شمس عنتر
كانت تضرب كفّاً بكفٍّ وقد اصفرّ وجهها، وارتخت أطرافها، تضربها رياح الحيرة من كلّ جانب، وقد سقطت منها البوصلة، وانعقد لسانها، وانهارت قواها، تهاوت على الكرسي قرب طاولة المحقّقة، وهي تغلظ في القسم أنها لم تكن تعلم.
كانت ترفع كلّ ثانية كفّها، لتمسح عينيها، وشفتاها ترتعشان.
تخلّت المحقّقة عن هدوئها فجأة، وثارت على سناء حين ذكرت اسم المعلّم، أخرستها قائلة: لا تتسبّبي بمضاعفة تهمتك، والزمي حدودك.
لم تُجدِ كلّ توسلات سناء باستجداء الشفقة من المحقّقة التي أمرت بسجنها.
أخرجت من حقيبتها هاتفها الذي كان على هيئة دفتر، فتحت الواتس آب، دوّنت رسالة، حرصت ألّا يلاحظها أحد، وعدّلت الملفع الأخضر على رأسها، وسحبت نفسًا عميقًا من السيجارة، بعد أن أشعلها لها زميلها. التفتت إليه قائلة: هذا الشعب لا يستحي فعلًا! معقول اِمرأة مثل سناء تكون بهذا السوء؟ أنظر إلى أين وصل الجشع بالناس، نحن نقدّم الشهداء، وهم يعيثون فساداً بالوطن!.
سناء ما تزال تحت الصدمة، كانت يداها تنهالان على فخذيها بالضرب دون توقّف، وهي جالسة بين السجينات.
أنا أستحقّ ما يجري لي، لكن مستحيل أن يفعل المعلّم شيئًا كهذا، هو مسؤول كبير، لا، لا أصدّق.
كانت سناء تخدم في بيت أحد المسؤولين الكبار، وقد أخذها للمزرعة مع مجموعة عمّال لزراعة بعض البذور، وضعت حفنة من تلك البذور في جيبها، وقامت بزراعتها في حوشها لاحقًا.
كانت تهتمّ بها، وتغطّيها بغطاء بلاستيكيّ، لتنمو بسرعة، وتستفيد منها.
في إحدى المرّات حين كان سائق المعلّم يوصلها للبيت سألها عن”المزرعة” في حوشها متهكّماً، فحكت له متفاخرة:
أنا أستغلّ كلّ فرصة لكسب بعض المال، حمل بناتي الأربع ثقيل جدّاً بعد أن استشهد والدهم، وراتبه التقاعدي لا يكفي لشراء الخبز وحده في هذه الأيام السوداء.
كان يومها التالي أكثر سواداً حين داهمت منزلها دوريّة، واقتلعت الشتلات، وساقتها إلى السجن.
تقدّمت منها إحدى السجينات، وسألتها عن تهمتها، فاختنق صوتها، وأصبحت تحكي لهم بالإشارة، ما جعل القهقهة ترتفع مع الكلمات البذيئة.
حين عاد إليها صوتها أقسمت أنّها كانت تعتقد أنّها بذور الملوخيّة.
لكنّ المحقّقة تقول: إنّه حشيش. وعادت القهقهة أكثر ارتفاعهاً بين السجينات.
حين أخبرتهنّ عن سلوك المحقّقة، وتهديدها بالويل والثبور إن ذكرت اسم المعلّم في أيّ مكان. تحلّقت حولها السجينات مصغيات باهتمام بالغ.
أقسم بالله كنت أعتقد أنّها بذور الملوخيّة.
مزرعة المعلّم في طرف مدينة القامشلي محاطة بسور، وفيها العديد من أنواع الأشجار، وقد زرع مساحة كبيرة تعادل عشرة أضعاف مساحة هذا السجن بهذه “الملوخية”، فلماذا يسجنونني أنا، وحوشي مساحته سبعة أمتار فقط؟
إحدى السجينات احتضنتها قائلة: أمثالنا فقط يقعون في يد العدالة الرحيمة! أما أمثالهم فالمناصب تليق بهم.
ألا يكفي أنّ الله عاقبني بأن أخذ زوجي، وترك في رقبتي أربع بنات في هذا الزمن الأغبر؟
نلهث ركضًا وراء الرغيف، وننسى أنفسنا حتى نسقط في القبور.
ردّت عليها إحداهنّ، وقد كانت منزوية بعيداً: ولماذا تحمّلين الله هذا الذنب؟
إنّه هو نفسه المعلّم والمحقّقة من أخذوا زوجك، هؤلاء الكلاب لا يرون ذيولهم، لم يحاربوا، وانهزموا، وتحللوا، ولم يموتوا!
وضعت إحداهنّ كفّها على فم المنزوية قائلة : يبدو أنّك لا تستوعبين الدروس، اخرسي ودعينا نقضي المدّة بسلام.
في اليوم التالي استبشرت سناء خيراً عندما استدعتها المحقّقة، وكان سائق المعلّم جالساً هناك، وبعد طرح عدّة أسئلة جديدة كان مصيرها السجن المنفرد لتبقى في ظلام وسكون سرمدي خارج أسوار الحياة، والأسئلة تضجّ برأسها الذي تضربه بحائط أخرس أسود قذر.