-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

حكاية سنة من كوباني ... " Dîroka salekê "



د. مصطفى محمود / خاص سبا

الحلقة التاسعة 
                                                                 Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 9 » 

كنت جالساً في الرصيف أمام دكان والدي، وإذ برجل خمسيني مهيب يلبس لباساً مغايراً لزي أهل المدينة، بجبته الملونة وعمامته التي تغطيها محرمة بيضاء رقيقة تتدلى من فوق كتفيه، يتقدم بخطوات واثقة مع عكازته التي يضرب بها الأرض كلما تقدم خطوة، تصدر منها صوت موسيقي منتظم ( طق طق طق(...  كنت مفتوناً بالرجل وزيه المغاير، لولا ذلك الرجل الآخر الذي أنشق الأرض به وظهر فجأة يقطع مسيره، بزيه العسكري يعتمر قبعة ملوثة ومهترئة لرجال الشرطة، تتدلى من سترته مجموعة من النياشين والميداليات المزيفة تفوق ما تزين بها مصطفى طلاس في عز أيامه، ويتمنطق بغمد سيف قديم وبمسدس مزيف، محاولاً تقبيل يد الذي توقف مراعياً شعوره ومرضه النفسي .
هرعت بفضول طفولي واقفاً قرب الرجلين الذي كان أحدهما مفتي المدينة " ملا مسلم " والآخر البهلول المعروف بـ "صالح بك" ، أو  Salhê Cêlikê"  يعاني من مرض انفصام الشخصية، يتحرش به أطفال المدينة يطلبون منه قطع السكاكر التي يوزع عليهم بكل سرور، لم يقبل المفتي تقبيل يده لكنه قبل منه قطعتان من السكر اللتان أودعهما في جيبه الداخلي ربما ليقدمها الى أبنه الصغير " رشيد " الذي بالكاد ينطق ببعض الألفاظ الضرورية والذي سيصبح فناناً كبيراً فيما بعد، كان المفتي على وشك إنقاذ نفسه من صالح بك ليلحق بصلاة الظهر إمامٍ للجماعة، لولا الظهور المفاجئ لشخص آخر منفصم الشخصية وهو السيد " ولو " ، بقامته الطويلة وعصاه الغليظة الطويلة التي لا تفارقه كسلاح دفاعي ضد الكلاب التي تهاجمه لدى قدومه إلى المدينة ، وضد الأطفال الذين يتحرشون به ..
كان السيد" ولو " قد مسك بتلابيب صالح بك يهزه بعنف
 : —كم مرة حذرتك أن لا تدخل المدينة دون إذني !؟
 — أرجو أن تعفو عنه هذه المرة إن كان لي خاطر لديك . رجاه المفتي الذي كان يعيق " ولو " بعكازته .
