أحمد محسن
إذا أردت مشاهدة القصة المستوحاة عن حياته، والتي تعرض في شكل مسلسل من ثماني حلقات، عبر شبكة «نتفليكس»، عليك أن تضع سيغموند فرويد الذي في رأسك جانبًا. وعليك أن تنتبه جيدًا، وأنت تشاهد، وأنت تحلل ما شاهدت، أنك لا تشاهد عملًا تاريخيًا، ولا تشاهد سيرة. الحقيقة أن فرويد كان موجودًا، وأنه يعد مؤسس مدرسة التحليل النفسي. لكن المسلسل يستعير هذه القواعد، مجرّد استعارة، يشيّد عليها قصصًا من الخيال، توفر لجمهور «نتفليكس» ما يمكن توفيره، على غرار مسلسلات التشويق. وإن كان مارفن كرين، مخرج العمل، ليس معروفًا بما يكفي، مثل الألمان عمومًا على الشبكة العملاقة، فإن فرويد يبقى معروفًا، وإن كانت سيرته نفسها استدعت تحليلات وليست تحليلًا واحدًا، واللافت، أن النقد الذي وجه إلى المسلسل الألماني، لم يتناول أي جزء منها.
هناك اعتراض على المس بصورة فرويد، من الذين يستيقظون في الصباح ويشعرون أن وظيفتهم في هذا العالم هي حماية التاريخ. وهم محقون في أن القصة الاستهلاكية تترك أثرًا أكبر من الحقيقة، عندما تُمسخ في مسلسل هدفه الإثارة. وليس فرويد وحده، بل معظم تاريخ العالم تم ابتذاله في سينما التشويق، وسيقضي «نتفليكس» الفتاك على أجزاء كبيرة مما تبقى من الحقيقة. لكن، على هؤلاء أن يمسكوا أعصابهم قليلًا. لم يعمل فرويد محققًا كما يدعي
هناك اعتراض على المس بصورة فرويد، من الذين يستيقظون في الصباح ويشعرون أن وظيفتهم في هذا العالم هي حماية التاريخ. وهم محقون في أن القصة الاستهلاكية تترك أثرًا أكبر من الحقيقة، عندما تُمسخ في مسلسل هدفه الإثارة. وليس فرويد وحده، بل معظم تاريخ العالم تم ابتذاله في سينما التشويق، وسيقضي «نتفليكس» الفتاك على أجزاء كبيرة مما تبقى من الحقيقة. لكن، على هؤلاء أن يمسكوا أعصابهم قليلًا. لم يعمل فرويد محققًا كما يدعي
المسلسل، ولم تسهم نظرياته ـ التي عولجت بنقد كثير ـ في إحلال العدالة، كما تجعلنا المفاهيم السائدة نتخيّل العدالة. لكن بالعودة إلى التاريخ، لا يمكن إنكار أن الطبيب الشاب، الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر، امتلك مهارات استثنائية في التحليل النفسي، على الأقل كما هو شائع. بهذا المعنى لم يخترع المسلسل أساسًا لم يكن موجودًا، بل اخترع التفاصيل. سيلاحظ المشاهدون أيضًا أن أفكار فرويد الأولى التي أطلقها في فيينا ذلك الوقت حاضرة أيضًا، إلى جانب تجارب التنويم المغناطيسي التي أجراها في البداية.
للمناسبة، هذه ليست فيينا. وهذه صدمة أخرى لهواة الدقة. في الواقع، صُوِر العمل في براغ، وليس في فيينا. وهذا ربما يفتح نقاشًا أكثر جدية، عن إمبراطورية هابسبورغ، وقدرة إرثها على العيش في العمارة وتصميم المدينة، قد يكون أكثر إفادة بكثير من محاولات تقديس فرويد، وحماية سيرته من «التحريف» في محاكاة سيكو- ثقافية لتعنت المؤسسة الدينية التي تحاول حماية سلطتها برفضها لأي شكل من أشكال الخيال، أو إعادة تلاوة التاريخ من خارج القصة التقليدية. ولا يعني هذا طبعًا أن المسلسلات والتشويق تشكّل تعويضًا عن الخيال، لكن الاعتراض عليها ليس اعتراضًا على التزييف، بقدر ما إنه محاولة لحماية مكتسبات سلطوية
كعائدات من امتلاك قصة تاريخية واحدة. إلى ذلك، القصة التاريخية ليس القصة الحقيقية دائمًا، بل إنها القصة المتوافرة. هناك مثقفون محترمون، أعجبوا باشتغالات فرويد، مثل جيل دولوز، لم يجدوا مفرًا من تشبيهه بكريستوفر كولومبوس، رغم أن هذا التشبيه يعد مديحًا، لأن معناه أن فرويد اكتشف حدثًا لم يكن معروفًا قبله، إلا أن الدراسات لاحقًا أعادت تصويب مسألة اكتشاف العالم الجديد من أساسها. حتى من الناحية الألسنية، كان ذلك غزوًا، حسب الصياغة التي يقترحها نوعم تشومسكي، ولم يكن اكتشافًا. ذلك أن ذلك العالم كان مكتشفًا من أشخاص قبل الاستعمار، وكانوا يعيشون هناك. لكن السردية المهيمنة على العالم حتى اليوم، إن ما حدث كان «اكتشافًا». وحتى اليوم، السردية المحيطة بقصة فرويد ـ من دون التقليل من أهمية إنتاجه العلمي ـ تقود إلى صورة الحكيم والمتزن، كما يصور في أعمال سينمائية سابقة للنقاش المستعر حول مسلسل «نتفليكس» الحالي، وتنحاز إليه بوضوح ضدّ كارل يونغ. لسيرة التاريخ، وبمعزل عن النقد النسوي الكبير لنظريات فرويد، هناك نظريات تاريخية جدية عن علاقته بالكوكايين. وهناك معطيات جدية، عن شغفه بالروايات البوليسية، ولا سيما روايات شرلوك هولمز. ورغم أن المسلسل ليس سيرة «أمينة» ولا يكفي لفهم فرويد، إلا أن النقاش حول هذه الفكرة ليس مفهومًا. الخيال مجاني. والذي يريد معرفة فرويد عليه أن يقرأ فرويد، والأهم أن يقرأ تاريخًا نقديًا.
