حسين محمد علي / كوباني
أهذا أدونيس... هذا الخواء؟!
وهذا الشحوب، وهذا الجفاف؟
وأين القطاف؟
مناجل لا تحصدُ
أزاهير لا تعقد
مزارع سوداءُ من غيرِ ماء.
نبوءة السياب هذه لعلّها تُجسِّد نضوبَ أناشيد الخِصب والحَصاد في مملكة الماء والحور والعرائش.
أحدهم – وأعتقد هو أحد مدراء المنطقة – عبّر بطريقته عن ذلك النضوب الكارثي لمملكة الماء قال: ذهبنا لعين العرب، ولم نجد لا عيناً ولا عرباً!
أجل لم يبقَ شيء ممّا كان، وكأنّ الطبيعة قد انتقمت هذا الانتقام الرهيب! وحدها الأشياء الجميلة علقت في الذاكرة؛ ذاكرة الذين رأوا
وعايشوا!
وعلى الصعيد الشخصي كنت – دائماً – أشعر بفاجعة وإحساس وجيع حين تقودني قدماي إلى أطلال مرابع الخضرة والماء، إلى ملاعب الطفولة. إنّ إعادة التذكّر بالنسبة لي أشبه بفتح صندوق للألعاب أمام الأطفال بكل ما فيه من دهشة الكشف وشغف طفولي أقارنُ بين ما كان وما صارت إليه الأشياء. إنَّه زحفُ الجفافِ! زحف البيوت والإسمنت والحجارة وزحف العداء للطبيعة! وأكاد أقول للذين يطرقون هذه الأرض:
قفوا؛ لأذكِّركم بما كان! هنا كانت غابة الصفصاف، وهناك رتل من أشجار الرمان! وهناك شجرة تين يحرسها (توبال يوسف!).
ومع ذلك لا تنجو من غزواتنا ليلاً. وعند ذاك المكان حيث تجد دائرة حكومية (مصلحة المياه) وبيتٌ فارهٌ لأصحاب النِّعَم الحديثة، في المكان نفسه كانت مقبرة ترتاح فيها عظام موتانا نعرفهم واحداً واحداً! أما هناك حيث ترى إسفلتاً أسود، كان ممرّاً للماء العجول إلى سهول الخصب التي لا تخلف وعداً! هنا مجموعة من أشجار المشمش أطعمتْنا ذات عمر من جوع، وآمنتْنا من خوف، وأنعشتْنا ظلالها في هجير الصيف، في تلك البقعة حيث تتراكم بقايا أتربة وحجارة لبيوت مُهدَّمة، كانت حلقة متكاملة من أشجار الجوز محروسةً بأشجار الشوك وعيون أبناء المختار وبرعواد وعيون بوزي بكو. أترى تلك البيوت إلى الغرب من شارع بوابة الحدود ؟ كان هناك بستان هو مملكة الأرميني الكادح (مكر)، ما كنّا نجرؤ على دخوله؛ بسبب فظاظته وكان حموه (توبال يوسف) مستنفراً يراقبنا ويلوح لنا بعكّازه مهدداً؛ أنْ لا تقتربوا.
رائعة مهيبة كانت البحيرة (الكولة)، وهي تنيخ بكلكلها المائي، تبدو مثل رخام أزرق هي الأول من المسرى الأخضر والأزرق، ومن حولها في صباحات الصيف وعند المغيب أناسٌ يحتفلون بها، هي صلوات خاشعة لهذه البحيرة التي منحتنا الخصب والجمال والظلال وسلال الخير والأسماك الفضية المتراقصة على سنّارتنا، وقبل كلّ شيء منحتنا فرح الطفولة وهذيانها.
كانت البحيرة نقطة جذب لكل الأحياء، صنوف متنوعة من الطيور المائية كانت تأتي تطلبُ القُوتَ والأمان والاستراحة قبل رحلتها؛ كالبطّ والبجع ذات المناقير الكبيرة والجراب المتدلي لحفظ صيدها السمكي، وبشكل دائم كانت هناك مخيّمات للسلاحف المائية تخرج؛ لتأخذ حماماً شمسياً وضفادع تتقافز تنطّ على الحشرات، وتلاحق الديدان، وأحياناً تكون هي طعاماً وفرائس لثعابين الماء.
وعلى مدار أيام الصيف القائظة كانت حشود من الأطفال والكبار تراودهم نفوسهم للنزول إلى الماء، فتأخذهم رعشة الخوف من برودة الماء والمفاجآت المميتة أحياناً.
بداية النهاية لبحيرة الرخام الأزرق كانت عام 1959م، إحدى السنوات العجاف للوحدة السورية المصرية، أذكر واحدة من غضبات الطبيعة حين تخرج عن طورها في تعبير مرعب كاسح، عصر ذلك اليوم اكفهرَّت السماء بشكل مخيف كانت تحضّر لأمر غير عادي... سياط البرق تضرب في كل مكان، وعربات الرعد تطارد الشياطين المنفلتة، والعصافير في حالة ذعر شديد تلقَّتْ بغريزتها إشارات الطوفان القادم. وفتحت السماء صنابير مائها مجنونة غاضبة تلطم وجه الأرض؛ إنّه الطوفان إذْ كانت الانفجارات تتالى بشكل غير مفهوم، عرفنا أنها الألغام التي اقتلعها السيل العرم في طريقه عبر الحدود، واكتسحت المياه الجارفة الطينية البلدةَ قادمةً من تركيا، سيول من الطمي والحجارة اجتاحت البحيرة أولاً، وصبّت فيها جبالاً من الطمي والحجارة والموت المخبّأ في الألغام، في كل مكان وبخاصة في حوض النهر حيث هدأ الطوفان، استيقظت البلدة على هول الكارثة كانت البحيرة قد لفظت أنفاسها إلى الأبد أو كادت، لقد اختفت وغدت بحيرة للطين والتراب والقش، ماتت بحيرة الفيروز الأزرق، وتوقف قارب (حج فريدون شاهين) عن الإبحار فيها. وأنا ما زلتُ أذكر إبحاري الأول بصحبة (عبد القادر قطوان وشقيقي بوزان) وقد داهمني الخوف حين أصبح القارب وسط البحيرة، فكان يتهادى، وكأنّه يوشك على الانقلاب .
تقول إحدى حِكم الطبيعة: إن النّهر يظل أميناً لمجراه والينابيع محكومة بقوانينها؛ فالبحيرة التي كانت في حالة موت سريري بلغة الطب، إذا بها شيئاً فشيئاً تزيح عن جسمها كتل الطين والتراب وتنفض الغبار عنها، راقبناها تنهض من تحت الركام، وبدأت الينابيع الغربالية تنزُّ من جديد ولكنْ على استحياء، فرحنا... خفقت القلوب... صفّقنا لها، ومن وسط البحيرة بدأ مسيل الماء طريقه،
إلى لعبة الماء، لكنّ الأمور لم تعد كما كانت، فقط بارقة أمل لمعت وسط مشاعر اليأس والإحباط، كنّا نبحث عن الطفولة التي رحلت مع البحيرة، رحلت الطفولة بملاعبها ومسراها الأخضر والأزرق، دخلنا في زمن آخر ومكان مختلف عن المكان الذي عرفناه، وحتى ذلك المسيل الخجول من الماء قد غاض، وها هي اليوم قد غدت مجرّد حفرة كبيرة وملعباً يتمرّغ فيه هواة الكرة!
الماء الذي كان يخرج من البحيرة يتجه شرقاً بأقدامه الخضراء؛ ليعبر تحت الجسر وسط السوق القديم مشتملاً بعباءته الخضراء الزمردية، هو شريان الحياة لسهل سروج. بعد الجسر كان النهر يدخل ملكوت بساتين الرمان والمشمش والجوز وأشجار التوت والزيزفون، بساتين (آل فياض وبرعواد وحج رشاد وآل مجحان) إلى جنة الينابيع الكريستالية في (كانيه عربان) الأرض المتفجرة بالينابيع والناس الغيارى وبساتين الصيف الموارة بالباذنجان الأورفلي الشهير والبندورة والخس والفاكهة.
(كاني عربان) هي سلّة غذائنا، إنها الأرض التي أنجبت واحداً من أعظم فناني الكرد (مشو بكابور)؛ هذا الفنّان الكبير كان مدرسة شاملة من الطرب الأصيل والمقامات الكردية؛ هو من أرسى قواعد أغنيات الفروسية وملاحمها، وينفرد الأكراد بهذا اللون من الغناء الطويل النَّفَس. ومن الملاحم التي سكنت ذاكرة الأكراد المشغوفين بالفروسية وقصص الحب والدراما الإنسانية ملحمة (دوريش عبدي وأحمد مندي وحسين
بيك زيلي وطيار)، وغيرها من الملاحم التي ردّدت آهات وخيبات شعبنا وروحه الفيّاضة التي أثقلتْها المحن ونكايات التاريخ. !!