عدت إلى الدكان مع سماع صوت جهوري متكرر العبارات لم تكن مفهومة لدي ، هل هي كوردية أم بلغة أخرى يا ترى . إنه السمسار والدلال " خليل عبروش " الذي ينبه الأهالي وهو يجوب السوق والأزقة المتفرعة عنها ذهاباً وإياباً، بأن طفلاً صغيراً في عمر سنتين قد أضاعه والده في زخم السوق المتزاحم، يرجى أن يعاد إلى جامع المفتي مع جائزة مادية .
بعد أن غاب عني صوت السمسار خليل ، تناهت إلى أسماعي صوت مسموع من آخر الشارع لرجل قصير القامة حاسر الرأس، لابساً بدلة ترابية اللون، يحمل قلماً ودفتراً يدون فيه بالأحرف الأرمنية أسماء الركاب الذين سجلوا لديه منذ البارحة للسفر إلى حلب، إنه الدلال الأرمني المعروف" پيس بيضو " ، ينبه المسجلين بقرب انطلاق الباص الأرمني " لاوو " وذلك بقراءة أسماءهم واحداً واحداً دون خطأ : حموي آڤدووو ، رشوي مصطووو ، عزه ديني جمووو .. وهكذا إلى نهاية القائمة .
عقب وفاة المفتي، أستلم الإمامة والإفتاء ابنه البكر ملا محمود الذي كان صورة طبق الأصل عن خصال الحميدة لوالده، في اللباقة والتواضع والذكاء ... لا يتدخل في أمور الغير سلباً، يستمع ويفتي دون تدخل،  ففي إحدى أيام عام ١٩٩٩ ترجى مني أحد الأصدقاء الموظفين النزيهين مرافقته بسيارتي إلى محل صديقنا المشترك للمشروبات، الأستاذ نظمي أحمد ، رحب بنا الأستاذ نظمي كعادته ولم يدعنا نفارق المحل إلا بعد تقديم القهوة، وإذ بجاره ملا محمود يخرج من منزله قاصداً الجامع لأداء صلاة المغرب مأمماً ، ولا بد أن يمر من أمام محل جاره نظمي، لاحظه ذلك الموظف الذي يتعارف معه، فأرتبك خجلاً وترجى من الأستاذ نظمي لإيجاد مخبأ عاجل له لكي لا يراه ملا محمود
 : — جاري ملا محمود ليس كبقية الملالي والشيوخ، لا يتدخل في أمور الغير، لدى افتتاح محلي كان أول من باركني متمنياً لي رزقاً حسناً وتوفيقاً في العمل، أجاب السيد نظمي بعد تأمين مخبأ له تحت طاولة العرض قبل وصول ملا محمود الذي لمحني فتوقف برهة للسلام على جاره وعلي، والسؤال عن أوضاعي، ثم دعاني إلى أداء صلاة المغرب معه في الجامع بابتسامته المعهودة ( يعرف أنني تارك الصلاة ) ، فأجبته مازحاً : — لن أصلي إلا في جامع حارتنا .

  — إنك محق يا دكتور ، الجار قبل الدار ..

 الحلقة العاشرة 
Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 10 » 

نكاد ننتهي من آخر الشارع المتجه جنوباً والذي تصطف على جانبيه دكاكين مختلفة ، تتخللها أحواش لمنازل طينية، فعلى الزاوية الشمالية الشرقية يقع منزل ومحل الأقمشة للسيد "جورج عزو" السرياني الذي قدم إلى كوباني وسكن فيها مع عائلته عقب المجزرة التي ارتكبت بحق أرمن وسريان في ولاية أورفا عام 1915 .   
كنا لا نفرّق من حيث الأصل، بين السريان والأرمن، بل نسميهم جميعاً بالأرمن نتيجة الديانة المسيحية المشتركة بين الشعبين ، كانت عائلة جورج عزو بكافة أفرادها تتقن /٤/ لغات : السريانية ، الأرمنية ، العربية إضافة إلى الكردية، التي كانت مشتركة وملزمة لجميع مكونات كوباني آنذاك ، بالإضافة إلى عائلة جورج عزو السرياني، كانت هنالك عائلات سريانية أخرى هاجرت إلى كوباني لشتى الأسباب . كعائلة الإخوان : نوري وجميل الإسكافي ، المشهوران بتصميم وصنع أحذية رجالية ونسائية حسب أذواق أهالي المنطقة، ومنها الحذاء الرجالي المصنوع من الجلود الممتازة 100%؜ ، بسعر /٢١/ ل.س، أي مايعادل ستة دولارات.
على بعد خطوات قليلة يقع دكان السمكري " مفتاح " ، ذلك الكهل الذي يفترش أرضية الدكان أثناء العمل وقد تحول لون جدران دكانه الترابي إلى لون أسود نتيجة طبيعة عمله .كان المعلم مفتاح  اسم غريب ندر مثيله، من المهاجرين القادمين من ولاية أورفا عقب الإعلان عن الإصلاحات العلمانية لكمال أتاتورك، والتي لم تعجب من قبل شرائح إسلامية عديدة في تركيا الكمالية ، كان المهاجرين المذكورين يعدون أنفسهم " تركماناً" ، لا ندري حقيقة الأمر ! هل هم تركمان بالفعل ، أم كُرداً  تتركوا!! ؟
 في الجهة المقابلة لمفتاح يقع منزل المعاق بدنياً : يغيش ( يغيا ) الأرمني وأخوه كوكو . كان السيد يغيش البشوش المرح والمعروف بمُزاحه المحبب بلغته الكردية التي تفوح منها لكنته الأرمنية، يعمل عطاراً متجولاً بمساعدة حماره الضخم والمدلل . على مسافة قريبة من منزل يغيش ، يقع محل القصاب " صالح بوزو البيسي "، لقد قيل الكثير عن الأصول القومية لهؤلاء البيسيين الذين يتقنون اللغتين الكردية و الأرمنية بطلاقة، وكانت لهم حارة خاصة بهم في الشمال الشرقي من المدينة بعيدة عن حارة الأرمن الذين كانوا يتحسسون منهم ويحتقرونهم ضمناً ،عقب عدة سنوات، دفعني الفضول للسؤال عن أصول البيسيين ، فأفادني أحد الأصدقاء الأرمن " آكوب جانيريان " الخبير في تاريخ الأرمن بالجواب التالي : " إنهم أرمن في الأصل ، كانوا يقيمون في منطقة " بيسني " التابعة لولاية " آدي يمان - شمال غرب أورفا " مشاركة مع السكان الكرد (وقد أخذوا تسميتهم من اسم تلك المنطقة )، وعقب الفرمان العثماني عام /١٩١٥/ بحق الأرمن ، ارتدوا عن قوميتهم الأرمنية وديانتهم المسيحية خوفاً من المجزرة ، فاعتنقوا الإسلام قسرا وأعلنوا أنفسهم كُرداً كجيرانهم الكُرد البيسنيين .

عقب فترة قصيرة على أحداث المجزرة، هاجر قسم من هؤلاء نحو كوباني بالتحديد ليرتدوا مرة أخرى إلى ديانتهم وقوميتهم الحقيقية، كما حصلت على التعليق والجواب نفسه من الكريف وصديق العائلة السيد حاچو إبن عڤدو كوكو  اسمه الحقيقي "خاچيك " الذي أيد وأكد رواية آكوب .


الحلقة الحادية عشر

                                                               Kobanî di 1954 de- dîroka salekê » 11 » 



