الحسين الزاوي
تسعى كلّ مدرسة طموحة إلى تحقيق أهدافها التربويّة
والتّعليميّة. ومن بين هذه الأهداف نجد التّربية على الإبداع من خلال فتح المجال أمام
المتعلّم لتفجير طاقاته الإبداعيّة في مختلف ميادين الإبداع. من هذا المنطلق يمكن
القول إنّ كتاب شرارة البوح، الّذي أشرفنا على إنجازه بتشجيع وتنويه مائزين من
مفتش مادّة الفلسفة الأستاذ عبد الإله دعال، ودعم من المديريّة الإقليميّة بولمان،
وكذلك من جمعيّة آباء وأمّهات وأولياء التّلاميذ، والصّادر عن دار النّشر مقاربات
ماي 2019 قد شكّل فرصة حقيقيّة أمام مبدعيه لإبراز قدراتهم الإبداعيّة في مجال
الكتابة الأدبيّة كالقصّة القصيرة، النّص المسرحي و الخاطرة وغيرها … فرصة
انطلقت من إيماننا أنّ مهمّة أستاذ الفلسفة هي مساعدة التّلاميذ أثناء مرحلة
الأزمة، ودفعهم للانخراط بفعاليّة في الحياة المدرسيّة، مكسرين بذلك رتابة ونمطيّة
الممارسة الفصليّة السّائدة.
في هذه الورقة التعريفيّة بالكتاب، سأحاول استبيان
الرّوح الفلسفيّة المبثوتة في ثنايا نصوص كتاب شرارة البوح، وذلك من خلال تحليل
مضامين بعض من هذه النّصوص الحاملة لهم فلسفي وإنساني، يؤكّد بما لا يدع مجالا
للشّك أنّ درس الفلسفة بالثّانوي، يشكّل مجالا لتوليد القيم الرّاقية وجعلها سلوكا
لدى المتعلّمين. قيم تجسّدت على شكل أسئلة عميقة في مضمونها، بسيطة في بنائها
القصصيّ.
يضمّ كتاب شرارة البوح نصوصا إبداعيّة خطّتها أنامل بعض
من تلميذات وتلاميذ ثانويّة أبي بكر الرّازي بكيكو مديريّة بولمان الّذين أبوْا
إلاّ أن يهبوا شراراتهم لكلّ قارئ يتلمس النّور من خلال البوح. وهذا ما عبّر عنه
الرّوائي المغربي في تقديمه لهذا العمل التَلمَذِيِّ الأستاذ محمّد عناني الّذي
اعتبر الشّرارة نورا يضيء الطّريق لفكّ غرابة العالم عن طريق الآداب والفنون. كما
اعتبر الأستاذ عناني البوح نوعا من التّنفيس والتّخفيف الّذي تلتجئ إليه الذّات
كإمكانيّة فكريّة للتّعالي عن الواقع المريض.
إنّ تلك الإمكانيّة الرّاقية – في تقديرنا – جاءت، في
نظر النّاقد المغربيّ الّذي بصم شرارة البوح بكلمته المختزلة لمعاني نصوص الكتاب
الأستاذ محمد الكاس، وراء رغبة ملحّة للبوح وكأنّه يعتبرها ضرورة أنطولوجيّة
أمام الذّات المبدعة حتّى لا يتصدّع كيانها ويضيع إحساسها الصّادق ورؤيتها
الثّاقبة على حدّ تعبير الأستاذ محمّد الكاس.
إنّ هؤلاء المبدعين والمبدعات استطاعوا تشكيل صورة إبداعيّة تقاطعت فيها نصوصهم حول معانقة النّور الّذي يمكّنهم من ملاقاة ذواتهم والعالم من حولهم. وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على التّجاوب الكبير الّذي يحدث معهم أثناء الممارسة الفصليّة باعتبارها مختبرا يتمّ فيه بناء التّلميذ المبدع والنّشيط والفاعل والمتفاعل مع محيطه، لتأتي فرصة صقل الرّوح الفلسفيّة في إبداعات أقلّ ما يقال عنها من وجهة نظرنا، تجربة فريدة للتّفلسف التَلْمَذِيِّ بجهة فاس مكناس إقليم بولمان.
بالنّسبة للنّص القصصيّ “نقطة ضوء” لصاحبته إيمان أحنداس
نجدها تصوّر لنا علاقة امرأة غريبة مع أهل قرية يرفضونها رغم حبّها لهم واهتمامها
بقضاياهم ومحاولتها كشف زيف الطّمأنينة الّتي يعيشون فيها. لكنّ محاولة هذه المرأة
باءت بالفشل نظرا للأحاسيس المتعاكسة بينهما وهو ما دفعها إلى الاختفاء من القرية.
إنّ سلوك الاختفاء كما صوّرته إيمان أحنداس لا يشير إلى
انهزام هذه المرأة بل كان خيارا استراتيجيا لجعل أهل القرية يستشعرون أهميّة
حضورها بينهم بالقرية، وهو بالضّبط ما حدث عندما انتبه رجل إلى غيابها فقرّر البحث
عنها متوجّها نحو الكهف الّذي تقطن فيه. إنّ حاجة أهل القرية لهذه السّيدة الغريبة
يذكرنا بقولة للفيلسوف الألماني فريديريك هيجل: ” إنّ بومة مينيرفا لا تحلّق في
السّماء عاليا إلاّ حينما يرخي اللّيل سدوله “، ولذلك فعودتها أصبحت ضرورة مصيريّة
لأنّ الحشود على حدّ تعبير إيمان كانت تتألّم وتموت ببطء ولا أحد كان قادرا على
استعمال عقله…
إنّ إمكانيّة استعمال العقل ليست أمرا سهلا في قرية يعشق
أهلها التّفاهة والبلادة، لذلك فالأمر حسب أحنداس يحتاج إلى الجرأة فمن سيمثّلها
إذن؟
يراهن كلّ مجتمع يسعى إلى تطوير نفسه على ناشئته، وهذا
في تقديرنا هو ما جعل إيمان تراهن على شخصيّة الطّفلة الصّغيرة الّتي تصوّرها آتية
من الجبل عليها علامات الإرهاق والتّعب وكأنّها كانت في زيارة لزرادشت الّذي دلّها
على مصاحبة السيّدة الغريبة لتساعدها على تحقيق حلهما.
أمّا بالنّسبة لياسر أوزين فقد حاول من خلال نصّ “الخيار
المستحيل” أن يصوّر وضع الانسان في العالم وكيف قذف به إلى الوجود مندهشا، ولم يجد
من سبيل سوى تقديم علل لتفسير جوده من جهة ومحاولة طمأنة ذاته من جهة أخرى باختلاق
مجموعة من الخرافات وجعل العديد من الأشياء مقدّسة تقوم مقام الآلهة…
من غرفته بالبيت ينطلق بنا ياسر عبر شخصيّة “رشيد”
محاولا اختلاق عالم أكثر غموضا يديره رجل عجوز يمثّل حسب ياسر تاريخ ما ينجز في
بعدين أساسين أي بعد النّور وبعد الظّلام في إشارة إلى عالمين متعاكسين على مستوى
الأحداث والوقائع.
شخصيّة “رشيد ” تشير إلى شابّ مهووس بطرح السّؤال وجد
نفسه مقذوفا بذلك العالم الغريب الّذي جعل من رشيد غير قادر على منح نفسه مهلة
للتّفكير وتأمّل العوالم من حوله، بل شرع في البحث عن سبب وجوده هناك وكيفيّة
رجوعه إلى عالمه.
إنّ غرابة العالم الّذي وجد رشيد نفسه فيه، وغرابة صاحبه
جعلته يتنازل عن هوسه بالسّؤال والفضول المعرفيّ الّذي يميّزه، مكتفيا بسؤال
النّجاة والعودة إلى عالمه الّذي اعتاده من قبل، مبرزا بشكل قصصي بارع خوف الإنسان
من كلّ شيء غير مألوف واعتيادي وعدم قدرته على الخوض في الأسئلة العميقة
لمعرفة حقيقة الحياة والوجود من الأساس. وخلص ياسر إلى أنّه في الحالات
الحرجة تعمل الغريزة على ضمان النّجاة فقط وهو ما يتأكّد عندما علم رشيد
أنّه لن يعود إلى غرفته وموطنه وأنّ الخيارين المطروحين أمامه لا فائدة منهما وأنّ
أيَّ اختيار اختاره سيدرك أنّه لم يكن الاختيار الصّحيح.
أمّا في ما يتعلّق بنصّ”يبوس أنا” لصاحبته خديجة عنصار
فقد ارتبط بالحديث عن فلسطين، حيث حاولت تصوير الوضع الّذي تعيشه من خلال اعتمادها
على الطّفولة كمنبع للبراءة والصّفاء، وكانت بذلك قد منحت للنّص جاذبية أكثر، بحيث
تمّ وضع الأطفال أبطالا للقصّة ومنحهم الأدوار الأساسيّة هو الّذي يشكّل
ينبوعا لتلك الجاذبيّة لدى القارئ.
