عبد اللطيف الوراري
المعنى في طُرُق الشعر: في تصوُّرهم لماهية الكلام الشعري، سعى الشّاعريون
والبلاغيّون، في القديم كما الحديث، إلى الكشف عن السرّ في ذلك السحر
الأخّاذ الذي تكتسبه اللغة الشعرية ويميّزها عن لغة النثر والمخاطبات
الجارية بين الناس من العامّة.
ومن جملة مساعيهم النظريّة والتصوُّرية في ذلك، انشغلوا بمسألة المعنى في الشّعر، باحثين في خصائصه ومميّزاته وأنماط اشتغاله. وبدا لنا من بحثهم الذي لا يخلو أنّه ينقل مركز الثّقل من مفهوم «معنى الشكل» إلى مفهوم «شكل المعنى»، أومن دائرة الكلام «Logosphère» إلى فلك الصورة «Vidéosphère» الأكثر ثراءً وتعقيداً.
بدءاً، كانت رُؤْية الإحيائيّين للفظ والمعنى تعكس ذات الرُّؤية البيانيّة القديمة، وهي المقدِّمة المنطقية التي بُنِي عليها مفهوم الشّعر بوجْهٍ عامّ، ومفهوم المعنى بوجه خاصّ. فقد كانت «المعاني» تُشير في كتاباتهم إلى المقاصد أو الدّلالة النثرية للأبيات مجرَّدةً وغير مُبَنْيَنة، ويعكس هذا المفهوم أسبقيّة المعنى وثباته. ومع مجيء الرُّومانسيين سوف يتعرّض «المعنى» لتحويل ظاهر، إذ صاروا ينظرون إلى المعاني الشّعرية بوصفها خواطر المرء وآراءه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه التي ترِد على الوجدان الفرديّ للشاعر، مشترطين «الإبانة عن حركات تلك العواطف». لكن ذلك أدى إلى نوْعٍ من الترهُّل لا يتفق وكثافة اللغة الشعرية.
وشكّل بروز الشّعر الحر، وقصيدة النثر تالياً، مُنْعطفاً لافِتاً في تاريخ الشّعرية العربية، حيث انْهارَ المعمار التّقليدي للقصيدة. فإلى جانب الثورة على الإيقاع التقليدي، وما صاحبها من تغيّرات في البناء النصّي، بدأت علاقة الشاعر باللغة تأخذ مناحيَ وجماليّات جديدة من الصوغ والانْبِناء والتدليل، من خلال الاستخدام الفرديّ لها، وإعادة تشكيلها خارج طبيعتها الراسخة وأوضاعها القاموسية الثّابتة، وهو ما سينعكس، بقوّةٍ، على البنية الدّلالية للقصيدة وسياقها وفاعليّتها في إنتاج المعنى: شعريّة الكتابة لا شعريّة الإنشاد. ويمكن لنا أن نشير إلى أنّه بدأنا ننتقل من بنية العروض حيث هيمنة الوزن وأسبقيّته في تحديد مُكوّن الشعرية داخل النصّ، إلى بنية الدلالة حيث التركيز على المعنى وطرائق تمثيله وتشكيله فنّياً.
ولقد اتّضح أن الشّاعر لم يعد يهتمُّ بتحرير أخيلته من تسلُّط التراث البياني عليها، وربطها بتجربته الجديدة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى الدأب على توسيع أفق الصورة نفسها، لتتّسِع لأكبر قدر من الاحتمالات المتَّصلة بأعماق التجربة.
حداثة اللغة وإشكاليّة الدلالة:
لقد بدأ سؤال الحداثة ضاغِطاً على نصوص الشعراء وتجاربهم في تمثيل الذات والحقيقة بأكثر أدوات التعبير الشعري أصالةً وجدّةً، مُشارِفين الرّؤيا للشعر والعالم، وغير مُنْصرفين عن هموم الجماعة. وكانت مرحلة التحوُّل هي تلك التي اجتازها الروّاد الأوائل. ورغم أنّ شعر هؤلاء جميعاً لم ينفكّ عن ارتباطهم السياسي المباشر، إلّا أنّه كان على درجةٍ من الصدق الفنّي والنضج الفكري أعلى بكثيرٍ من شعر المرحلة ككلّ، سُرْعان ما آثروا التّحليق في آفاق الرُّؤيا الشعرية الحديثة بعيداً عن الرّؤية الفكرية للواقع والفنّ.
