-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

بقايا صور: مشهد في حضرة الماء أيضاً «طواحين الماء»


حسين محمد علي/ خاص سبا


«الشجرة قصيرة...
ولكن الظل طويل
 إنه الغروب».
محمد الماغوط

منذ بواكير الزمان كان الماء عاملاً حاسماً للتجمّع الإنساني، ونشوء أنشطة إنسانية متنوّعة، وفي حضرة الماء هنا عرفت البلدة سلسلة من طواحين الماء. والماء علَّم الإنسان دائماً وفتَق عقله على الإبداع والتحايل على الطبيعة، ومن الماء بدأت مغامرة العقل الأولى منذ سومر وآشور وبابل.

ولطواحين الماء عندنا قصص وحكايا وتواريخ وأسماء، هي هبة الماء؛ فالدم الإنساني اقتات بالنشاء، وارتبط بحبّة الحنطة ورقصة الأرغفة في تنانيرنا؛ لذا كان قسمنا بالخبز وبالتنور والنار!
أولى تلك الطواحين من الغرب كان موقعها مباشرة غرب قهوة «كارمين»، كنت أراها تعمل ولم أستطع الحصول على اسم صاحبها؛ بسبب تضارب الآراء. كنت أظنُّ صاحبها (أوسي قره كوز).

فطن الإنسان قديماً إلى قدرة الماء، وطاحونة الماء تعمل على مبدأ تدوير العنفات بسقوط الماء من الأعلى، وكنت أراقب ذلك في هذه الطاحونة؛ فقد كان انكباب الماء قوياً ومخيفاً، وفي سقوطه كان يدير ذلك الحجر الأسود الضخم، وحتّى بعد ظهور طاحونة الديزل أو طاحونة النار كما سمّاها العَوام، إلا أن الناس كانوا يفضّلون طاحونة الماء؛ لأنها تحافظ على قوام الطحين وتمنع احتراقه .

كنتُ أتأمّل وجوه المنتظرين الصبورين؛ بعضهم أخذته سِنةٌ من النعاس تبدو عليهم علائم الملل، وقد غطت نثارات الطحين أنوفهم وعيونهم بشكل مضحك .

ولكل طاحونة ساحة )مليانة فَي)، كما تقول الأغنية الرحبانية بصوت فيروز كان عنا طاحون عكتف المي، قدامو ساحات مليانة في)، في هذه الساحة تدور معركة ضارية وعراك بين الحمير الهائجة يتطلّب تدخُّلاً قاسياً من أصحابها؛ لفكّ الاشتباك، فتخلد إلى الهدوء بعد أن تتلقّى ضربات موجعة من عصي غليظة لا ترحم.

ولطاحونة بقر (آشي بقر) طقسها الخاص، كانت تقع في أرض (إبراهيم مسطي) قريبة من المسلخ في طريقنا إلى جنّة بستان حاج رشاد، أما الطقس الخاص فقد كان غريباً؛ إذ كانت الطاحونة مقصد النسوة في يوم مخصّص ، أعتقد كان يوم الجمعة، ويبدو أنّ الأمر كان متعلّقاً بأمراض العقم عندهن، موقع الطاحونة أصبح اليوم سكناً للمدرِّس محمد شاهين كما عرفت منه.

وإلى الشرق منها طاحونة (آشي حجيان)، آثارها لا تزال باقية إلى اليوم، والحجر الأسود مازال مرمياً، أذكر كان بالقرب منها شجرة توت ضخمة يبدو جذرها مثل منحوتة حجرية بعشرات المشاهد والرسوم السوريالية! وكنتُ أسمع باسم طاحونة أخرى (آشي ميران) وقيل لي: إنها بعد البند إلى الشرق على مجرى النهر. وآخر السلسلة كانت طاحونة بيت (شاكو) القريبة من قرية مزر داود .

هذه الطواحين الرائعة بنكهتها الرومانسية اختفت هي أيضاً، ورفعت الرايات البيضاء مستسلمة تاركة دورها لطواحين الديزل التي بدأت تتناسل هنا وهناك في أطراف البلدة ملبّية الحاجة المتزايدة للسكان.

طواحين النار:
شمالاً وبملامسة الحدود ودائرة الجمارك طاحونة (سليم حنوش)؛ وهو رجل سرياني كنا نصطاد له طائر الصقر (باشق)، وكان مغرماً بلحمه رغم أننا لا نأكل لحوم الطيور الجارحة، وقد آلت المطحنة إلى بيت (أحمد مشو) من بعده .

جنوباً كانت طاحونة بيت «توتونجي) شمال مبنى البلدية مباشرة؛ وهي عائلة حلبية رمتها الأقدار المعيشية إلى البلدة، وعاشت طويلاً فيها، واسم ربّ العائلة (صبحي)، وقد تميّز أفراد هذه العائلة بدماثة الخلق وقدرة على التآلف مع المحيط وشراكات زراعية مع الريف، كان أولادهم  يتحدّثون الكردية، هم أول مَن جاؤوا بصناعة الجليد بعشرة قروش؛ إذ حوّلوا قسماً من المطحنة إلى معمل لإنتاج الجليد في قوالب كبيرة، كنا نسرع إليها صيفاً حاملين المناشف لشراء قطعة من الجليد بعشرة قروش، وأنتج المعمل البوظة، ونسميها إلى اليوم (نبيل)، وكانت تُباع  في صناديق من الخشب والكرتون، عليها صورة طفل يحمل في يده قطعة من البوظة والطفل اسمه (نبيل)، ومنه كانت التسمية، وكان بعض الأطفال يحمل هذه الصناديق بحمّالة على جنبه، ويدور بها في شوارع البلدة، ولطالما كنّا نتلذّذ بمصّها وتصبغ شفاهنا بالأحمر القرمزي والأصفر الفاقع والأخضر، ونطفئ بها هجير الصيف .

إلى الغرب منها مئات من الأمتار طاحونة (قره كوز)، وقد آلت ملكيتها إلى بيت (دابان)، ينتصب مكانها اليوم بناءٌ سكني بعد أن ظلّت مهجورة وشاهدة على عهد مضى إلى ما قبل عام 2000م، وما يميّز هذه المطحنة وجود حمام فيها، وكانت فيها العائلات الأرمنية ترتاد هذا الحمام، وهم يحملون صرر الثياب ليلة الأحد؛ هو حمام بسيط ليس فيه أبهة الحمامات الأثرية المعروفة في حلب ودمشق؛ كان عبارة عن غرفتين واحدة جوانية وأخرى مقصورة توضع فيها الثياب .

وإلى الجنوب مطحنة (آل كيتكاني)، ما زالت قائمة إلى اليوم شرق المصرف الزراعي ؛ وهي مهجورة، وهذه المطحنة كانت تنتج الجليد أيضاً، وأظنّ أنها لن تبقى طويلاً، وستتحوّل هي أيضاً إلى منشأة سكنية. وكانت البلدة بأكملها تعتمد على هذه المطاحن في طحن الحنطة؛ لصنع الخبز في البيوت، وكان هناك حمّالون يتولّون نقل الأكياس إليها وطحنها، وهم بغالبيتهم من الأرمن وبحميرهم القبرصية البيضاء

تعديل المشاركة Reactions:
بقايا صور: مشهد في حضرة الماء أيضاً «طواحين الماء»

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة