خديجة بلوش / خاص سبا
المسافات
تحرق كل حلم غض، هي شبيهة بقيظ يأكل الأخضر واليابس. قد أطرق بابك يوماً وأقول لك:
هل يمكنك أن تسمعني للحظات؟ قد تستمر اللحظات دهراً، وقد أنظر للسماء وأنا أكلمك، وقد
أرسم بأناملي نهراً متعرّجاً, وقد أفكّ جدائل افتراضية، وقد ألتزم الصمت وأنا أعبر
من البوابة، أركض، أركض...، ثمة أياد كثيرة تحاول الإمساك بي، تلك أياديهم، أولائك
الراحلون، لم أكن ألقي التحية، لم أكن أبتسم لهم، كنت أهاب تلك الهالة التي تسبقهم
(راحلون)، أتنفس الصعداء حين أدخل للمكان، أهمس بتحية خجولة للجالسين هناك، يرعبني
أنهم مثلي يحملون على كواهلهم لحوداً، يؤلمني أني لا أستطيع الابتسام، قد أسبقهم
لكن مَن يدري قد يرحلون قبلي وهذا يؤلمني.
الأسرة
المتقاربة وضجيج الممددين، أستمر في السير نحو سريري، ذاك السرير المزري، والآلة
التي تنتظرني باحتقار كأنها تهمس لي «سأغتالك»، الشراشف الوسخة والوسائد المبقعة
دماً، كل شيء هنا بائس، وبداخلي تفاصيل لم يتسنَّ لي أن أدفنها، أهمس لأمي «الغرفة
بحالة سيئة»، تهمهم ولا تلقي بالاً، أغمض عيناي، ثمة شرود يشبه الموت، من شقوق
النافذة يتسلل شعاع شاحب، يرسم حدقتين على الجدار، هي نظرات فارغة بيضاء.
-
الظلام
حالك يا أمي.
لا أسمعها،
أحملق في السقف.
-
أمي
هذا المصباح شاحب.
أستمر
في التحديق في الفراغ.
-
أمي
هذا الجدار يبدو باهتاً مقارنة بالآخر.
تفتح
عينيها باهتمام، تحملق بدورها في الجدار، تهمهم، أحاول فك طلاسم ما تقول، لكن عبثاً،
لا أستطيع.
-
أمي أعرف
أني أزعجك، رحلتي التي استمرت عمراً وانتهت بالفشل، تكرهين فشلي وأكره صمتك.
أمي أنا أشبه أبي وهذا أيضاً يزعجك، أبي الذي كان يشتم كل شيء، يحمل
نعشه بيده ويقول «لن أموت الآن»، أبي الذي كان جريئاً، أبي الذي كان يحاول اختراق
ثيابك السوداء، ولا ينجح، كان يقول «تلك المرأة جسدها يانع»، كان يشاكسك كي ترتمي
في حضنه، ولا يفلح، يدخن غليونه ويرسم بدخانه تفاصيلك.
-
أمي
هل أنت نائمة؟
ترفع
المخدة فوق رأسها.
-
أمي لطالما
كنت أسمع أبي يغازلك، وأنت لا ترددين سوى الأولاد... الأولاد.
أمي: أبي لم يكن يكرهني، كان دائماً يحاول وأنت كنت تنجبين حواجز أكثر،
حين أتزوج يا أمي لن ألبس السواد وإن منحت أطفالاً سأعلمهم الحب، لن أخفي مشاعري أمامهم،
سأقبل والدهم في حضورهم، سأحضنه ونحن أمام المدفأة، سأزرع قبلاً صغيرة على وجهه وأنا
أحضر المائدة، وحين نحضر أطفالنا للنوم سيكون معي، يطوقني بذراعيه، أمي هل
تسمعينني؟ لست وقحة.
-
ماذا
تفعلين الآن؟
-
أكتب
نصاً فاجراً في ذهني.
-
وثقيه
قبل أن يهرب منك.
-
سأفعل...
الجدار
يومض كل لحظة، كل رسالة تحمل وهجاً تهرب منه العتمة.
-
ماذا
تفعلين؟
-
سافلة.
أهز
رأسي وأنهي ما بدأته.
لم ألاحظ
أن الأسرة متشابهة، وأنا أرتب هزائمي وأضع شاهد القبر جانباً، ومضت ذاكرتي مجدداً،
هناك في البعيد البعيد، يهمس لي «كوني جسداً أشتهي فيه ذاتي»، يمرر يده على بياض
الصفحات فتصبح الرغبة لوناً كالحبر، همهمة الممددين تعيدني للمكان، في الطرف الآخر،
سرير وعجوز ما زالت فحولته تشغله، كلما مر به طيف أنثوي يعري نظراته كي تبتلع
تفاصيلها.
الهاتف
يهتز بتواتر وإلحاح، مَن قد يتصل بي في هذا العالم الفارغ؟ وأفكر في تلك الصفحات، كيف
تبدو بدوني، والعابرون لفصولها المتقلبة؟ هل لاحظوا غيابي؟
-
أمي لا
تكرهيني أكثر؛ كي لا أموت أكثر.
أبي الذي
كان يسمع صمتي وينسج منه الأغنيات قد رحل، أبي الذي كان يعشقك، هو يعشقك بطريقته، تنفجر
غاضبة وتصرخ بي:
-
وقحة.
أيضاً
أحبهم، كل بطريقتي، ولست وقحة، كم أشبه أبي! أحبني وأحبهم وأحب ربيعاً ابتكره كي
يظلل حرائقي ووحدتي...
-
أمي أنا
أيضاً أحبك.
تغادرني
وهي تهمهم، أستمر في التحديق بتلك الهالات الشاحبة على الجدار.
-
سيطول
هذا الليل.
الليل
أوشك على الانتهاء، وثمة سفر سيرهق الدماء في العروق، ما أطول طريق الألم، ما أطول
هذا السفر.
المكان
على حاله، وأيضاً تلك الراكضة خلف وهم متجذر كألمها على حالها، نحيفة تتمايل في
مشيتها، لا ألومها، هي مثلي يرهقها الوجع، وأنا مثلها لا أستوعب ألمي، فقط هي لا تكف
عن النحيب، وأنا أعتمد الصمت.
سيظل
المكان على حاله، بحضوري أو بغيابها، والظلام سيكتسح جدران غرفة تأوي أحلام طفولتي.
النوافذ
مغلقة، والشمس خارجاً تعلن غزوها للظلال.