وفي خضمّ التجربة الجديدة، بات في وسع الشّاعر الحديث أن يسبح « في بحار المعرفة السبعة» بتعبير صلاح عبد الصبور، وأن ينهل من معارف العصر وثقافاته المتنوّعة الواردة من وراء البحر، وأن يدعها تمتزج في نفسه وفكره بثقافته العربيّة، ليستعين بها على تحليل واقعه، والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه، وإدراكها إدراكاً موضوعيّاً، ومن ثمّة التعبير عن ذلك كلّه بصوته الذاتي المفرد، بشيْءٍ من المعاناة والقلق والسخرية ومراوغة الشكّ والتمرّد على واقع الهزيمة؛ بل إنّ شاعراً مثل البياتي كان يشعر أنّ لغته لغةٌ مصنوعةٌ، وأنّ الأشياء التي يصِفُها موجودة سلفاً، كما فقدت الكلمات الكثير من أصالتها، وأنّ عليه أن يتخطّى، ويحيا العصر وإمكاناته.
وقد أتى هذا الوعي الطارئ بحقوق المفردة وعلاقاتها، الذي يتمّ في حداثة اللُّغة، ردّاً على عجزها عن حمل المعاني، وعدم وفاء طاقتها الدلاليّة بالرّؤى الجديدة الّتي فجّرها شعراء الحداثة، تباعاً. لقد صار ذلك «ابناً شرعيّاً للعقيدة الإبداعية لشعرية الحداثة»، إذ إنها لم تعد تثق في ارتباط الدالّ بالمدلول الواقعي، ولم تعد تثق في مقولة المُحاكاة على مستوياتها المختلفة، إن الذي تثق فيه: إنّ كل مُفْردة تنتج مرجعيّتها دون نظر إلى الواقع الفعلي، وإنما ينحصر نظرها في مستهدفاتها الجماليّة أكثر من الدلاليّة.
كانت تتفتّح أمام وعي الشاعر وحساسيّته الحديثة، بالفعل، إمكاناتٌ من المعنى وطاقاتٌ للكشف جديدة، ويختبر»أناه المحدثة» في ارْتيادِها و قُدْرتها على الاستجابة لها وتمثُّلها وتطويع دلالاتِها العابرة لمتخيَّل القصيدة، وهو يبتدع طرائق مغايرة في بنينة المعنى وتوصيله عبر استخدام الرموز والأساطير والنّماذج والأقنعة، وتكثيفها كتابيّاً وتخييليّاً، ممّا جعل القصيدة تغدو بِناءً معرفيّاً مُعقّداً فيما هي تطفح بفائض قيمة المعنى. ولعلّ أشهر هذه التجلّيات الّتي صارت قرائن على الأنا المحدثة، واقترنت بسياق النّكبة وما تلاها: رسول المعرفة، وسارق النّار، والفينيق، والمُخلّص الّذي يوحد بين الكلمة والفعل، وإله الخصب، والمصلح الداعية، والمبشر بالمعجزة، والشاهد الذي يكتفي بالنظر، إلخ. وبما أنّها صارت تنأى عن الوضوح المنطقي أو واحديّة المستوى الدلالي التي نألفها في كثير من الشّعر الحديث.
وما من شكّ في أنّ نوع المصادر الكتابيّة الجديدة الّتي صار شعر الحداثة يغترف منها ويُدْمنها قد ساهم في تكثيف المعنى إلى درجة التّعقيد والغموض. إنّنا أمام إشكاليّة الدلالة، ومن خواصّها:
ـ تكسير الدّلالة الواحدة، وتفجير دلالاتٍ جديدة.
ـ إغناء اللّغة بأشكال من المفارقة والتّجريد والتّرميز والتناصّ.
ـ توسيع مدلول الصُّورة بوصفها طاقة احتماليّة تتغذّى من بلاغة التكثيف والانزياح.
ـ تشظّي البناء النصّي الذّي لا يبين إلّا عن التشتُّت والانتشار والتشذُّر بلا رابطٍ منطقيّ.
وهذه الخواصّ قد نقلت حركة انبثاق المعنى من دائرة الدّلالة المعجميّة إلى دائرة الدلالة السياقية المفتوحة على إمكاناتٍ مهمّة لا تعتقل أجروميّة المعنى المتحرك بقيد معجميّ أوإيقاعي أو تركيبي. فيما نكتشف أنّ القصيدة غيَّرت علاقاتها الخاصة بها كخطابٍ نوعيٍّ ومخصوصٍ، والعلاقات الوظيفيّة بين اللغة والمعنى، الوعي والعالم. لكنّها، بسببٍ من ذلك كله، سوف تتّسم بـ»صدمة التلقّي» التي قد قرنتْها بالغموض.
المعنى الجديد وأزمة تلقّيه:
مع (البراديغم) الجديد للمعنى داخل الحداثة الشّعرية بوصفها تمثّل شعريّةً مُفارِقةً ومُتحرِّرةً «انفرط العقد الدلالي»، وتمّ بلبلة منظومة المعيار الدلالي الّذي استقرّ في النسيج الشّعري ، وكرّستْه قواعد البلاغة المعروفة. فلم يعد ثمّة مجالٌ للاحتكام إلى السُّلّم التصنيفي المعهود الذي يتّكئ على بلاغة المعيار ذات المرعيّة النظامية، فيما هو يضبط مراسم انتقال اللفظ من مدلول إلى مدلول سواه. لقد فضّ المجاز، مثلاً، قالبه المجرّد الذي يسوغ انتقالاته الدلالية، ليدلّ على «حركة المعنى»، أو على التموُّجات الطارئة على خارطة الدلالة، والمؤثِّرة في شبكة العلاقات القائمة بين دوالّ اللغة وتجربة الشّاعر المستقطرة لذخيرته في الحياة والقصيدة.
ولقد وقف كثيرٌ من دراسات الشّعرية على ما يثيره المتن الشعري الحداثي من غموض في ذهن النّاقد والقارئ على السواء، ووجدت في استراتيجيّات التأويل والقراءة التي أشاعتها النظرية الأدبية الحديثة إمكاناتٍ مهمة لفكّ شفرات النص وملء فجواته وسبر أغواره البعيدة، مبتعدةً عن المعنى الذي تقسره القراءات المغرضة والتّفسيرات الإيديولوجية وترغم عليه بنية النصّ. ودائماً ما كانت ثمّة ضرورةٌ للتأويل والعمل بسيرورته لأحد مقولتيْن:»أولاهما غرابة المعنى عن القيم السّائدة، القيم الثقافية والسياسية والفكرية، وثانيتهما بثّ قيمٍ جديدة بتأويل جديدة؛ أي إرجاع الغرابة إلى الألفة، ودسّ الغرابة في الألفة»، بتعبير محمد مفتاح.
ومثل هذه الغرابة في المعنى وتلك القيم الجديدة قد نشأت مع شعر الحداثة واقترنت به، فكان طبيعيّاً أن تُثار موضوعاتٌ مثل «الغموض « و» لغة الغياب» و «إشكالية الدلالة» و»الإبهام» و»غياب المعنى» و»تفجير اللغة»، إلخ. ومن الطبيعيّ أيضاً أن تبحث ذائقة القراءة عن تاريخٍ جديد لها في طرق التّعامل مع النصّ الشّعري وتأويله. لم تكن القراءة القديمة تتحرّك إلّا ضمن نموذجٍ ثقافيّ – جماليّ سائد لا يخرق قوانين اللغة المعيارية، وينفتح على معاني الذّاكرة الجماعية بسلاسةٍ، وبالتالي كان القارئ يتوكّأ عليه للفهم والتذوّق في الغالب. أمّا القراءة الجديدة فإنّها تكسر عمود «المرجعيّة» فيما هي تؤسِّس لسياقٍ مغايرٍ لكلّ نموذج سائد وقارّ، وذلك انسجاماً مع التصور الانقلابي الذي تؤمن به الحداثة الشعرية.
بهذا الاعتبار، صار تلقّي شعرنا اليوم يأخذ وضعيّة أكثر تعقُّداً وهي تجعل من القارئ أن يكون أكثر حضوراً في إنتاج الدلالة وليس في الكشف عنها فحسب، وهذا ما يخرج القراءة عن كونها عملاً استهلاكيّاً يتحرّى فيها القارئ الفهم الحرفي للمعنى المتشبّع، إلى عملٍ يتقصّد إنتاج الدلالة الشعرية بأبعادها الإيحائيّة الكثيفة، بل ومعاناتها إذ تنتقل به في سلسلة من الدوالّ لا تنتهي. إنّ المعنى لا وجود سابقاً له في النص، وقبل تلقّيه بالذّات. فالمعنى ليس شيئاً معطى يستخرج من النصّ، بل يتمُّ تجميعه من إيحاءات نصية، أو بالأحرى يُبْنى بواسطة استراتيجيات القراءة والتأويل؛ ومن يدافع عن معنى سابق كمن يدافع عن «الألقاب العقارية» الذي يبدأ بتقفّي آثار عمليّة الإرث الشرعي عبر القرون. وفي جميع الحالات، يمكن القول إن تأويل المعنى في الشِّعر ليس ترفًا، بل ضرورة لتحرير المعنى بقدرما هو فعل لإنتاج الدلالات الممكنة ليبقى الشعر حيّاً بيننا. والتأويل، هنا، «لا يعني- كما يقول بول ريكو- البحث في قصْدٍ مُتخفٍّ وراء النص، وإنّما يعني متابعة حركة المعنى نحو المرجع، بمعنى نحو العالم».
ومن جملة مساعيهم النظريّة والتصوُّرية في ذلك، انشغلوا بمسألة المعنى في الشّعر، باحثين في خصائصه ومميّزاته وأنماط اشتغاله. وبدا لنا من بحثهم الذي لا يخلو أنّه ينقل مركز الثّقل من مفهوم «معنى الشكل» إلى مفهوم «شكل المعنى»، أومن دائرة الكلام «Logosphère» إلى فلك الصورة «Vidéosphère» الأكثر ثراءً وتعقيداً.
بدءاً، كانت رُؤْية الإحيائيّين للفظ والمعنى تعكس ذات الرُّؤية البيانيّة القديمة، وهي المقدِّمة المنطقية التي بُنِي عليها مفهوم الشّعر بوجْهٍ عامّ، ومفهوم المعنى بوجه خاصّ. فقد كانت «المعاني» تُشير في كتاباتهم إلى المقاصد أو الدّلالة النثرية للأبيات مجرَّدةً وغير مُبَنْيَنة، ويعكس هذا المفهوم أسبقيّة المعنى وثباته. ومع مجيء الرُّومانسيين سوف يتعرّض «المعنى» لتحويل ظاهر، إذ صاروا ينظرون إلى المعاني الشّعرية بوصفها خواطر المرء وآراءه وتجاربه وأحوال نفسه وعبارات عواطفه التي ترِد على الوجدان الفرديّ للشاعر، مشترطين «الإبانة عن حركات تلك العواطف». لكن ذلك أدى إلى نوْعٍ من الترهُّل لا يتفق وكثافة اللغة الشعرية.
