز، له خريطة واسم، له بنادق تحرسه وجوازات سفرٍ تحمل اسمه، حلم في ربوعه نوادٍ للقراءة وأخرى للعهر والقمار...

(آهٍ من حلمنا...)، بالكاد نطق زانا آخر كلمةٍ، ثم غرق في غفوة طويلةٍ تشبه الموت، وكأن أنفاسه توقفت.
أما متين، فظلّ شاغلاً بقراءة كتابٍ لطالما تعوّدا على دفن الكتب في حقائبهم، لتكون ونيسة لهم في ليالي الحرب الطويلة الحارة.

مرّت ليالي الصيف القصيرة والأماكن باتت مألوفة، فعلى قمّة الجبل يختبأ (ابن العاهرة) – هذا كان اسمه – ولعله أنسب الأسماء لشخص مثله قد قدم من أقاصي المعمورة ليلوث هذه البلاد، يختبئ كالثعلب، يطلق رصاصه المليء بالحقد متى ما حلّت له فرصةً لقنص أحد الحالمين.

في تلك النقطة العسكرية اجتمع العديد من الأفراد؛ ليشكّلوا لوحةً ربما عجز أمهر الفنّانين عن رسمها، لهجات مختلفة تشكّل لغةً جميلةً غنية بالمفردات، قامات متفاوتة، وجوه ضاحكة وبعضها عابسة، يجمعهم حلم واحد... وطنٌ واحد.

في إحدى نقاط الحراسة يحتضن الجندي بندقيته كمَن يحتضن حبيبته، يتأمّله زانا طويلاً حد الشرود:
-         أتعلم؟!
إنه يحرص على البندقية من الصدأ؛ كي لا يصيب حلمه الفتور، يحرص عليها من الصدأ، كي لا يكون رقماً في سجل الشهداء.
قالها لمتين وهو يمسح عن بندقيته الغبار.
-         آهٍ يا صاحبي! بعض الأحلام وردية تخترقها أسلاك المعاهدات، بعض الأوطان تلاحقها لعنة الجغرافية، تبكيها ذاكرة الزمان والمكان، بعض الأوطان لا سماء لها، فيها كلّ شيء مباح كأحلامنا المرمية في مهبّ الرياح، لا عيون تبكيها، فهي مشغولة بانتظار الأشباح، بعض الأوطان يُستقبل الأموات فيها بالزغاريد، لا ليس بعض الأوطان أو كلّها بل في هذا الوطن وحده يحدث هذا.
يقولها متين، والدمعة تجري على خده راسمة لوحة، لا معاني لها في هذه اللحظة الصامتة المميتة.

-         أتعلم يا صاحبي؟!
في تلك البلاد التي يلد فيها الأفراد وجميع أحلامهم جاهزة مجهزة يوجهون الأفراد للقراءة، يوجّهونهم لنيل الشهادات العليا، أما نحن مرغمون أن نترك مقاعد الدراسة، وأن نحمل البندقية بدلاً من الكتاب، أما القلم فنحمله لنرسم لحظات الحنين والكثير الكثير من الوجع على صفحات مهترئة يعلوها الغبار، يقولها زانا، وفي قعر عينيه الكثير من الذكريات التي تكاد تتطاير في جميع الأنحاء.

يردّ متين غير مبالٍ:
-         تبّاً للمعاهدات...
تبّاً لراسمي الخرائط وسارقي الأحلام...
تبّاً للمصالح الدولية...
تبّاً لهم جميعاً...

يسود صمت طويل لا يقطعه شيء سوى صوت الذباب، وعلى حين غفلة يخرج زانا قلمه، ويخرج دفتراً ذا غلافٍ أسود من جوف حقيبته المكسوة بالغبار، يخرجها من دون النظر إلى الحقيبة، فيده تهتدي إليه تلقائياً بفعل التكرار.

-         ماذا تفعل زانا؟
يقولها متين، وعلامات الاستفهام قد ارتُسِمت على محياه.
-         آهٍ أيها الثرثار! دعني وشأني، سأرسم البعض من نغمات الرصاص بقلمي الجاف؛ لعلّها تصدر لحناً يشبه الأحلام...
قالها زانا، وقد ارتفع صوت الرصاص في الأرجاء، حمل كل منهما بندقيته، واتّخذا مكاناً يصوبان منه على عدوّ الأحلام.

وبعد انقضاء الساعات ومرور الأيام،بات صوت الرصاص منبهاً للاستيقاظ ،وبعد أن اختزنت ذاكرة الأرض صوت خطوات الجنود ،وبعد أن سمّى كل جنديٍ نجمة باسم حبيبته فيراقبها كل مساء ويحن إليها في النهار.
جلس زانا على فراشه الممدود في غرفةٍ بنوها بعد أن حفروا الأرض – نصفها كهف والنصف الآخر قبو، هكذا يمكن تسميتها – وراح يفكّر طويلاً فسرقته الأيام الماضية من حيرته الحاضرة، سرقته حيث الأقلام والدفاتر على مقعدٍ عتيق، ظلّ هذا الموضوع يشغل باله لأيام، حتى اتخذ قراره في إحدى الصباحات، خاطب متين قائلاً:
-         سوف أعود للدراسة، أجل سوف أترك الحياة العسكرية.

تفاجأ متين من هذا القرار الفجائي، وحاول إقناعه على عدم الإقدام على هذا القرار، لكنه أبى|، وظلّ معانداً كلّ محاولات الإقناع تلك.
-         لربما تكون محقّاً يا صاحبي أو مخطئاً، لكنني حسمت أمري.
قالها زانا، ومضى يطوي صفحة أخرى من حياته، صفحة كانت مليئة بصوت الرصاص، كتبها؛ علّه يساهم بجزء بسيط من كتابة الحلم الجميل لأبناء هذا الوطن الكبير، مضى ليرسم زمناً جديداً على صفحة جديدة بيضاء، هذه المرّة اختار القلم ليصل أنينه حدّ السماء، أنين القلم هذا لا يشفي الأوجاع لكنه ينجينا من الغرق في فوضى اللازمان، يرسم الوجع ومعه الكثير من لحظات فرحٍ هارب.

فقط في هذا الوطن الكلّ حائر في خياراته، يجري نحو إحدى الأحلام محطماً ما تبقى منها في فوضى عارمة، يترك هذه ويتمسّك بتلك، وهكذا يدور في دوّامة يخترعها بنفسه:؛ ليغرق فيها وحيداً كوطنه الوحيد أبداً، حتى هذا الوطن حائر بين صوت الرصاص وأنين القلم.


تعديل المشاركة Reactions:
وطن بين صوت الرصاص، وأنين القلم

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة