أحمد خميس / خاص سبا
عقب
مُضي عدة أيام حسبما أعتقد أصبحتْ الحياة بالنسبة لي شيئاً من الماضي، أو إن جاز
القول أُسقِط الزمان كمفهوم للتعبير عن تعاقبية ما، بدا وكأن كل شيء لا ينتمي لشيء
آخر، المكان، الزمن، والإحساس.
ذكرياتي
أصبحت ثقيلة كقطع من الطوب السميك، تزعجني ولا تعنيني، لا يعنيني منها الجميل أو
القبيح، لم أعد أكترث إن كان لي صحب وأهل ووِلْدٌ ذات حياة ما.
نظرت
إلى الأعلى بعينين متآكلتين، بحثت عن سماء؛ أيّ سماء حتى لو كانت صغير، صغيرة كخرم
إبرة. لكنني عبثاً أناظر... فالكلاليبُ ذات الكلاليبِ التي أراها كل يوم وجثث على
الأرجح بشرية تلك التي تتدلى منها وقد تيبّست واخشوشبت.
صراخ
خُدّجٍ أسمعه بين الفينة والأخرى...، فأسأل نفسي:
أيتناسل الأموات؟
تبّاً يا شيخ حارتنا!
كم كاذب أنت!
ريح رطبة عفنة باردة تلفح وجهي الشاحب البائس، ريح تقطّر دماً...
الغريب
بالأمر بأننا مجردون من أكفاننا، لا ستر في الوجود أجمل من كفن يستر عورة ثعابين
منهكة، وأشباه كائنات ليس مثلها شيء.
فوق
الأرض يوماً تعلمت من شيخ كنت أحسبه جليلاً بأن ملائكة القبور يتمثّلون لنا عقب
الرحيل أشكالاً تتناسب وأعمالنا في الدنيا.
ملائكتي
كانوا خنازير، وسلاعٍ... يشبهون العفاريت في حكايات جدتي سارة.
أأعود
يوماً وأطهّر من أدران دنياي علّي أحظى بملائكة أرحم من هؤلاء؟!
نادى
منادٍ بصوت يشبه صوت جنّ يتغوط:
-
فلينهض
نزلاء القبور قاطبة إلى صالة الطعام، حان وقت إطعامكم.
هنالك
مغالطات كبيرة في الحقيقة بين ما تمّ تعليمنا إياه وبين ما نعيشه الآن، وتساءلت:
-
أحقاً
فعلتُ ذات حياة ما فعلتْ لأستحق ما أنا به الآن؟!
-
لا...
لم أكن مجرماً، ولا لصّاً، ولم أشرك بالله شيئاً، لم أخن عهداً، ولم أعق أمّاً ولا
أباً.
كانت
تفوتني بعض الصلوات...، لستُ أنكر، لكنني لطالما كنت أقضيها بجوف الليل وحدي، لم
أختلِ بجارتنا في الدار إلا مرة واحدة وجلّ ما حدث أني قبّلتها واحتضنتها بقوة
ورسمت لها على كفّها الأيمن فراشتين صغيرتين، وعلى الأيسر كوخ ريفيّ ونهر.
في
صالة الطعام يتكوّم اللحم الأسود المتعفن، وشيء كما الذباب الأزرق والدود، فئران
بأنياب طويلة وجرذان بمخالب تخرج من بعض البطون والظهور مسرعة فلا تهرب، تقف
قبالتنا، ترمقنا وترسم على وجوهها ابتسامة وعيد لا يرحم.
يسكب
الخنازير الطعام فوق أكداس الجثث، يحملون السياط ويقفون فوق رؤوسنا، يجبروننا على
تناول أجساد يبدو وأنها قضت قبلنا.
كنّا
نسترق النظر أحياناً إلى بعضنا وكأنا نقول: مَن منّا سيلتهم الآخر بعد مدّة؟!
أكلت
بعضاً من رفاقي، وعدت أزحف إلى وكري، لم يمضِ وقت طويل حتى اقترب مني خنزير بحجم
الفيل كاشراً فاغراً فمه كحنشٍ أبرص.
أخرج
قلماً يقطر دماً، وخطَّ على جبيني شيئاً وراح يقول:
-
(١٥١٩٣).