وشكّل بروز الشّعر الحر، وقصيدة النثر تالياً، مُنْعطفاً لافِتاً في تاريخ الشّعرية العربية، حيث انْهارَ المعمار التّقليدي للقصيدة. فإلى جانب الثورة على الإيقاع التقليدي، وما صاحبها من تغيّرات في البناء النصّي، بدأت علاقة الشاعر باللغة تأخذ مناحيَ وجماليّات جديدة من الصوغ والانْبِناء والتدليل، من خلال الاستخدام الفرديّ لها، وإعادة تشكيلها خارج طبيعتها الراسخة وأوضاعها القاموسية الثّابتة، وهو ما سينعكس، بقوّةٍ، على البنية الدّلالية للقصيدة وسياقها وفاعليّتها في إنتاج المعنى: شعريّة الكتابة لا شعريّة الإنشاد. ويمكن لنا أن نشير إلى أنّه بدأنا ننتقل من بنية العروض حيث هيمنة الوزن وأسبقيّته في تحديد مُكوّن الشعرية داخل النصّ، إلى بنية الدلالة حيث التركيز على المعنى وطرائق تمثيله وتشكيله فنّياً.
ولقد اتّضح أن الشّاعر لم يعد يهتمُّ بتحرير أخيلته من تسلُّط التراث البياني عليها، وربطها بتجربته الجديدة فحسب، بل تعدّى ذلك إلى الدأب على توسيع أفق الصورة نفسها، لتتّسِع لأكبر قدر من الاحتمالات المتَّصلة بأعماق التجربة.
حداثة اللغة وإشكاليّة الدلالة:
لقد بدأ سؤال الحداثة ضاغِطاً على نصوص الشعراء وتجاربهم في تمثيل الذات والحقيقة بأكثر أدوات التعبير الشعري أصالةً وجدّةً، مُشارِفين الرّؤيا للشعر والعالم، وغير مُنْصرفين عن هموم الجماعة. وكانت مرحلة التحوُّل هي تلك التي اجتازها الروّاد الأوائل. ورغم أنّ شعر هؤلاء جميعاً لم ينفكّ عن ارتباطهم السياسي المباشر، إلّا أنّه كان على درجةٍ من الصدق الفنّي والنضج الفكري أعلى بكثيرٍ من شعر المرحلة ككلّ، سُرْعان ما آثروا التّحليق في آفاق الرُّؤيا الشعرية الحديثة بعيداً عن الرّؤية الفكرية للواقع والفنّ.
وفي خضمّ التجربة الجديدة، بات في وسع الشّاعر الحديث أن يسبح « في بحار المعرفة السبعة» بتعبير صلاح عبد الصبور، وأن ينهل من معارف العصر وثقافاته المتنوّعة الواردة من وراء البحر، وأن يدعها تمتزج في نفسه وفكره بثقافته العربيّة، ليستعين بها على تحليل واقعه، والوقوف على المتناقضات والملابسات التي تكتنفه، وإدراكها إدراكاً موضوعيّاً، ومن ثمّة التعبير عن ذلك كلّه بصوته الذاتي المفرد، بشيْءٍ من المعاناة والقلق والسخرية ومراوغة الشكّ والتمرّد على واقع الهزيمة؛ بل إنّ شاعراً مثل البياتي كان يشعر أنّ لغته لغةٌ مصنوعةٌ، وأنّ الأشياء التي يصِفُها موجودة سلفاً، كما فقدت الكلمات الكثير من أصالتها، وأنّ عليه أن يتخطّى، ويحيا العصر وإمكاناته.
وقد أتى هذا الوعي الطارئ بحقوق المفردة وعلاقاتها، الذي يتمّ في حداثة اللُّغة، ردّاً على عجزها عن حمل المعاني، وعدم وفاء طاقتها الدلاليّة بالرّؤى الجديدة الّتي فجّرها شعراء الحداثة، تباعاً. لقد صار ذلك «ابناً شرعيّاً للعقيدة الإبداعية لشعرية الحداثة»، إذ إنها لم تعد تثق في ارتباط الدالّ بالمدلول الواقعي، ولم تعد تثق في مقولة المُحاكاة على مستوياتها المختلفة، إن الذي تثق فيه: إنّ كل مُفْردة تنتج مرجعيّتها دون نظر إلى الواقع الفعلي، وإنما ينحصر نظرها في مستهدفاتها الجماليّة أكثر من الدلاليّة.
