-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

حكاية سنة من كوباني ... " Dîroka salekê "



د. مصطفى محمود / خاص سبا

الحلقة السادسة 
                                                                 Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 6 » 

لنتجه من محل السرياني سعيد قيرياقوس شمالاً حيث الشارع الترابي الذي يبدأ بمحل حج عيسى سليمان ( الأنيق دائماً وأبداً بزيه الشرعي الناصع البياض في أغلب أيام السنة ، وبكرديته المكسرة المميزة حيث اللغة التركية هي الدارجة بين أفراد أسرته المهاجرة من شمال خط القطار ) ابن " فهيمة الأرمنية" الأصل التي امتهنت طب العيون في كوباني ، يرتاد عيادتها المنزلية الواقعة في منتصف المدينة آنذاك ، مرضى المدينة وقراها القريبة - البعيدة للمعالجة من أمراض العيون المتفشية وخاصة " رمد العين " الذي أعمى عيون الكثير من أهالي المنطقة .
كانت تستعمل مستحضرات عجيبة غريبة تنال ثقة مرضاها وخاصة النساء اللاتي فقدت الكثيرات منهن صحة أبصارهن عزوهن إلى القدر وليس الجهل وجهل فهيمة بطب العيون الدقيق . على جانبي الشارع تصطف بعض المطاعم الصغيرة المتواضعة ، وأهمها مطعم الكباب(حج رجب ) المهاجر من مدينة الباب ( كان والدي يفضل كباب هذا الحجي الذي كان متديناً هو الآخر كوالدي ) .
وفي مقابل هذا المطعم يقع دكان الحلواني محمود حافظ المشهور بحلوياته العربية الشهيرة !! ( حلوياته لا تتعدى : المشبك - شعيبيات وما أطلقت عليها الأهالي تسمية " حولك( "  عقب تلك المطاعم ينتهي الشارع بمنازل مجاورة لمبنى الجمارك   ( ومنها اتخذت تسمية حي الجمرك ) حيث يظهر للعيان مبنى جمرك الحديث القريب من البوابة التركية، تتميز بأحجار جدرانها التي تقلد أحجار مبنى السرايا المشيد من قبل الفرنسيين .
تميزت هذه الحارة بتنوع ساكنيها ، فهناك القادم من ولاية أورفا ومناطقها لأسباب شتى كالمهاجرين الكورد وخاصة المستتركين الذين أصروا على أصولهم التركية بإصرارهم على اللغة التركية كلغة دارجة فيما بينهم ( والغريب أنهم استكردوا فيما بعد واتخذوا الكوردية كلغة دارجة مرة أخرى، ومنهم من قدم من مناطق سورية أخرى للعمل في هذه المدينة الناشئة الحديثة، في مهن لا تجيدها أهالي المنطقة . ومنهم من ... دعونا نتوقف للحظات قصيرة على ذلك المنزل الحجري الأنيق لمالكه السيد محمد علي سويركلي الظاظائي ( والد كاتبنا المعروف شاهين سويركلي ) الذي سكن هذه المدينة مع اثنين من أخوته تحاشياً لعادة الثأر في منطقته " سويرك" كما سمعتها من مصادر جادة ، برز اسم سويركلي في مدة قصيرة كرجل حضاري وزكي وماهر في الزراعة واقتناء الآلات الزراعية الحديثة واستعمالها.. فتزوج لمرتين من سيدتين تنتميان إلى عائلتين معروفتين في المنطقة . لنرجع القهقرى الى بداية الشارع ونتجه شرقاً إلى فرن (حج عبد المجيد ) المقابل للجامع الكبير ويفصل بينهما النهير أو الجدول الذي مر ذكره سابقاً .
كانت سيقان شجيرات القطن الجافة وجذور الشجيرات وأغصانها المجففة، وأحياناً نادرة " الجلة سرگين " والبعر المجفف للماشية، هي الوقود المستعملة في تشغيل الفرن ، كان هذا الحجي المتدين يزعم أنه من أقرباء الشيخ سعيد پالوي، وأنه ظاظائي هاجر إلى كوباني مع عائلته هرباً من ظلم السلطات الأمنية التركية، علماً أن اللغة التركية كانت هي الدارجة بين أفراد عائلته . 

