شمس عنتر / خاص سبا
«المرأة
الوفية تحكم زوجها وهي تطيعه».
بوبليليوس سيروس
فتح
أحد المحامين الثلاثة باب القصر وقلوبهم يعتصرها الألم حزناً وهم يتوقعون السوء.
فعلاً
الحزن لا يدوم لكنه يرتدي أثواباً أخرى، فقد وجدوها تتنفس قبالة لوحة الراعي متكئة
على وحدتها شاردة بتفاصيلها.
الراعي
الذي يرعى غنمه حيث العشب المخضوضر مع حماره والبردعة المتدلية على ظهره، ومن خلفه
الحقول الخضراء الممتدة وبينها حصادة «مسيو هارس» الحمراء.
ومن
بعيد يلوح سرب من الفتيات تتطاير أثوابهنّ وكأن الريح توشوش لهن بأسرار الغرام،
فالبسمة مرسومة على الشفاه الكرزية بدقة متناهية.
كل
هذا مؤطر في لوحة كبيرة غطت مساحة واسعة من جدار الصالة الفسيحة المجهزة بأفخر
أنواع الأثاث المزينة بالديكورات الفنية الراقية.
وتلك
المكتبة الزاخرة بعناوين الكتب المشهورة تنشر أنفاس الحكمة في الأجواء.
فقبل
أقل من شهر كانت «أم سارا» على نفس هذه الأريكة، لكن بحالة مختلفة فقد كان وجع
الفقد في ذروته.
«أبو
سارا» كان في تابوته هنا وهو العزيز عندها، فقد أمضيَا معاً حوالي خمسين عاماً،
واليوم ستبقى وحيدة، فكيف ستحمل ثقل شهرته وأعباء حياته الثانية فمثله لا يموتون
بسهولة.
لكن
بسبب حظر التجوال المفروض وللأسباب الاحترازية من فايروس «كورونا» لم تقم أم سارا
بأيّ مظاهر للعزاء، هي مَن عزت نفسها ومسحت دموع قلبها وقبلتْ عن المعزين وجنة
أبنائها في صورهم وباتت ليلتها في حيرة كيف ستخبرهم؟ وتولدتْ فكرة في خاطرها
المكسور.
فما
يؤلم اليوم سيهون غداً وهي الحياة هكذا ما كانت البداية كما توقعتها ولا النهاية
التي أرادتها واستفادت من استشارة عقلها مع قلبها.
عملت
على إجراء الاتصال الجماعي وحين تم الاتصال بهم جميعاً، وضعت الهاتف بيد أحد
المحامين وأعطته إشارة البدء.
فمهّد
المحامي للأبناء بذكر بعض المواعظ الدينية ثم تكلم بالجزء الصعب.
البقية
بحياتكم كما سمعتم فإن والدكم توفي البارحة... واليوم توفت والدتكم!
كأن
الشاشة صُعقت من قسوة وقع الخبر وباتت تصرخ بآهاتهم وترشح بدموعهم.
وارتفعت
الأصوات، أحدهم يبكي والآخر يحوقل والثالث يبسمل وتمتمات غير مفهومة، لكن صوت
البكاء الأنثوي غطى على كل الأصوات الأخرى.
كاد
المحامي أن يرمي الهاتف لولا نظرة حادة من أم سارا الواقفة بعيداً وهي تكاد تختنق
من البكاء وتكتم الآهات بصدرها.
استجدى
المحامي قواه وقرأ عليهم وصية والدهم باختصار شديد:
سرب
الفتيات لسارا، والحصادة مع السهول لصافي، والراعي وقطيعه لفادي، والحمار مع
البردعة لشادي، وسيصل كل واحد منكم رقمه السري للجزء الخاص به، اعذروني الآن، أنا
مضطر أن أغلق الهاتف.
