حاورها: إدريس سالم
القسم الثاني والأخير
«تنطلق
أحداث رواية أرواح تحت الصفر السردية من حيّ الشيخ مقصود الكردي في مدينة حلب،
واجتياحه من قبل كتائب تابعة للمعارضة السورية تعبث وتكبّر باسم الله، وسط ذهول
القاطنين فيها من لباسهم وما يضعونه من أشرطة ملوّنة على جباههم، في زمانية حكائية
غامضة الملامح، لتتفاعل لاحقاً في مدينة حمص، بالتزامن مع إحدى قرى مدينة عفرين،
لتلجئ عائلة السيد حسن بعد تدهور الأوضاع في عامة سوريا إلى مدينة اسطنبول، ليكون
البحر وحدود تركيا مع جيرانها من الجهة الأوروبية آخر محطّات البيئة المكانية.
تجسّد أفيستا وجيان معاً شخصية بطل
الرواية، الحالمتان بالعيش في كنف الحبّ والعشق مع حبيبيهما، في مجتمع يسوده الخير
والتحرّر الروحي والفكري، لكنهما تعانيان اغتراباً جسدياً وروحياً كاملاً. فأفيستا
التي تملك شامة شاهقة تتربّع فوق شفتها، طالبة جامعية، صديقة جيان، وابنة يحيى بن
صديق، ضابط أمني انتهازي «يمثّل الشخصية الشرّيرة في الرواية»،
وأول المصفّقين للثورة السورية؛ ليعبث بحياة المعتقلين والمفقودين والمختطفين
وذويهم. تعشق شفان زميلها في كلّية الهندسة عشقاً كبيراً، فيرفض والدها قبوله
زوجاً لابنته؛ لكونه معارض للنظام»[1].
إلى استكمال أسئلة الحوار، بجزئه الثاني والأخير:
· هل ترين أن مهمّة الروائي السرد فقط، أم ليصنع عبر منتوجه
واقعاً حيّاً ناضجاً للنهوض بركام الفوضى المجتمعية والخراب الوطني؟
الكاتب
ومنذ القدم يمكنه أن يشعل من إنتاجه ثورات، ويتصدّر قيادة جيوش تكون بإمرته، كما
فعل «ترجنيف وتلستوي» وغيرهم من الأدباء، لتوجيه الحياة الأوربية نحو حياة أكثر
إنسانية.
لو
عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنرى الحكواتي الذي كان يرسخ عن طريق التسلية الجماعية
قيم وعِبر أخلاقية تحلّى به أبطال القصص.
حاولت
في تجربتي الأولى رصد المشاكل والمعاناة،
كالعنوسة والاستغلال المادي
والشهواني عند البعض، وتسليط الضوء على التعسفية القائمة على مدح الأطفال وتجاهل
ذويهم، لما له أثر على مستقبلهم، وكيف جرفت وسائل التواصل الاجتماعي إلى حياتنا
الأرق كمدّ سرطاني، تباعدنا رغم القرب، واقتربنا رغم المسافات. تمنّيت لو كنت أملك
ترياقاً يعافي جسد وطني من سمومه، وأعيد كل ابتسامة فرّت من وجه طفل هرمت
ملامحه قسراً.
ربما
لم أكتب ما هو أقرب للتسلية من المأساة، لا أملك علاجاً سحرياً للمشاكل والكوارث
التي حلّت علينا، لكن بكلّ ما أتيت من قوة حاولت البوح ورميت حلولاً ومعالجات.
· الرواية كانت سرداً حكائياً لقصّتين متداخلتين – منفصلتين،
حيث وزّعت الأدوار في فصولها بين جيان وأفيستا.
ألا ترين معي أن ذلك أثر سلباً عليك كروائية جديدة؟
وفي السياق نفسه: لماذا لم تسمّي فصولاً باسم زنار حبيب
جيان، أو شفان حبيب أفيستا، أو حتى جوان شقيق جيان؟
تركت
روايتي لبطلتين عاشقتين تجرّعن من بحور الحبّ والحرب، وحاولت تسريب كلّ الأحداث عبرهما،
لم أجد في هذا المسار أيّ تشويه على الرواية، ربما كما تفضّلت لو خصّصت فصولاً
لبقية الشخصيات لكانت إضافة جميلة في بعض الأماكن.