كانت تتفتّح أمام وعي الشاعر وحساسيّته الحديثة، بالفعل، إمكاناتٌ من المعنى وطاقاتٌ للكشف جديدة، ويختبر»أناه المحدثة» في ارْتيادِها و قُدْرتها على الاستجابة لها وتمثُّلها وتطويع دلالاتِها العابرة لمتخيَّل القصيدة، وهو يبتدع طرائق مغايرة في بنينة المعنى وتوصيله عبر استخدام الرموز والأساطير والنّماذج والأقنعة، وتكثيفها كتابيّاً وتخييليّاً، ممّا جعل القصيدة تغدو بِناءً معرفيّاً مُعقّداً فيما هي تطفح بفائض قيمة المعنى. ولعلّ أشهر هذه التجلّيات الّتي صارت قرائن على الأنا المحدثة، واقترنت بسياق النّكبة وما تلاها: رسول المعرفة، وسارق النّار، والفينيق، والمُخلّص الّذي يوحد بين الكلمة والفعل، وإله الخصب، والمصلح الداعية، والمبشر بالمعجزة، والشاهد الذي يكتفي بالنظر، إلخ. وبما أنّها صارت تنأى عن الوضوح المنطقي أو واحديّة المستوى الدلالي التي نألفها في كثير من الشّعر الحديث.
وما من شكّ في أنّ نوع المصادر الكتابيّة الجديدة الّتي صار شعر الحداثة يغترف منها ويُدْمنها قد ساهم في تكثيف المعنى إلى درجة التّعقيد والغموض. إنّنا أمام إشكاليّة الدلالة، ومن خواصّها:
ـ تكسير الدّلالة الواحدة، وتفجير دلالاتٍ جديدة.
ـ إغناء اللّغة بأشكال من المفارقة والتّجريد والتّرميز والتناصّ.
ـ توسيع مدلول الصُّورة بوصفها طاقة احتماليّة تتغذّى من بلاغة التكثيف والانزياح.
ـ تشظّي البناء النصّي الذّي لا يبين إلّا عن التشتُّت والانتشار والتشذُّر بلا رابطٍ منطقيّ.
وهذه الخواصّ قد نقلت حركة انبثاق المعنى من دائرة الدّلالة المعجميّة إلى دائرة الدلالة السياقية المفتوحة على إمكاناتٍ مهمّة لا تعتقل أجروميّة المعنى المتحرك بقيد معجميّ أوإيقاعي أو تركيبي. فيما نكتشف أنّ القصيدة غيَّرت علاقاتها الخاصة بها كخطابٍ نوعيٍّ ومخصوصٍ، والعلاقات الوظيفيّة بين اللغة والمعنى، الوعي والعالم. لكنّها، بسببٍ من ذلك كله، سوف تتّسم بـ»صدمة التلقّي» التي قد قرنتْها بالغموض.
المعنى الجديد وأزمة تلقّيه:
مع (البراديغم) الجديد للمعنى داخل الحداثة الشّعرية بوصفها تمثّل شعريّةً مُفارِقةً ومُتحرِّرةً «انفرط العقد الدلالي»، وتمّ بلبلة منظومة المعيار الدلالي الّذي استقرّ في النسيج الشّعري ، وكرّستْه قواعد البلاغة المعروفة. فلم يعد ثمّة مجالٌ للاحتكام إلى السُّلّم التصنيفي المعهود الذي يتّكئ على بلاغة المعيار ذات المرعيّة النظامية، فيما هو يضبط مراسم انتقال اللفظ من مدلول إلى مدلول سواه. لقد فضّ المجاز، مثلاً، قالبه المجرّد الذي يسوغ انتقالاته الدلالية، ليدلّ على «حركة المعنى»، أو على التموُّجات الطارئة على خارطة الدلالة، والمؤثِّرة في شبكة العلاقات القائمة بين دوالّ اللغة وتجربة الشّاعر المستقطرة لذخيرته في الحياة والقصيدة.