 الحلقة السابعة 
Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 7 » 

لندع حج عبد المجيد وفرنه، ونسير في الشارع الذي يتجه جنوباً، حيث تصادفك دكاكين شيخموس الطينية المتهالكة، يستعمل إحداها لعرض بضاعته من التوابل والبقوليات والمواد الغذائية الضرورية والمنظفات ... بينما يستعمل الأخريين كمستودع . كثرت الأقاويل عن أصله وفصله، وعن موضع هجرته إلى كوباني  تزوج متأخراً من سيدة كوبانية، بيد أنه كان ذو شخصية قوية صريحة، نزيهاً حلو المعشر وخدوماً، وفاعلاً للخير متديناً .
نسير عدة خطوات فوق الجسر جنوباً فنصل إلى بوابة الجامع الحجري الكبير الذي بني في الثلث الأول من بدية القرن المنصرم ( بنيت منارتها فيما بعد ب /٢٧/ عاماً على ما أعتقد ) وخصص أو تم تأجير قاعدة المنارة التي كانت عبارة عن قبو مفتوح، وكدكان لا يتجاوز مساحته /٨/ م٢ للسيد " چاووش كچكان - عبد الرزاق داوود " وولده الأصغر شكري . يقال أن عبد الرزاق المذكور هاجر إلى كوباني بداية القرن المنصرم من ضواحي مدينة أورفا عقب خلاف على ملكية الأراضي مع أخوته وقد لحقت به عائلات أخرى " كچكية " فيما بعد  كعائلة مچو بربر مثلاً. نسير الآن جنوباً بمحاذاة الجدار الغربي للجامع ، فندخل الشارع الذي يتجه شرقاً ، تصطف على جانبيها البقاليات .. الحدادين .. الإسكافيان .. النجارين .. اللبابيدين، خانات حيوانات الركوب  للقرويين الذين يرتادون المدينة لقضاء احتياجاتهم المنزلية والشخصية، حيث لم تكن سيارات الأجرة متوفرة إلا نادراً ولا تمر إلا بقرى قليلة جداً  .
وكانت الخانات تقوم بمهمة أخرى وهي تنعيل حوافر تلك الحيوانات أيضاً، كانت الكوادر المهنية لهذا الشارع بأغلبيتهم ينتمون إلى الأرمن ، التركمان والكورد المهاجرين من الشمال،  ينتهي الشارع بالصائغ الأرمني المتواضع بمقتنيات دكانه و صندوقه الزجاجي الواطئ الذي يعرض فيها بضاعته من المصوغات الذهبية والفضية الخفيفة جداً، وعلى بعد عدة خطوات من هذا الصائغ نصطدم بالصباغ آكوب جانريان الذي يصبغ لأهالي المدينة وقراها ، الخيوط الصوفية المغزولة بالمغازل اليدوية ، يصبغها بشتى الألوان المطلوبة وينشرها داخل وخارج محله للتجفيف وتثبيت الألوان.