كعائدات من امتلاك قصة تاريخية واحدة. إلى ذلك، القصة التاريخية ليس القصة الحقيقية دائمًا، بل إنها القصة المتوافرة. هناك مثقفون محترمون، أعجبوا باشتغالات فرويد، مثل جيل دولوز، لم يجدوا مفرًا من تشبيهه بكريستوفر كولومبوس، رغم أن هذا التشبيه يعد مديحًا، لأن معناه أن فرويد اكتشف حدثًا لم يكن معروفًا قبله، إلا أن الدراسات لاحقًا أعادت تصويب مسألة اكتشاف العالم الجديد من أساسها. حتى من الناحية الألسنية، كان ذلك غزوًا، حسب الصياغة التي يقترحها نوعم تشومسكي، ولم يكن اكتشافًا. ذلك أن ذلك العالم كان مكتشفًا من أشخاص قبل الاستعمار، وكانوا يعيشون هناك. لكن السردية المهيمنة على العالم حتى اليوم، إن ما حدث كان «اكتشافًا». وحتى اليوم، السردية المحيطة بقصة فرويد ـ من دون التقليل من أهمية إنتاجه العلمي ـ تقود إلى صورة الحكيم والمتزن، كما يصور في أعمال سينمائية سابقة للنقاش المستعر حول مسلسل «نتفليكس» الحالي، وتنحاز إليه بوضوح ضدّ كارل يونغ. لسيرة التاريخ، وبمعزل عن النقد النسوي الكبير لنظريات فرويد، هناك نظريات تاريخية جدية عن علاقته بالكوكايين. وهناك معطيات جدية، عن شغفه بالروايات البوليسية، ولا سيما روايات شرلوك هولمز. ورغم أن المسلسل ليس سيرة «أمينة» ولا يكفي لفهم فرويد، إلا أن النقاش حول هذه الفكرة ليس مفهومًا. الخيال مجاني. والذي يريد معرفة فرويد عليه أن يقرأ فرويد، والأهم أن يقرأ تاريخًا نقديًا.
النظرة إلى المرأةمن أهم الجوانب التي يتجاهلها المسلسل، هو نقد النظرة إلى لوو- أندرياس سالومي (مسماة فلور سالومي في المسلسل). ليس فقط لأنها تصور ساحرة ومسكونة بل لأن هذه النظرة إليها،
تتابع النظرة الذكورية إلى المرأة في القرن التاسع عشر، فينظر العمل إليها من ذات الزاوية التي كان ينظر إليها من ذلك الوقت. وسقوط كل المحرمات في النقد والخيال كان ممكنًا، إلا أن العمل لم يستطع إنصاف سالومي كامرأة، وتابع استلهام النظرة السائدة إليها، كلعوب أوقعت نيتشه وفرويد وريلكه. فرويد نفسه، للمفارقة، يقول إنها كانت صاحبة قدرة لفهم الناس أكثر من قدرتهم على فهم أنفسهم. لا أحد يمكنه التأكد من طبيعة العلاقة بين سالومي وبين فرويد، في الحقيقة، أو كما يقدمها المسلسل، لكن يمكن التأكد أنها علاقة متخيلة أيضًا. ربما يتوجب أيضًا على «حراس التاريخ»، أو حراس ما يعرفونه عن التاريخ، أن يتنبهوا لهذه التفاصيل أيضًا، ففرويد لم يلتق سالومي إلا في العقد الأول من القرن العشرين، بينما تدور أحداث المسلسل في أواخر القرن التاسع عشر، أو في ثمانينياته تحديدًا. ما يمكن التأكد منه، هو أن النظرة إلى سالومي، أي إلى المرأة، ما زالت نظرة ذكورية، بموازاة خوف دائم من المس بنيتشه وفرويد وغيرهما، لأن ذلك يعتبر مسًا بالمعرفة التي أنتجتها الهيمنة الذكورية. من نافل القول التذكير بأن العمل متخيّل، وليس مرجعًا صالحًا بأي شكل من الأشكال لفهم فرويد. لكن من نافل القول التذكير أيضًا بأن الاعتراض ليس مفهومًا، وأن تقديس فرويد هو جزء من تقديس تاريخ ثقافي غربي، وهو بطبيعة الحال ليس مقدّسًا.
عن ضفة ثالثة