ولقد وقف كثيرٌ من دراسات الشّعرية على ما يثيره المتن الشعري الحداثي من غموض في ذهن النّاقد والقارئ على السواء، ووجدت في استراتيجيّات التأويل والقراءة التي أشاعتها النظرية الأدبية الحديثة إمكاناتٍ مهمة لفكّ شفرات النص وملء فجواته وسبر أغواره البعيدة، مبتعدةً عن المعنى الذي تقسره القراءات المغرضة والتّفسيرات الإيديولوجية وترغم عليه بنية النصّ. ودائماً ما كانت ثمّة ضرورةٌ للتأويل والعمل بسيرورته لأحد مقولتيْن:»أولاهما غرابة المعنى عن القيم السّائدة، القيم الثقافية والسياسية والفكرية، وثانيتهما بثّ قيمٍ جديدة بتأويل جديدة؛ أي إرجاع الغرابة إلى الألفة، ودسّ الغرابة في الألفة»، بتعبير محمد مفتاح.
ومثل هذه الغرابة في المعنى وتلك القيم الجديدة قد نشأت مع شعر الحداثة واقترنت به، فكان طبيعيّاً أن تُثار موضوعاتٌ مثل «الغموض « و» لغة الغياب» و «إشكالية الدلالة» و»الإبهام» و»غياب المعنى» و»تفجير اللغة»، إلخ. ومن الطبيعيّ أيضاً أن تبحث ذائقة القراءة عن تاريخٍ جديد لها في طرق التّعامل مع النصّ الشّعري وتأويله. لم تكن القراءة القديمة تتحرّك إلّا ضمن نموذجٍ ثقافيّ – جماليّ سائد لا يخرق قوانين اللغة المعيارية، وينفتح على معاني الذّاكرة الجماعية بسلاسةٍ، وبالتالي كان القارئ يتوكّأ عليه للفهم والتذوّق في الغالب. أمّا القراءة الجديدة فإنّها تكسر عمود «المرجعيّة» فيما هي تؤسِّس لسياقٍ مغايرٍ لكلّ نموذج سائد وقارّ، وذلك انسجاماً مع التصور الانقلابي الذي تؤمن به الحداثة الشعرية.
بهذا الاعتبار، صار تلقّي شعرنا اليوم يأخذ وضعيّة أكثر تعقُّداً وهي تجعل من القارئ أن يكون أكثر حضوراً في إنتاج الدلالة وليس في الكشف عنها فحسب، وهذا ما يخرج القراءة عن كونها عملاً استهلاكيّاً يتحرّى فيها القارئ الفهم الحرفي للمعنى المتشبّع، إلى عملٍ يتقصّد إنتاج الدلالة الشعرية بأبعادها الإيحائيّة الكثيفة، بل ومعاناتها إذ تنتقل به في سلسلة من الدوالّ لا تنتهي. إنّ المعنى لا وجود سابقاً له في النص، وقبل تلقّيه بالذّات. فالمعنى ليس شيئاً معطى يستخرج من النصّ، بل يتمُّ تجميعه من إيحاءات نصية، أو بالأحرى يُبْنى بواسطة استراتيجيات القراءة والتأويل؛ ومن يدافع عن معنى سابق كمن يدافع عن «الألقاب العقارية» الذي يبدأ بتقفّي آثار عمليّة الإرث الشرعي عبر القرون. وفي جميع الحالات، يمكن القول إن تأويل المعنى في الشِّعر ليس ترفًا، بل ضرورة لتحرير المعنى بقدرما هو فعل لإنتاج الدلالات الممكنة ليبقى الشعر حيّاً بيننا. والتأويل، هنا، «لا يعني- كما يقول بول ريكو- البحث في قصْدٍ مُتخفٍّ وراء النص، وإنّما يعني متابعة حركة المعنى نحو المرجع، بمعنى نحو العالم».
عن القدس العربي