ناولها
الهاتف حانقاً رغم تعاطفه الشديد معها، والآن ماذا يتوجب علينا فعله؟
اعملوا
على دفنه بشكل لائق، أعلم مدى خطورة الوضع تماماً واتركوني وحدي، فلم يعد في العمر
متسع للندم!
رغم
النقاش الطويل لكن بقيت مصرّة أن تبقى وحيدة قائلة: أن هذا الفايروس لن يتأخر
بالقضاء عليها مثلما فعل مع زوجها فلما تكرر حزن أولادها! وقد يحاولون المجيء لرؤيتها
وهذا غير ممكن فلن يحصدوا سوى الحسرة والخيبة.
الأمهات
تفنين أعمارهن ّ لحفر ثقب يمر فيه النور والفرح إلى حياة الأبناء فلا تريد أن تكون
السبب في تكرّر حزنهم بعد أيام!
لكنك
هكذا تموتين قبل أوانك، أجابته والدموع غلبتها، هكذا نحن الأمهات، ثم أن الوقت
يفلت مني وعلي إتمام واجبي حتى آخر رمق، فالعمر المديد يجعلنا مؤمنين بأشياء ما
كنا نؤمن بها .
ودعتهم
وأقفلت درفة الباب الثابتة لباب القصر الكبير والتي ما كانت لتفتح إلا لأمر جلل.
كانت
قد قضت سنتين ترسم تلك اللوحة فهي المهندسة التي أُجبرت على الزواج من ابن عمها
الذي بالكاد يعرف القراءة والكتابة لكنه عُرف بشهامته ومواقفه الإنسانية. وتطلب
اكتمال اللوحة تقني إلكترونيات وحداد وفني أقفال فهي خزنة سرية لتحتفظ بكل وثائق
الإرث من أجل أبنائها كلاً حسب حصته في صندوقه الخاص.
الصناديق
الأربع منفصلة ولكل واحدة مفتاحها السري لكن من الظاهر تبدو لوحة لراعي مع قطيع
غنم.
الشيخوخة
مخيفة وخاصة مع الوحدة والمرض، والتراجع مستحيل! فلا منجي من الهرم ومن ثم الموت!
بقيت
أم سارا في كل ليلة تخاطب أبنائها قبل النوم ومن ثم تغفو على الذكريات.
سارا!
كانت الفرحة البكر حلت مع الربيع حيث نوروز والاحتفالات، لذلك فقد كان مربعها سرب
من الفتيات الجميلات، والمربع الثاني حيث الراعي وقطيعه كان لفادي الذي اشترى
والده عشرة رؤوس من الأغنام بعد ولادته بأيام فقط.
والمربع
الثالث كان الحصادة والسهول فقد كان في ولادة صافي الفأل الحسن عليهم إذ اشترى
والده قطعة أرض وحصادة في اليوم الذي كانت الأم تحتفل بأربعين يوم على ولادته، هي
عادة قديمة، حيث تجري تغيرات على الرضيع مثل انتظام نومه وتغيرات على شكله، فتأتي
إحدى العجائز لتحممه بصب أربعين كأس من الماء فوق رأسه وهي تطلق الأدعية له بحفظه
من عيون الحساد وتكون هناك قطعة من الرصاص المذاب لإبعاد العيون الشريرة عنه، فكان
مثل غيلم يقلص عنقه فيغوص الرأس في قوقعته.
شادي
آخر العنقود صاحب مربع الحمار والبردعة!
بعد
ولادته بشهر كانت العائلة قد قررت السفر إلى المدينة ومعها الأموال الكافية لشراء
هذا القصر الذي سكنوا فيه معاً ومنه تفرقوا إلى أصقاع العالم.
وتوسعت
تجارة الوالد حتى أصبح من أشهر رجال الأعمال في المدينة.
كان
المحامون يمدون أم سارا بكل احتياجاتها فهم المؤتمنون على كل أملاك العائلة وكانوا
يخشون في كل مرة أن يجدوها ميتة لكنها كانت أقوى من «كورونا».