إنّ جاذبيّة النّص نجدها منذ البداية في العنوان حيث
تثير فضولا لمعرفة دلالته الكبرى وتخطّي الغموض الّذي يكتنف ظاهره. “يبوس
أنا” عنوان يحمل معنى أرقى كونه يعود بنا إلى زمن جميل لفلسطين مع سكّان
يبوس الّذين عاشوا بسلم وسلام، وهنا في تقديرنا تحاول الكاتبة من جهة، أن تجعل من
العنوان رمزا للأمل وعودة للمجد. ومن جهة أخرى تبوح بتأثرها الشّديد ولهفة قلمها
الرّافض لحاضر فلسطين المزري، وهو ما جعلها تستعين بقصيدة الشّاعر الكبير محمود
درويش لتؤكّد مدى تلاحم القلوب وندائها بقلم واحد أن تعود فلسطين لسابق عهدها.
أمّا في ما يتعلّق بـ”ذاكرة الحبّ” لسكينة السليماني
فإنّنا نجدها قد قاربت سؤال الحبّ في المجتمع التّقليديّ، من خلال تأثير هذا
الأخير فيه، وقد تجسّد هذا التّأثير المجتمعي في أسرة “عليّ” الّتي نغّصت حسب
صاحبة النّص، لذّة الحبّ وأطفئت نوره المشعّ.
تكشف سليماني عن خيبة أمل أحدثت انكسارا عاطفيا لدى زوجة
عليّ، هذا الأخير لم يكن سوى متخلفا في الفكر وأنّ غرامياته قبل الزّواج تحوّلت مع
الزّمن إلى سلوكيات ذكوريّة تكشف مدى الانفصام في شخصيته وازدواجيّة تفكيره النثن
الّذي لم يستطع الوضع الاجتماعي الرّاقي تغييره. وبالتّالي اختارت الزّوجة لنفسها
طريقا جديدا بعيدا عن عليّ وعائلته.
هكذا تكلّم مبدعو “شرارة البوح” في هذه النّصوص وأخرى
يضمّها الكتاب، نترك للقارئ فرصة لقائها مباشرة “كآكلات البشر”، “رسول
الموت”، “حالي”، “بوح فجر”، “رحلة الغفوة”، “اليراع الأعلى”،
“فراشي التراب”، وقد استطاعت جميعها تشكيل صورة فنيّة عن البوح في مختلف مستويات
الذّات “البائحة” الّتي حاولت من خلال هذه الفسحة أن تتعالى عن الظّروف والحتميات
النّفسيّة والاجتماعيّة … -وإن كانت ربّما مصدر إلهام لهؤلاء المبدعين – أن تنسج
طريقا لنفسها قد يكون له كبير الأثر وعظيم المعنى، بل يمكن اعتبارها، حسب طارق
ايسفولة أثناء تحليله لدلالة صورة الغلاف الّذي أنجزه المبدع هيثم بايكو، رسالة
موجّهة لفئة عريضة من النّاس خاصّة المهتمّين بشأن التّربية والتّعليم تخبرهم أنّ
هؤلاء المبدعين والمبدعات استطاعوا ولوج عالم الإبداع من باب البوح الواسع الّذي
يتطلّب في الحقيقة آذانا صاغية لمضامين بوحهم.
ختاما لا يسعنا إلّا أن نقول: إنّ مساعدة التّلاميذ
وتشجيعهم على الكتابة وتربيتهم على الإبداع فيها ليس سهلا ليتحقق خاصّة في
زمن سادت فيه الرّتابة والنّمطيّة.. وأصبح ينظر لكلّ محاولة خلّاقة على أنّها
غريبة ومن دون جدوى .. ولكن بتظافر الجهود بين مختلف مكوّنات الجسم التربويّ
يمكننا التّفكير في تطوير هذا الصنف من الكتابة (الكتابة التَلْمَذِيَّة) إقليميا،
جهويا ووطنيا..، فالأهمّ بالنّسبة إلينا ليس فقط التّميز بل أن نتعلّم ونحاول
الكتابة، فهذه الأخيرة على حدّ تعبير النّاقد عبد الرّزاق المصباحي كالرّغبة لا
تعرف متى تشتعل، لكنّ اشتعالها غواية لا تنتهي … ونحن حاولنا من موقعنا إشعالها في
تلامذتنا بثانوية أبي بكر الرّازي كيكو، بقدر المستطاع والإمكانيات.