· جاءت في الصفحة (78) فكرة جميلة: «أبشع أنواع الحرب ألا
تعرف مَن عدوّك».
برأيك هل الكرد يعرفون عدوّهم الحقيقي، الذي لا يزال يعبث
بهم؟
القضية
الكردية بالغة التعقيد، في كلّ حدث يحاولون فكّ تشابك خيطين، فنأمل بالخلاص لينتهي
بنا المطاف بتشابك عقد عنكبوتية، سبق وذكرت في الرواية على لسان أحد الشخصيات
«بأننا نحمل السلاح ليس للدفاع عن قضيتنا إنما لإسكاتنا». الكورد ضحية أحزابهم في
الدرجة الأولى، وأول صفعة كانت من أقرانهم. إنهم شعب مناضل، يكافح بعزم وقوة، لكنه
لا يملك قيادة.
مَن
شعر بلذّة القوّة لحمله السلاح لن يتخلّى عنها بسهولة، وهذا ما سيأخذ قضيتنا لمصير
مجهول.
· ما أهمية الذاكرة في نقل أحداث حقيقية إلى ذاكرة مقروءة؟
منذ
الصغر كنت أتمعّن بالأحداث الجارية في محيطي بكلّ حوّاسي؛ لأمتصّ الحدث، وكأن رأسي
محشوّ بقطعة إسفنجية تمتصّ أدقّ التفاصيل، لأسرد في الحصص المدرسية خرافات من
تخيّلاتي، استوحيتها من حدث مرّ أمامي قبل أيام، ما نحن بدون ذاكرة سوى آلات
متحرّكة، فلا يمكننا أن ننفض غبار الماضي وما يجوب في مدار أيامنا عن كاهل
أقلامنا، ونتجرّد من الذاكرة.
· لكن سطوة النسيان لم تغلب على ذاكرتك المكانية. فهل تعدّ
الذاكرة المكانية جزء من ذاكرتك المسؤولة عن تسجيل المعلومات حول بيئتك الكردية
وتفاعلها مع بيئة مكانية جديدة، كقريتك في عفرين واسطنبول واليونان؟
سطوة
القهر يدفعنا لنتخبّط في وحل الذاكرة، فيأبى النسيان أن يطالنا.
تفاصيل
الزمكانية التي مرّت بها طفولتنا، والنوستالجيا التي تخطف الألباب ندبة عميقة على
جسد الذاكرة، ستبقى جالية بتشوّهها، ولن يخفى أثرها مهما عصفت بنا السنوات.
لا
بدّ أن يستعين الكاتب بذاكرته المكانية في وصفه لمكان ما في الرواية، فتلخيص
الذكريات المكانية كخريطة إدراكية يستند إليها الكاتب في سرده.
· القهر – بحسب قراءتي العميقة لأرواح تحت الصفر – كان محوراً
رئيسياً في تفاعل الأحداث والقضايا.
هل القهر أصل كلّ شرّ؟ وهل أبطالك في الواقع الحيّ ذهبوا
قسراً إلى قهرهم، أم اختياراً؟
لا
أحد يذهب للقهر ويجعل روحه تتبخر، الموضوع أشبه برجل علّق قدميه في حفرة من الوحل
والإسمنت، سيفعل المستحيل لرفع قدميه والمضي للأمام رغم خطورة ما بانتظاره، لكنه
يحاول الإفلات حتى لا يقتل ببطء.
النزوح
الجماعي من المناطق المشتعلة مثلاً لم يكن اختياراً بل قسراً، لم يعد الموت وحده
يخيف الشعوب بات ما هو أبشع منه.
لوحة «التراجيديا»
للرسام الإسباني «بابلو يبكاسو»
|
الأفواج
البشرية، الذين أخذوا من مركب مهترئ خلاصهم، وجعلوا من أطفالهم وأرواحهم دولاراً
في بنوك تجّار البشر والمهرّبين ليبدؤوا بخوض الجولة ببلم ممزّق، ويتراهنوا على
كسب الرهان مقابل أرواحهم، هؤلاء كانوا أمام خيارين: الموت غرقاً أو الخلاص.
· أيّهما الأكثر إلهاماً لروحك: البحر المبلّل بالصراخ
والخوف، أم الموت المتربّص بنا من كلّ حدب وصوب؟ ولماذا؟
كما
سبق وذكرت، نحن جبناء أمام الموت البطيء. التخيّلات تقتلنا قبل الحدث نفسه، لنحتضر
بأفكارنا للكارثة المنتظرة.
عملية
الغرق تستغرق ساعات، بينما العيش في طابور منتظراً موعد قتلك ربما تستغرق عمراً
كاملاً، فمَن قطع البحر ونجا يعيش الرفاهية تعيساً، ومَن رفض النزوح يعيش الكارثة
راضياً.
نحن
أولاد أم جائرة في الصباح، تعنفنا إن صدقنا، تعاقبنا إن تمرّدنا أو اعترضنا،
وبحلول الليل لا يحلو لنا النوم إلا تحت إبطها، لتعشّش عطرها في أنفاسنا، هذا هو
الحنين للوطن، نشتاقه رغماً عن أنفنا.
· برأيك: هل الموت والحرب يقهران الإنسان، أم الحبّ
والاستغلال؟ وما الرمزية التي يحملها القهر؟
الحرب
أبشع ما توصلت له البشرية منذ قرون، ويتّبعه القهر والاستغلال، ليدخلوا من أوسع
أبوابه، ويوزّعوا الموت بالمجّان وللجميع.
الحبّ
حالة شعورية يهيم في أرواحنا، يغلبنا الصمت، ويتملّك منّا عمى البصر والبصيرة، لا
يمكن المقارنة بين الحرب والحبّ والتشابه بين مواجعه؛ فالحبّ ربما جحيم، لكنه
يطاق، وكقول «الأم تيريزا» عن الحبّ «إذا أحببت حتى تألّم قلبك، فلن يكون هناك
المزيد من الألم، فقط المزيد من الحبّ»، لكن الحرب تدفعك لتتألّم وتنزف وتصرخ
وتقتل إلى يوم البعث.
· تقولين في الصفحة (102): «أن تكون نازحاً يعني أن تخفض رأس
كرامتك، وتبقي روحك لقمة سائغة».
هل المنظّمات العالمية التي تنادي بصون كرامة اللاجئ تحمي
تلك الكرامة بالفعل، أم أنها مثلها مثل الأنظمة الديكتاتورية؟
لا
بدّ أنهم تغاضوا عن المجازر التي ترتكب بحقّ الشعب الأعزل، وكلّ هذا يصبّ في وحدة
المصالح. وشعاراتهم كلمات منمّقة كتبها عامل فقير ويلقيها المدير بكامل أناقته
وحذائه اللامع أكثر من أفكاره في اجتماع للبحث عن حلول جذرية للحرب الدائرة في
الشرق الأوسط، وبعد الاجتماع يحتفلون بنخب الكلمات والوعود الوردية للفقراء،
وينسون الورقة، والشعوب مشتعلة في منفضتهم الذهبية.
· جديدك الأدبي أفين؟
حالياً
سأتفرّغ لإتمام دراستي في اللغة الألمانية، وسأكتفي بكتابة نصوص نثرية بين الفينة
والأخرى، حتى لا تتصلّب شرايين الدم في أوردة قلمي، ويذبل روحي.
· كلمة أخيرة لك: ما هي؟ ولمَن توجّهينها؟
السلم
والسلام لكلّ شعوب الأرض، والحرّية لمشاعر المحبّة والمودة المقيّدة في داخلنا
بأغلال الحقد والكراهية. تكاتفوا كما تكاتفت المصائب في وجهنا.
والشكر
الأكبر لك أستاذ إدريس لهذه الفرصة التي منحتني إيّاها عبر صحيفة وموقع «سبا»
الثقافية، ولثقتك بقلمي.
كلّ
الحبّ لكلّ قارئ احتضن كلماتي هنّئني
بمولودي الأدبي الأول.