ينتهي الجانب الشمالي من الشارع بمنزل ومحل الكهل الأرمني وانيس أبو سركيس عربو ( أخذ كنيته من مهنته كمصمم وصانع للعربيات الخشبية الثقيلة، تسير على دولابين صغيرين من الأمام، ودولابان كبيران للخلف، تجرها حصان واحد على الأغلب.  بنى الكهل وانيس منزله الطيني ذي الطابقين فى زاوية تشرف على النهير المتفرع من " نبع مرشد " تحده جنوباً مساحة خضراء طوال السنة ، تتحول إلى مستنقع شتاءً ومرجاً أخضر ربيعاً وصيفاً، لدى مروري مع أطفال حارتنا أيام الآحد ( حيث العطلة الرسمية للأرمن وسريان المدينة ) أمام منزل ومحل وانيس للتفرج على عربياته المصنوعة حديثاً، كنت أراه جالساً في شرفة منزله المكشوفة ( صيفاً قبيل الغروب بساعات قليلة ) وأمامه قنينة عرق وكأساً يحوي سائلاً ابيض اللون، فأدعو أقراني وشأني للاستمتاع بتصرفات هذا الكهل الذي بدا لي لأول وهلة أنه مجنون، وكطفل قروي لم أكن أميز حينذاك العرق من العيران.  
جلست على حجرة مركونة في إحدى زوايا المنازل المقابلة لمنزله وشرفة بيته أراقب تصرفاته وحركاته، حيث يرتشف جرعة من الكأس المملوء عرقاً ثم يتبعه بسحب نفساً عميقاً من سيجارته التي تطلق دخاناً كثيفاً تخرج من منخريه، كخروج الدخان من طائرة نفاثة ، يكرر هذا الأسلوب مرات عديدة وهو يرنو بعينيه إلى الشمال بعيداً خلف خط القطار، يقوم ويقعد بغتةً مرات ومرات على غير هدى - هكذا خيل لي كطفل بريء - ، وأحياناً يطرد بعصبية دخان سيجارته بعيداً نحو الشمال بكلتا يديه، يصفعه صفعاً عن قصد وحقد، ومن حين لآخر يصفع وجههه ويافوخه بحركات مجنونة حير هذا الطفل الصغير الذي يراقبه منذ ساعة مضت كدقائق معدودة قليلة .
مضت سنوات عديدة، فتخرجت طبيب للأسنان وفتحت عيادة في مدينتي كوباني كأول طبيب من أبناء المنطقة، ولطيبة حظي كان السيد سركيس ابن ذاك الكهل الأرمني من المراجعين المرضى للعيادة، فبعد أن قضيت حاجته، استغلتُ الفرصة وفتحت معه الحديث عن تصرفات المرحوم والده التي بدت غريبة لدي حينذاك، فأجابني بكل صراحة : نحن أصلاً من قرية " گرموش " الأرمنية القريبة من مدينة أورفا، هربنا في إحدى الليالي من القرية لدى سماعنا بالمجازر التي ترتكب بحق الأرمن، فوصلنا إلى هنا تاركين خلفنا أملاكنا ومنزلنا الفاره بكل المقتنيات، لم نجلب معنا سوى نقودنا الذهبية، والدي كان أذكى وأغنى رجل في القرية ، أما ما لاحظت عنه من تصرفات غريبة، فهي ذكرياته المريرة عن تلك المأساة التي يتذكرها حين احتساء العرق، إنها حركات تعبيرية يحارب بها الأتراك وظلمهم مجازياً، ثم خرج مجهشاً بالبكاء بعد أن لاحظ تذمر المرضى الذين ينتظرون دورهم للدخول، ألم نصطدم نحن كأبناء منطقة كوباني بمأساة مماثلة قبل ستة أعوام ؟!. لنتذكر.


الحلقة الثامنة 

                                                               Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 8 » 
لنودع وانيس عربو، ولنعد الى رأس الشارع الذي انطلقنا منه باتجاه الجنوب حيث تصطف دكاكين عدة، فهذا الدكان الذي نقف أمامه الآن هو لحج صالح خانو المتميز بنظافة معروضاته من خضروات والعلب الخشبية الكبيرة - ١٠ كيلو تقريباً - التي تحتوي على أفضل أنواع الألبان الغنمية والبقرية في كوباني، وهناك ميزة أخرى يروى عنه، وهو تعليقاته الساخرة بحق المراهقين والبنات الصغار .
لا يعجبه موضة بناطيل الشباب العصرية ولا قمصانهم ذو الياقات العريضة وأكمامها النصفية، بينما يسخر من البنات الصغيرات في أعمار(٩-١١ ) سنوات، بفساتينهن التي تعلو كعب القدم مقدار ( ٤-٥ سم) ، صف طويل من الدكاكين تنتظرنا على الجانب الغربي من الشارع ، فهذا هو دكان حج حبش إسماعيل الذي أكتنز الكثير من الدهون في جسمه تعيق خفة حركته، وقد جمع في ركن من الدكان تنكات عدة تحوي البنزين وزيت الغاز، كانت المدينة تفتقر إلى محطة وقود لفقرها بالسيارات وبالكهرباء حينذاك - عقب سنوات قليلة جداً أفتتح حج حبش أول كازية في كوباني .
من خلال هذا الدكان كانت تصله أعداد مجلة " هاوار " التي يصدرها جلادت بدرخان ، فكان حج حبش المستلم والموزع الرسمي لها إلى حين وفاة "ج. بدرخان" .
نسير رويدا، فنمر بدكان مختار المدينة  للأقمشة، الرصين والوسيم مصطفى علي، وعلى بعد أمتار منه يلفت أنظارنا دكاكين ( حج رشاد ، حج محمود خوجة ، بهاءالدين كچكان ، أردواس الأرمني...) الذي أختص ببيع الدراجات وقطع غيارها، لنصل أخيراً في الجانب الشرقي من الشارع إلى دكان الساعاتي ملا محمد ابن الشيخ صالح  مما يثير الانتباه جميع الأسماء أعلاه ماعدا المختار، وفدوا إلى كوباني من خارج المنطقة .
 بدأ ملا محمد العمل في دكانه في أواخر عام (١٩٥٤)، وهو الساعاتي الأول في المدينة، بائعاً ومصلحاً بارعاً، كان جاراً وصديقاً عائلياً، يلاصق منزله منزلنا ، ما زال حياً يرزق ويعمل في مجال مهنته  ما عدا التصليح في مدينة قامشلو بجوار المسجد الذي يؤمه، رغم تخطيه السن /٩٠ / عاماً كما أفادني ابن أخيه الأستاذ محسن سيدا .
كان هذا الجار النزيه والقنوع قد جمع في شخصه جميع الخصال الحميدة ، كما أخذ من كل مهنة ميكانيكية نصيباً له، ندعوه لتصليح ماكينة خياطة والدتي اليدوية، تصليح الدراجة، تصليح.... أخذني والدي يوما لدكانه، لتصليح ساعته الجيبية التي كانت تتعطل كثيراً لقدمها، أشتراه في مكة لدى أول حج له عام /١٩٤٠/ ، فصلحها ونصح والدي قائلاً : يا حجي لقد أصبحت هذه الساعة من الخردة تزعجك من حين لآخر بسب أعطالها المتكررة، لدي ساعة ممتازة، من ماركة عالمية معروفة " أوميغا "، سأبيعها لك دون مربح  /٢٧،٥ / ل س . أخرجها من الواجهة الزجاجية ووضعها أمامنا تبهر العيون بأناقتها ولونها الفضي اللامع، ورنين الصوت الصادر من فتحها وإغلاقها، ناهيك عن سلسلتها الفضية الطويلة التي تثير الغرام والعشق.
  عشقت هذه الساعة، وتمنيت أن يقتنيها والدي،لألهو بها في المنزل إذا سمح لي، فكر والدي بها وبسعرها المكلف، إنها تعادل /٩ غرامات/ ذهب ، لنترك الذهب جانباً، إنها تعادل شوالين من القمح، لنفرض أننا تغاضينا عن بيع القمح، فإنها تعادل سعر بيع عنزة سمينة .. أخيراً وبعد أن لاحظ الملا تردد وارتباك الوالد، أتفق أن يدفع ثمنها نهاية موسم الحصاد .
لنا حكاية طريفة مع هذا الجار الذي أحببته واحترمته جداً، كان يقتني في منزله مذياعاً ( راديو ) جميل أشاهده لأول مرة، ( راديوهات تلك المرحلة تتميز بضخامتها، وبتناسق تصميمها، تعمل بواسطة بطارية خارجية كبيرة الحجم، يتصل الراديو بـهوائي على سطح المنزل مثبت بعمودين يوصل بينهما سلك نحاسي ( تكلمت حينها مع والدتي لتتوسط لدى الوالد باقتناء راديو مماثل، فتكلم الوالد مع الملا عن تكلفة تجهيز راديو مماثل التي تبلغ قيمته /١٥٠/ ل س تقريباً، مما لا يستطيع تأمينه، خاصة وأنه مديون للملا بثمن الساعة .
أخير توصل الملا إلى حل ذكي وهو أن يمد سلكاً نحاسياً موصولاً بالراديو من منزله إلى علبة صنعت لها خصيصاً في منزلنا تحوي مكبراً للصوت بالإضافة إلى مفتاح يعير مستوى الصوت، كل ذلك مقابل إشتراك شهري يبلغ /2.5/ ل س . عملية ممتازة لا شك لولا أنه أشترط بأن يكون عدد ساعات البث محدودة بنشرات الأخبار الصباحية والمسائية، إضافة إلى ساعات قراءة القرآن في الفترة الصباحية فقط، فوافقنا إلى اليوم الذي أستطاع فيه الوالد شراء راديو خاص بنا …..يتبع.

يتبع...
تعديل المشاركة Reactions:
حكاية سنة من كوباني ... " Dîroka salekê "

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة