مصطفى تاج الدين الموسى (تركيا)/ خاص سبا
من
النادر أن أتذكر حلماً شاهدته في نومي بعد استيقاظي، لطالما شعرتُ في صباحات
مختلفة من حياتي، بعد استيقاظي، أنني قد شاهدتُ حلماً، لكن دون أن أستطيع تذكره...
هكذا مضت حياتي، لا أنا أتذكر أحلامي ولا أحلامي تتذكرني... إنه سوء تفاهم قديم
بيني وبين الأحلام.
لكن
ظهر هذا اليوم عندما استيقظتُ متأخراً، وقبل أن أغادر سريري، تذكرتُ الحلم الذي
شاهدته في نومي كاملاً، حتى في أدق تفاصيله.
الحلم:
ثمّة وباءٌ انتشر على كوكب الأرض، وقضى على أغلب البشر، في الوقت ذاته، منسوب
الماء بدأ يرتفع فوق اليابسة، مهدداً مَن بقي على قيد الحياة بالغرق، في الحلم كنتُ
مثل سيدنا نوح، شرعتُ في بناء سفينة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحياة المتنوعة على
الأرض، وعندما انتهيتُ اخترتُ زوجاً من الأنواع الحيوانية، لأحميها من الانقراض
بأن أحملها إلى سفينتي... ونجحتُ في اختيار زوجٍ من كل الحيوانات تقريباً:
عصفور
وعصفورة، فأر وفأرة، صرصار وصرصارة، أرنب وأرنبة، ذئب وذئبة، كلب وكلبة، تمساح
وتمساحة، زراف وزرافة، سلحوف وسلحفاة، بعثي وبعثية، نمول ونملة...
أتمنى عدم تدخل فطاحل اللغة العربية هنا تحديداً، بخصوص قواعد التذكير والتأنيث؛ وذلك لأنني أشاهد أحلامي باللغة العامية.
وبمجرد
أن صعدنا سفينتي جاء طوفان عظيم و... هنا استيقظت.
شربتُ
فنجان قهوة مع لفافة تبغ وأنا أتابع على شاشة التلفاز في غرفتي نشرة الأخبار،
استغربتُ كثيراً؛ كان الإعلاميون ينقلون وقائع الحفل الختامي لمؤتمر «الجمعية
الدولية لأرباب شعر العربية» وأحد الشعراء يقرأ البيان الختامي للمؤتمر، أصغيتُ له
مندهشاً.
فهمتُ
من الشاعر قارئ البيان ثمّ من المذيع، أن مؤتمر الشعراء قد خرج بتوصيات مهمة
لحماية الشعر العربي، أحد هذه التوصيات هي التأكيد على ضرورة اغتيالي أنا شخصياً،
لما أشكله من خطرٍ على البحور والأوزان الشعرية وهيبة القصيدة.
لم
أهتم، أغلقتُ التلفاز وارتديتُ ثيابي؛ ناوياً الذهاب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات.
نزلتُ
من غرفتي في الطابق الثالث، وأمام باب البناء انتبهتُ لأربعة شعراء، أشكالهم تعود
للقرن السابع تقريباً، وكانوا يقودون منجنيقاً خشبياً، ويحاولون ركنه بصعوبة بين
سيارة الحاج صالح وسيارة جارنا محمود بجانب الرصيف، وعندما نجحوا بعد عناء قفزوا
من فوق المنجنيق واقتربوا مني تباعاً، والشرر يتطاير من أعينهم.
-
عمت
مساءً أيها المرء (صرخوا في وجهي).
-
أهلين
بالشباب... تفضلوا، أي خدمة؟
أسرع
أحدهم إلى المنجنيق ليجلب منحوتة حجرية لوجه بشري، رفعها بصعوبة أمامي، وهو يتمتم
غاضباً.
-
هل
تعرف هذا الرجل؟ وأين يسكن؟
كانت
صورة الوجه على المنحوتة تشبه وجهي، لكنهم لم ينتبهوا، سرعان ما فهمت منهم أنهم
جاؤوا لقتلي، تم اختيارهم من قبل مؤتمر «الجمعية الدولية لأرباب شعر العربية»
وإرسالهم لاغتيالي تنفيذاً لتوصيات المؤتمر، وتم اختيارهم من بحور وأوزان شعرية
مختلفة، ليضيع دمي بين قصائد العربية.
-
وبشو
زعجكم هالحقير؟
زمجر
أحدهم في وجهي كغضنفرٍ لاكته نوائب الدهور، في مكَرِّها ومفَرِّها، وإقبالها
وإدبارها:
-
هذا
الوغد يسخر منا منذ سنوات... ومن شعر اللغة العربية المقدس، في الأشهر العادية وفي
أشهر الحرم أيضاً، في كتاباته خلال سكراته اللا صوفية، مرة يكتب عنا قصة بعنوان «ساعدونا
على التخلص من الشعراء» ومرة أخرى يكتب عنا مسرحية بعنوان «الخادمة وعائلة الشعراء»
تباً له، والله لنمزقه إرباً إرباً...
أعجبتني
هذه الـ «إرباً» ذكرتني بتقطيع الخبز الخاص بطبق «الفتوش».
ابتلعتُ
ضحكاتي غصباً عني، وقلت لهم:
-
الوغد
صاحب هذه الصورة في المنحوتة يسكن هنا، في الطابق الثالث، في غرفة يقع بابها على
اليمين..
-
شكراً
لك أيها الإعرابي... (صرخوا بوجهي ودخلوا البناء مسرعين وهم يستلون خناجرهم من
أحزمتهم).
ضحكتُ
كما لم أضحك في حياتي، ومشيتُ إلى السوق.
من
هناك، لوح لي صديقي القصاب قاسم من أمام باب محله، فلوحت له... يعجبني كثيراً... إنه
بارع في فصل اللحم عن العظم، وتمكين المرأة، وفصل الدين عن السهرة أثناء السكرة.
صرختُ
عليه من بعيد: لماذا لا تذبح أحد الشعراء بدلاً من ذبحك للخاروف؟
ضحك
وأجابني: ولماذا تريدني أن أذبح شاعراً؟
-
لأنني
أفكر أن أطبخ غداً ملوخية بالشعراء... ملوخية على وزن «فعاليل متفاعلن متفاعلات».
ضحكنا
معاً، عندئذِ صرخ الصغير يحيى بن قاسم بأبيه، وهو يشده من بنطاله متوسلاً:
-
بابا...
اشترِ لنا شاعراً ملوناً لنربيه على السطح مع الحَمَام...
ضحكنا
كثيراً، وضحك بعض مَن كان في المحل، ثمّ مضيتُ في طريقي، ومشيتُ لأقترب من السوق
أكثر، لكن في داخلي شعرتُ أنني أقترب أكثر من الكهف المعتم لحياتي.
تذكرتُ
فوق الأرصفة ــ وأنا أشعلُ سيجارة ــ برنامجاً علمياً شاهدته منذ أيام، فهمت منه
أن الحياة بدأت على هذا الكوكب منذ ثلاثة مليارات سنة ونصف بحسب العلماء، لكن متى
يمكن أن تنتهي الحياة على هذا الكوكب؟
كان
السوق مزدحماً بشكلٍ غير طبيعي، وكأن هذا اليوم هو يوم ما قبل العيد، الناس يملؤون
الشوارع والمحلات والأرصفة، من بين ازدحام البشر لمحتهما من بعيد، لم أصدق ما
أراه، شهقتُ، فركتُ عينيّ واقتربتُ منهما لأحدق بهما جيداً بين العابرين. إنهما
والدايّ، نعم.. أبي وأمي، اللذان توفيا منذ سنوات، ليسا عجوزين كما كانا عند
وفاتهما، إنما شابين، تماماً... مثل صورهما القديمة في ألبوم العائلة.
ما
أجمل أمي وهي صبية! ما أجمل أبي وهو شاب! وما أجمل ذلك الزمن...! أشعلتُ سيجارة
واشتعلت في ذاكرتي أزمنة قديمة.
اقتربتُ
منهما أكثر دون أن ينتبها لي، وراقبتهما جيداً وقلبي يخفق بشدة، تأكدتُ منهما،
مستحيل أن يكون الأمر مجرد تشابه، إنهما فعلاً والدايّ، وصوتهما نفسه تقريباً.
أبي
وأمي يحملان في أيديهما أكياساً كثيرة، وبينهما طفلٌ مشاغب يقفز حولهما ويسبب لهما
التعب، مشوا معاً في ازدحام السوق فمشيتُ خلفهم.
وقفت
أمي مع الطفل المشاغب جانب الرصيف، وضع أبي الأكياس التي يحملها جانب أمي، تحدثا
قليلاً ثمّ دخل أبي إلى محلٍ للأقمشة.
بجانبي
كان يوجد عربة لبيع الخضار، بدأتُ أقلب خضارها بيديّ، حتى لا تنتبه لي أمي وهي
تنتظر خروج أبي من المحل.. بينما الطفل المشاغب يقفز حولها مثل شيطان، إلى أن سقط
فجأة على حافة الرصيف وصرخ متألماً.
رمت
أمي ما بين يديها من أكياس وانحنت عليه خائفة، خفق قلبي، وقد اشتاق لخوف قديم عاش
طويلاً في عيني أمي.
اقترب
بعض العابرين منهما، أسرعتُ ودخلتُ من بينهم، ثمّ انحنيتُ على الطفل، المشاغب..
لقد جُرح كتفه... حضنته أمي بخوف، نظرتُ إليها، نظرت إليّ، لكنها لم تعرفني.
أخذتُ
الطفل من حضنها فوق الرصيف، ومسحتُ الدم بهدوءٍ عن كتفه بمنديلي، اقترب أحدهم
وأعطاني قطعة قماش طبي بيضاء اللون، لففتها بمهارة حول كتف الطفل.. عندئذٍ خرج
والدي وشهق عندما شاهدنا، وأسرع ليأخذ الطفل من بين يدي، وبعد أن اطمأن عليه
استدار إليّ، وشكرني هو وأمي بخجل، ثم ابتعدا معاً وهما يمسحان بلطف على وجه
طفلهما.
شيءٌ
غامضٌ داخلي كان يحركني.. لحقتُ بهم، دخلوا الحديقة العامة فدخلتها خلفهم، ثمّ
جلستُ على مقعدٍ أمام المقعد الذي جلسوا عليه.
ذهب
أبي لتبقى أمي قليلاً والطفل في حضنها، وقد اصفر وجهها خوفاً عليه منذ سقوطه،
عندما مسحت بحنان على وجهه وهي تغني له، نزلت دمعة صامتة من عيني، بينما الأغاني
القديمة لأمي تعبر ذاكرتي، وكأنها في موكب حداد.
رجع
أبي ومعه عرانيس ذرة مسلوقة، اشتراها من عربة بائع متجول في الحديقة، ناول الطفل
عرنوس ذرة، أبي وأمي راقبا الطفل وهو يلتهم عرنوس الذرة، انتبه الطفل لي فتوقف عن
قضم العرنوس، أشار بإصبعه نحوي، رفعا رأسيهما ليشاهداني هناك على ذلك المقعد.
ابتسمت أمي بلطف وأخرجت عرنوس ذرة آخر من الكيس،
وهمست بشيء للطفل، بينما أبي يهز له برأسه.
أخذ
الطفل عرنوس الذرة ومشى إليّ، توقف أمامي وهو يمد لي يده بعرنوس الذرة.
-
تفضل
عمو...
-
يسلمو
إيديك...
-
شكراً
لأنك أنقذتني منذ قليل...
ابتسمتُ
له وأنا أضع عرنوس الذرة جانباً، قلتُ له وأنا أعيد إحكام القماش الطبي حول كتفه،
وقد ارتخى قليلاً:
-
لا
تتعب والديك كثيراً، لن يعيشا معك إلى الأبد...
-
حاضر
عمو...
-
ما
اسمك يا مشاغب؟
-
اسمي
مصطفى... وأنت عمو ما اسمك؟
كنتُ
أريد أن أقول له أن اسمي مصطفى أيضاً، لكن أحرف اسمي اختنقت في حنجرتي.. لأول مرة
في حياتي أفشل بالنطق باسمي.
لوح
لي الطفل سعيداً ورجع راكضاً إلى أبي وأمي، بعد قليل لوحوا لي معاً ممتنين ما
فعلته منذ قليل لهذا الطفل، حملوا أكياسهم ومضوا إلى بيتهم.
بقيتُ
في الحديقة، أدخن بشراهة بينما حياتي تختنق في حنجرتي.
عندما
غربت الشمس، وقفتُ متعباً وجررت رجلي وأنا أمشي، عبرتُ الشوارع ببطءٍ حتى وصلت،
صعدت درجات البناء منهك القوى إلى الطابق الثالث، فتحتُ باب غرفتي وأضأتها.. شهقتُ
وأنا ألمح جثتي ممدة هناك بشكلٍ فوضوي على الأرض، غارقة في دمائها، وقد تلقت عدة
طعنات قاسية.
انحنيتُ
على جثتي وحضنتها بحنان إلى صدري، بكيتُ بصمت.. ثمّ أبعدت بقايا القميص الممزق عن
جثتي، وتأملت بحزن تلك الندبة القديمة على كتف جثتي.
لا
يهمني أنني قتلتُ وانتهيتُ، ما يهمني ألا تنتهي هذه الندبة القديمة على كتفي، وأن
تبقى إلى الأبد ولو في قصيدة متواضعة.