لقد انتهينا من الأسواق الرئيسية للمدينة التي تحدها من الغرب منازل متناثرة، تتميز بأزقتها وشوارعها التي تغوص شتاءً في الوحل ومستنقعات المياه، بسبب غزارة الأمطار والثلوج، لذا كثرت محلات بيع الأحذية والبُوط البلاستيكية لكافة فئات العمرية، ففي شتاءً لا تنفع الأحذية العادية. وفي الصيف تعلو الغبار والأتربة سماء المدينة وشوارعها  لولا الجهود الجبارة التي يبذلها " السيد تمو " برش الشوارع الرئيسية يومياً ببرميلين من الماء محمولان على ظهر عربة تجرها حمار هذيل يبخل عليه صاحبه بالعلف المطلوب ). قلة من تلك المنازل مبنية من الأحجار المستخرجة من هضبة " مشتنور " ، فيما البقية الباقية طينية بالإضافة إلى تلك الكنيسة الأرمنية ومدرستها ( أعتقد أنها كانت تابعة للطائفة الأرمنية الكاثوليكية) لقد سكن هذا الحي القريب من السوق، عائلات من مختلف العشائر وفي أزمان مختلفة ابتداءاً من الربع الأول من القرن المنصرم ، كعائلات : حج إسماعيل حبش - دوريش خلو - مدرس نبو ( ابو آزاد ) - محمد عليHeme Lori -  محمد كردي ( ابو عجاج)
) والى الجنوب من السوق وصولاً الى مستوصف المدينة " Nexweşxana sor “ تتناثر وتمتد منازل عدة على جانبي الشارع الممتد جنوباً ، تواجهك منازل السائق وصاحب الباص الأول في كوباني ( على مستوى أهالي المدينة الكورد ) حمو سيدو وإخوته ، يحده شرقاً منزل حج عيسى سليمان ابن فهيمة . ثم تتجاور في بقعة صغيرة نسبياً منازل بعض العائلات الأرستقراطية ( حسب مقاييس تلك الفترة ) كعائلة حج بركل - حسن نابو ... مروراً بمنازل محمود خانو - چاووش كچكان - حسن مسلم صاحب السينما، دون أن ننسى البيسكي المعروف بمسلم چاووش والذي فتح المجال أمام عائلات بيسكية أخرى للهجرة الى كوباني ( من منطقة بيره .جيك الشمالية الأورفلية ) والتي هي منطقة " برازية " بامتياز.
  قبل أن نتقدم جنوباً يجب الوقوف على منزلين متجاورين وعلى جانبي الشارع ، للمتآخيان : المفتي حج مسلم ، ومسلم محمد محو . نستمر في طريقنا، فنمر بمنزل " والد نبو أحمد زيقالو - مصطفى دوريش ، والى الشرق منه منزل حج مصطفى علي تمو . . لننحرف غرباً حيث طاحونة " مصطفى موسى " لطحن الدقيق على مدار العام، بينما يصنع قوالب الجليد و" بوظه نبيل ( من أردأ الأنواع ودون مراعاة الشروط الصحية ) صيفاً ، إذا عدنا للخلف، الى بداية شارع السراي وباتجاه الشرق، سنلاحظ على جنوب الشارع منازل متباعدة أحياناً ومتلاصقة أحياناً أخرى، فها هنا منزل مختار المدينة ( ورث هذا اللقب لأولاده وأحفاده ) السيد مصطفى علي ، ومن ثم " حج صالح باقو كچكي " ، ومن ثم منازل طينية متواضعة ( ما عدا منزل الأرمني آكوب هرزو الذي يفضل الزي العربي التقليدي ، تتخللها حوانيت متواضعة جداً ، كحانوت " السيد مركز "  يستعمله كدكان ومبيت في آن واحد )، يقابله في الطرف الآخر منزل ودكان المستكرد " بوزكي هنداويه".  بينما تصطف في شمال الشارع دكاكين ومنازل طينية تتميز بضيق أزقتها ، تسكنها عائلات أرمنية وبيسية على الأغلب، تتمركز في وسطها كنيسة حجرية للأرمن الأورثودوكس مع مدرسة ابتدائية مختلطة لجميع مكونات المدينة،  يمتد هذا الحي شرقاً لتبدأ دور المهاجرين الذين سكنوا كوباني بداية القرن المنصرم قادمين من المناطق القريبة من حدود أرمينيا، وذلك هرباً من اعتداءات الميليشيات الأرمنية المتعاونة مع القوات الروسية في حربها ضد الدولة العثمانية التركية، برز من هؤلاء المهاجرين الكورد " ملا عارف" كرجل دين  و" خوجه صولان" ( Xocey Solan ) كمدرس لأطفال تعليم القرآن ( في الحقيقة كانوا جميعاً متدينين دون استثناء.
أختتم مشاهداتي عن هذا الحي بالحديث عن العائلة العباسية التي امتهنت مهنة طهر الأطفال والتي لم تسمح لغيرها العمل بهذه المهنة النبيلة لأنها مخصصة للنسل العباسي العربي فحسب .

يتبع...
تعديل المشاركة Reactions:
حكاية سنة من كوباني ... " Dîroka salekê "

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة