-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

كُلي مور " kuli mor "



خليل عثمان


اتكأ على مخدته ، وأشعل سيجارة ، وهو يرى خيوط دخانها تتلوى أمامه وتتلاشى ، أحس بالفراغ يحتويه ، وهيمن عليه شعور بالرهبة والفزع من هذا الليل الثقيل .
لعل وجود تلك المقبرة بجوار مدرسته ، جعله يشعر بالخوف من الموتى الذين يرقدون بصمت أبدي ؟
نهض لينزع أغلال قطته ، التي كانت كالنائمة في المهد ، وبدت عينا القطة تحملقان في الظلام ، وتفحصان شيئا ما ؟
ثم انزوت في إحدى زوايا الغرفة المظلمة وتكومت !


فتح باب غرفته وخرج ...!
كان الليل قد بسط ظلاله على القرية ، ونثر الكآبة في كل زواياها ، بدأ يحس بأن قواه تتجسد ، وأفكاره تتبلور ..!
كانت القرية تذوب في سواد حالك ، وكل شيء صامت وكئيب ، كما تلك المقبرة الموحشة .
هذه القرية مرمية في تلك السهول الأبدية ، وهي لا تكف عن سرد تلك القصص التي لا تنتهي عن قاطنيها ، وكأن بهم في عزلة عن الكون وما فيه .
سحب مقعدا ووضعه بجانب الشباك ، وجلس يكمل سيجارته .
كان الليل يمر من حوله حاملا الرهبة والتقوقع ، بينما الأرض لا تزال مبتلة من أمطار الأمس ، والهواء يشتد في الخارج ، ويود لو يبتلع كل شيء .
تأفف بكآبة هائجة ، ثم انفرجت أساريره ، وهو يرى صديقه الوحيد في تلك القرية مقبل إليه ... !
ألقى " سيامند "* التحية ؛ رد عليه (الأستاذ) ، وهو اللقب الذي طغى على اسمه ، منذ أن تم تعيينه معلما في هذه القرية ، القابعة في أقصى الشمال .
صمتا وهلة ثم دخلا الغرفة .
بادر الأستاذ ضيفه :
ما رأيك باحتساء المتة ؟
( كان قد أدمن شربها أثناء تأديته الخدمة الإلزامية ) وضع الإبريق على النار، ثم جلس وهو يرحب بصديقه سيامند .
كانت غرفته الملحقة بالصف متواضعة ، تعمها الفوضى ، و كل ما حوله يتثاءب في خمول ، والعفونة تتصاعد من كل شيء .
ولكنه بدأ يشعر بالحياة تشتعل في داخله من جديد .
وتتابعت خواطره عذبة رخيمة بوجود صديقه ... !
كان سيامند يقصد الأستاذ في تلك الساعة ، ليفرغ ما في قلبه من الأحزان والآلام، فهو يثق به دون غيره، ربما لأنه غريب عن تلك القرية، وربما لأنه خبير بشؤون الحب ، وخفايا القلوب .
أخذت البرودة تسري في أوصال سيامند، ثم أخذت عيناه تجولان في المكان، وتلك الطفرة من السعادة المجهولة، تشرق فجأة في أغوار نفسه .
ما لبث أن بدأت الكلمات تتساقط من فمه ؛ أما معاناته وهاجسه الوحيد فهي (كلي مور) ، وهذا اللقب أطلقه عليها سيامند للتمويه، فحتى تلك اللحظة ، لم يتعرف الأستاذ إليها ، رغم معرفته بأغلب فتيات القرية !
كان العاشق يحاول اختيار أعمق العبارات ، بينما الأستاذ شارد في عالم آخر، وتتوه كلمات سيامند عن مسامعه ، وهو يومئ برأسه بين الحين والآخر، فقصة سيامند مع (كلي مور ) حفظها عن ظهر قلب .
كم كان يشبه سيامند في مشاعره ومعاناته ، أما ذلك الصراخ الصامت ، والقادم من أعماقه فكان يقمعه كلما حاول الخروج من بين ضلوعه .
انتصف الليل ، وقد باح سيامند عن حبه وطال إسهابه دون أن ينتهي ، ثم ودع الأستاذ ، وخرج قاصدا منزله ، وهو منهك تماما .
أهمد الأستاذ النور ، واستلقى على سريره ، محاولا الخلود للنوم ، ولكن دون جدوى !
وكعادته في معظم الليالي التي قضاها هنا ،
بدأ باستعادة ذكرياته منذ قدومه إلى مدرسته هذه !
لقد جلب إلى ذهنه حواره مع صديقه ، ذلك اليوم حينما بدأت قصته بغمزة غامضة من نسرين ، وبعدها عادت إلى الصمت .


ولكن عينيها كانتا قلقتين وتنظران في كل الاتجاهات !
وهو حينما رأى عيناها ، أحس الدبق يزحف إلى حلقه ، وصار لسانه يتلكأ بين أسنانه .
ثم تتالت الأيام ، وكلما رآها انبثق الدم في وجهها وتألقت لرؤياه .
أما هو فقد كان يفيض في أعماقه شيء خبيث ، وأثقلت صدره ، ومن تحته القلب والضلوع ، وهو رغبته بأن يقبلها ، ويحتضنها ، ويمضي بها إلى ما وراء الغيوم .
لقد أمحت تلك الغمزة عندما التقى بها للمرة الأولى ، علامات الصبا من كل ركن من وجهها ، إلا العينين العسليتين الهادئتين ، فهما تشعان بريقا يمزج الطيبة بالثقة ، وبشيء آخر لا يفهمه ؟!
ضحك في أعماقه ، وهو يعيد تلك اللحظة ، حينما بقي واقفا ، وقد نسي نفسه ، أن الشمس التي توسطت السماء ، تكاد أن تلهب ظهره ورأسه .
توقف خياله هنا فجأة على صوت صادر من مكان ما في الغرفة ؟ نهض ينظر في أرجاء غرفته ، ثم جدد تسخين الماء ، ليحتسي المزيد من أكواب المتة مع الزعتر البري .
مرة أخرى عاد الشوق المبرح يطل من الماضي من جديد ؛ حينما حملته تلك الحافلة إلى هذه القرية النائية ، وقتها كان كل شيء حوله يوحي له بالتفاهة والعدم ، وكأنه أمام لوحة كئيبة مشوشة الألوان .
في صباحه الأول ، صدم وهو يرى عيون رمادية وقد أضنى الذبول أجفانها !
إنهم تلاميذه ، وهو هنا من أجلهم .
حينها سأله أحد التلاميذ بمرح صبياني :
أأنت أستاذنا الجديد في هذا العام ؟
بان الاضطراب على وجهه ، وأجاب بصوت خانق :
- نعم يا بني .
مضى الزمن ثقيلا في أيامه الأولى، ثم تغير كل شيء، فالقرية لم تعد بالنسبة له كما كانت !
فهنا دون غيره من بقاع الأرض ، تغمره نشوة طاغية ، ويطوف بروحه حبه الجديد والدافئ ، كما يتدفق الدم في القلب .
وينتهي الفصل الدراسي الأول ، ومعه يمضي الأستاذ إجازته مع الأهل في مدينته ، وهو ينتظر بأحر من الجمر ، العودة إلى القرية ، فشتان ما بين ذهابه للمرة الأولى إلى هناك ، وبين عودته الجديدة .
وصل القرية ، هبط من الحافلة ، تفاجئ بوجود أعداد غفيرة من البشر ، وهم يجتمعون في ساحة القرية ، وصوت الغناء و الموسيقا يصم الآذان وحلقات الدبكة ، حيث الفتيان ، والصبايا بتلك الألوان الصارخة والبراقة والتي تسر الناظرين .
دعوه إلى الحفلة ، جلس بجانب صديقه سيامند ، والذي بدا حزينا ، غارقا في الهموم ؟!
- سأله الأستاذ : من هي العروس ؟
ساد الصمت ومضت لحظات ثقيلة ثم جاء صوته هامسا حزينا :
(كُلي مور )


- و العريس ؟
- ابن عمها حسو
هنا تجمدت الحروف على لسان الأستاذ ، وبدأت أحلامه تتمزق في صدره حلما حلما ، أحس بها تنكمش في قلبه ، وتستحيل إلى طفلة عنيدة، وألم لن يبرح قلبه، مادام ينبض .


ولكن لماذا يتخبط قلبه وتجف حنجرته ؟! وهو لم يصارحها بحبه حتى اللحظة !؟
عندما نزل العروسان إلى الساحة ، ولاح للأستاذ ذلك المشهد ، رمقها بنظرة عتاب ، ثم خفض بصره ليتخلص منها ، أضطرب كيانه ، وطغت على نفسه أحاسيس دفينة ، طالما حاول أن يتجاهلها ،
ثم رفع عينيه من جديد ، ليلمح عينا نسرين العسليتان ، وهما يلمعان ببريق مختلف ، لحظتها كانت نفسه مرتعا لآلاف المشاعر ، وهو غارق في الضعف ، لقد عادت الصور الرهيبة تتراءى له وتطرق ذهنه بإلحاح ، فتثير غضبه وحقده ، فوقف واجما مضطربا ...
ثم قالها لصديقه في شبه ضحكة خانقة :
- أتعلم يا صديقي سيامند( كلي مور)* هي نسرين !
- أتعلم من هي نسرين ؟
أراد سيامند أن يطرد هذه الكلمات الثقيلة التي نطقها الأستاذ عن رأسه، ولكن عبثا ، فهي تدوي كحجر الطاحون، ثم نهض متوجها إلى بيته .
في تلك اللحظة كان الهواء رطبا ومنعشا والأستاذ ينظر إلى السماء ، التي بدت صافية تتلألأ، وتحت أشعة الشمس، ظهر غراب أسود يتجه شرقا حيث المقبرة، ثم ظهر على جانب المقبرة شاب متعب القسمات ، وأخذت القبور تتراقص أمام عينيه،
هناك كانت الأصوات أقل جلبة، بينما أنغام الموسيقا تقتلع من قلبه السكينة، وتورق في نفسه أدغالاً حزينة، وتردد الصوت في رأسه كالصدى .
بدا كالشبح وهو يتوجه إلى غرفته موطئ الرأس، بخطوات مضطربة إلى أن غاب عن أنظار الجميع
.
في الصباح التالي، كانت الوجوه الصغيرة أمامه، والغيظ المكتوم يكاد ينفجر بداخله، فأجيال المستقبل بين يديه، ضميره الحي يستيقظ، لن يسمح للملل بالعودة إلى قلبه، جلس على مقعده، نفض الغبار المتراكم على المنضدة، نظر إلى التلاميذ بتحد، ثم بحنان !
تطلعوا إليه صامتين، نادى أحدهم، أمره أن يكتب عنوان الدرس، وبعد انتهاء الدرس، كان ينظر من النافذة، بينما تداعب النسمات أوراق الشجرة العتيقة، وتطوف بخواطره أشياء لا حصر لها .



...........................


- هوامش :


- كلي مور: صاحبة الجدائل البنية، وهو لقب أو كناية للمرأة الجميلة وكاملة الأوصاف .


- سيامند : الفتى النبيل، وهو بطل إحدى قصص العشق الشعبية للفلكلور الكردي ( سيامند و خجى )
                          
تعديل المشاركة Reactions:
كُلي مور " kuli mor "

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة