ما معنى الوجود يسبِق الماهية؟ وهل الإنسان حرٌّ في أفعاله؟

في الخلاء البارد ليلًا، راح أهل القرية يراقبون الانفجارات واشتعال البيوت التي تصيبها القذائف. تجلّت مشكلة خروجهم المفاجئ في الأطفال الذي لم يتوقفوا عن البكاء من الخوف والبرد والجوع، ولأنه يستحيل إشعال النار، أو حتى عودة البعض لجلب بعض الطعام والأغطية، دخل الصغار في موجة جماعية من العويل عجر الأهل عن إيقافها.

سبارتكوس المُستند مع أبيه إلى صخرة توجّه بالكلام إلى طفل باكٍ وبدأ يتحدّث معه محاولًا تهدئته، لكنّ الطفل لم يبال واستمر في الصراخ، ما جعله يشعر بتحدٍّ كبير، فقال له: "ما يحدث لنا شيء بسيط أمام ما حدث للحيوان الرباعي". صمت الطفل قليلًا وقد شدّته عبارة "الحيوان الرباعي"، ثم عاد إلى الصراخ مجدّدًا، فلم يجد نفسه إلا وهو يتحدّث بصوت أقرب إلى الصراخ ليشدّ انتباهه: "يجتمع على ضفّة أحد الأنهار صديقان قديمان، كلب وحمامة، تعرفا على بعضهما البعض بعد مشكلة كبيرة، لأنّ الكلب يعمل مع صيّاد، الصياد يقتل الطيور والكلب يقوم بجمعها". لاحظ أن الطفل سكتَ مشدودًا إلى الحكاية، وكذلك راح بعض الأطفال القريبين منه ينصتون باهتمام، فأكمل: "اعتاد الكلب خلال سنوات عمله مع الصياد أن يجلب له الطرائد الميتة مطيعًا، دون أن يفكر بالأمر كثيرًا، إلا أنه مرّة ركض باتجاه مكان سقوط طائر، وحين اقترب وجد حمامة لا تزال حية، والإصابة في جناحها وحسب، وعندما حملها بين فكيه أشفق عليها لكثرة ما بكتْ، فالحَمَام حينما يبكي تصدر منه موسيقى حزينةٌ لا يستطيع أحد مقاومتها. وضعها على الأرض وراح يلحس الدماء عن الجناح، ثم حملها وهرب بها إلى مكان بعيد، مقرّرًا ألا يعود إلى خدمة ذلك الصياد أبدًا".

ساد الهدوء في المكان وبدأ الأطفال يقتربون منه، ولم يعد من صوت مسموع إلا صوت سبارتكوس الذي ترافقه أصداء الانفجارات كمجرد خلفية.

"ظل الكلب محاولًا إيقاف النزيف بلسانه، وخلال ذلك شاهدته سمكة أطلّت من النهر، فأخبرته أنها تعرف عشبةً مائية تساعد على شفاء الجروح، وفعلًا حين أحضرتها للكلب ووضعها على جرح الحمامة بدأت بالتحسّن السريع. وبعد شفائها بأيام نمت صداقة بين الثلاثة، جعلتهم يجتمعون كل يوم على ضفة النهر. لكنّ الصياد الغاضب يريد قتل الكلب الخائن".

تحولت جلسة سبارتكوس إلى ما يشبه مسرحًا، يلتف من حوله الأطفال وأهاليهم في نصف دائرة يستمعون إلى الحكاية: "بعد زمن، عند ضفة النهر، بينما كان الأصدقاء يتحادثون، الكلب قرب الضفة، السمكة من الماء، الحمامة من فوق غصن شجرة. رأى الصياد الكلب فصوّب بندقيته باتجاهه، وفجأة انطلق صوت الرصاصة، لكنها خابت ولم تصب الهدف، فانتبهت الحيوانات إلى الصياد المذعور من التفاف أفعى على قدمه، فهب الكلب لمساعدة صديقه القديم دون أن يعرف أن الأفعى جاءت لتنقذه، وما إن بدأ الصراع بين الأفعى والكلب حتى هرب الصياد تاركًا إياهما يتقلبان فوق بعضهما البعض، ليسقطا دون أن ينتبها في النهر. حاولت الحمامة التي طارت إليه أن تحمله وتطير به، بينما غاصت السمكة مسرعة لتشتيت تركيز الأفعى كي تعطيه مجالًا للهرب، لكن الحيوانات الأربعة غرقت معًا في دوامة كبيرة سببتها حركة أجسادها المذعورة، وغاصت إلى أعماق النهر حتى اختفت تمامًا، وعاد الماء إلى سكونه. بعد قليل، ظهرت نافورةٌ كبيرةٌ خرج من أعلاها كائن عملاق، كأنّ الماء ضاعف حجمه، له رأس سمكة، وجسم أفعى، وأرجل كلب، وجناحا حمامة. طار عاليًا حتى اختفى".

طار الحيوان الرباعيّ إلى الأعالي حتى اختفى. حين عاد حطّ على ضفة النهر وبدأ يعصر نفسه من الألم. خلال ثوانٍ قليلة خرجت منه بيضةٌ كبيرةٌ. مع غياب الألم لمستها يدهُ الكلبية، فبدأت قشرة البيضة بالتكسّر، حتى ظهر في داخلها رجل عجوز يستلقي نائمًا. فتح عينيه وتمطى قليلًا، وحاول النهوض متثاقًلا. هذا العجوز ساحرٌ من زمن قديم توصّل إلى تركيب وصفة سحرية فريدة، وضعها في النهر قبل موته، في انتظار أن تجتمع أربعة كائنات مختلفة. مرّت قرون منذ ألقيت التعويذة إلى النهر دون أن تحدث هذه الصدفة.

حين استعاد العجوز قوته فتح يديه إلى الأعلى وتمتم كلماتٍ غامضة: هيموش.. منقوش.. فيروش. انحنى الطائر الرباعي أمامه. امتطى ظهره وانطلق في عمق الأرض، فللطائر قدرة على السباحة والمشي والطيران واختراق باطن التراب".

قطع القصة إعلانُ أحد الأهالي وأعلن أنهم يستطيعون العودة، لأنّ الوضع بات هادئًا.

وجد أهل القرية الكثير من المنازل مدمرة، لكنّ المأساة الكبرى التي فجعتهم جميعًا هي موت عائلة كاملة، مكونة من أبوين عجوزين وثلاث بنات عازبات.

ما أن دُفنت العائلة في اليوم التالي، حتى عادت النيران إلى نشاطها مساءً، لكن لحسن الحظ أن النسوة حضّرن في مكان الاختباء البري أغطية وأطعمة، ولففنها بأكياس بلاستيكية.

ليلًا، في البرية، تحت إيقاعات الانفجارات وأضوائها، طلب الأطفال من سبارتكوس حكاية، فراح يروي لهم قصّة لطالما تخيّلها عن زواج رجل من الجن لامرأة من الإنس، وكيف لوحقا من قبل الطرفين وقضي عليهما وعلى أولادهما، لأنهما يخرقان عهدًا قديمًا بعدم الاختلاط.

لاحظ أن بعض الأطفال غادروا دائرة الحكاية وراحوا يبكون كما في السابق، ولم يكن ليتوقّف لولا أن أحدهم قاطعه مطالبًا إياه بتتمة حكاية الحيوان الرباعي. الأطفال الآخرون، اللاهون منهم والباكون، أكّدوا على ذلك الطلب، فأيقن أنه أخطأ حين ظنّ أن الخوف هو من أبعدهم، إنه الملل ولا شيء سواه، فعلى الرغم من كونهم خائفين من عمليات القصف وأصواتها المرعبة، إلا أنهم يدركون أن تحدي الخوف في الحكايات يمنحهم الشجاعة التي يحتاجونها.

أصابته الحيرة، فليست لديه أية تتمة للحكاية. بالنسبة له انتهت عند ذلك الحدّ، ولولا مجيء إعلان الأهالي عن بدء الرجوع إلى البيوت ليلة أمس في اللحظة المناسبة، لأعتذر من جمهوره الصغير.

فهمت الذي يدور في باله وبدأت أرسم له تصوّري الخاص للقصة على حجر بجانبه، فأنا أيضًا يمكنني التخيّل، ثم إن الأمر سهل لكوني أعرف مصدر القصة الأساسي.

ما إن بدأ يحكي مجدّدًا حتى عاد الأطفال يلتفون من حوله، وانضمّت الأمهات، بينما ظلّ الآباء يوزعون اهتمامهم بين متابعة القصف وحلقة الراوي.

أخذت الحكاية عدة ليالٍ، يتوقّف فيها عن سرده حين ينام الأطفال، وتبدأ مسيرة العودة في الفجر، حتى لو انتهت وجبة القصف أبكر من ذلك. ومع غروب اليوم التالي يعودون إلى الاجتماع في المكان المعهود، تاركين البيوت تتلقى الحمم، فيما يستمعون إلى الحكاية التي طوّرها سبارتكوس كثيرًا، لأن النهارات أتاحت له فسحة للتفكير.

هدف الساحر من وصفته إعادة الموتى مرّة أخرى، وقدرة الطائر الرباعي على التحرّك في الأمكنة كلها، فوق الأرض وتحتها، تتيح له ذلك. يبحث عن الموتى، سواء كانوا جثثًا أم عظامًا أم أشباحًا، ليستمع إلى قصصهم، وحين يشعر أن الشخص جيد ولديه ما يجب أن يعيش من أجله يلتهمه الطائر بلقمة واحدة، ويمضي إلى منزله ويبيض هناك بيضة فوق السطح، أو في الحديقة، وحين يجد أصحاب البيت البيضة ويلمسونها من باب الفضول تنكسر القشرة ويظهر في داخلها أب أو أمٌّ أو أخ أو أخت.

أعاد الطائر مئات الناس. هذا ما رواه سبارتكوس للأطفال، فكل حكاية من حكايات حيوانه الرباعي تتعلّق أولًا باستحقاق الميّت للعودة إلى الحياة، وثانيًا بما يفعله في حياته الجديدة، سواء كان إنسانًا أو حوتًا نافقًا أو شجرة هرمة.

أثار ما يفعله الطائر الرباعي ملكَ الموت، خصوصًا حين أخبره جواسيسه أنّه عثر على بقايا عظام أثنى ديناصور، ماتت وفي بطنها بيوض، وهو ما جعله يقرّر القضاء عليه فورًا. وقف مُغمِضًا عينيه. حدّد مكانه. وبثوانٍ وقف في مواجهته. حوّله إلى حجر ومضى. بعد مئات السنين، ظنّ الناس أنّ أسلافهم نحتوا هذا التمثال لكي يجسّدوا صورة الشرّ. تخيّلوا له حكاية مرعبة، تقول إنه يقتل الناس جماعاتٍ ليحصل على كمية دم تكفي كي يستحم فيها، فتلك متعته العظمى. راح الشعراء يحولّون القصة إلى أغنية، كلٌّ منهم يضيف إليها مقاطع مرعبة. ثم وضعوه في متحف.

هناك، قرب تلك الصخرة، جاءتني فكرة نحت الحيوان الرباعي، وهو ما حدث.