بانكين عبد الله / خاص سبا
أن
الكان البشري بطبعه لا يحب الركود والروتين ويبحث دوماً عن الترف والترفيه من خلال
التغيير والتجديد المستمر أملاَ في الحصول على حياةٍ أفضل مسخراً كل طاقاته ووقته
من أجل ذلك. فتجده قلقاً على المستقبل وزاهداً في الماضي ومتعباً في الحاضر. يصارع
الحياة بكل ما أوتي من قوة ولكن تغلبه دوماً أسطوانة (الظروف أقوى منا؛ والواقع
يحكمنا، وأن لا سبيل لدينا فيما نحن فيه «الواقع»). يعيش على الأمل لا يؤمن به،
متدين لا يصلي، علماني يؤمن بالخرافات وقراءة الفنجان، متصوف تابع للرسل... إنها
تراجيديا حقاً!!
وكل
هذا التناقض نابع من تعاقب الإيديولوجيات على مر العصور في سيعٍ منها لتحقيق
الرفاه الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي والوصول إلى حياةٍ أكثر أمناً وأقل كلفة،
تلبي رغباته وتحقق أمانيه وتشبع غرائزه المادية. ولكن هيهات فكل ما ابتكره من أجل
ذلك تحول فيما بعد إلى عوائق ذهنية حالت دون تحقيق ذاك الرفاه بفعل قانون «وحدة
وصراع الأضداد»، والذي فرض على مبتكراته ثنائية السلبية والايجابية لتزداد
السلبيات على حساب الإيجابيات بمرور الزمن فيصبح ما ابتكره من شرائع وطرائق ووسائل
تفيد في عملية التغيير نحو الأفضل إلى عوائق وموانع لاحقاً بعد أن تحولت إلى قواعد
وقوالب دوغمائية وجامدة لا تقبل التغيير؛ واعتبرت من المقدسات التي لا تقبل فرضية
الخطأ باعتبارها تحمل مطلقية الصواب كصفة مكتسبة بفعل التلقين من قبل مروضين كل إيديولوجيا
اعتبرت نفسها المنهجية العصرية الأفضل في سبيل تحقيق ذاك الهدف (الرفاه).
ولهذا
فقد حاولت الإيديولوجيات جاهدة تدجين العقول وفق منهجية تعتقد هي بأنها الأصح
والأفضل لمقتضيات العصر وشرعنت نفسها عن طريق تحشيد الجماهير الغافلة عن الخفايا
الكامنة وراء مستقبلها، والتي ستكون مقصلة على رقابهم فيما بعد عندما يتوفى المفكر
أو المؤسس الأول لتلك الإيديولوجيا فتتحول إلى أداة بأيدي الصحابة التابعين الذين
سيختلفون فيما بينهم لاحقاً على صواب وخطأ رأي كل منهم؛ وأنه الأقرب إلى السلف
الصالح (المفكر الأول) في تفسير الأفكار الواردة في نصوص الإيديولوجية الأولى. لأن
هذا الاختلاف على صحة وخطأ مفاهيم كل منهم بدوره سيؤدي إلى خلاف يكبر مع الزمن،
فتتصدع صفوفهم المتراصة وتنقسم المحركات عدة منسلخة عن الإيديولوجيا التي كانت
تنادي بالوحدة والحرية والتكامل والتعايش المشترك ونبذ الخلافات... الخ. وستّدعي
كل حركة بأنها الأقرب إلى النهج الصحيح التي جاءت به الإيديولوجيا الأولى،
وستستخدم كل حركة منهم نفس الشعارات الرنانة تلك لتشرعن نفسها كما فعلت سابقتها
التي انسلخت هي منها؛ والتي شرعنت نفسها سابقاً بتسيير عقول الجماهير الغافلة
خلفها دون وعي أو إدراك منها باستخدامها للقوى الناعمة (العاطفة) والتي مهدت
الطريق لها لتصبح مقصلة على رقابهم بفضل الشعارات والهتافات التي تنادي بها كل إيديولوجيا
في بدايتها وقبل أن تستلم السلطة أو التي تسميها هي بالإدارة قبل ذلك. والتي تكون
منزهة وبعيدة كل البعد عن الاستغلال والقمع، وتراعي حرية الفكر والاختلاف وتناشد
بالمساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات بسبب سوء فهم أو تفسير
الأفكار وتطبيقها على أرض الواقع... الخ. وستقوم كل واحدة منهم برمي الاتهام على
شقيقتها وتتقاتل معها لاختلافها على صواب وخطأ تطبيق النصوص والمبادئ، وستأتي كل
منها بتفسير تعتبره من المقدسات التي ترمز إلى الحقيقة المطلقة الغير قابل للجدل
فيها مستندة إلى نصوص الإيديولوجية الأم.
وهكذا
ستحذو هذه الحركات المنسلخة عن سابقتها حذوها، ومع الأسف سيتبعها حشد جديد من
الغافلين إلى أن تصل إلى ما تريد (السلطة/ الإدارة) عن طريق تلقين لم تفهمه هي
نفسها أو بحسب ما فهمته هي والتي غالباً ما تكون بعيدة عن جوهر المقصود في فكر
الايديولوجيا التي انسلخت منها، إلىأن تصل هي الأخرى الى حالة الانقسام التي أفرزتها
فيما بعد، وهكذا دواليك. وأن ترويض العقول وفق منهجية لم يفهمها الملقن نفسه إشارة
واضحة على انتهاك مقصود لحرمات ومقدسات التي تناشد بها كل الايديولوجيا (التي تدعي
العصرية) وتعمل على تطبيقها كمفهوم بنيوي لمستقبل العلاقات الاجتماعية والتي لا
تكاد تنفك مستمرة في مساعيها لحلحلة العقد الذهنية التي تشكلُ منبعاً لقضايا
المجتمع عن طريق تحرير العقول المروضة على منهجية لم يفهمها الملقن سابقاً وعليها
بَنا أواصر العلاقات التي هي السبب أصلاً فيما نحن فيه الآن.
وبهذا
نجد أن المروضين الحاليين يفعلون عكس ما ورد في المنهجية العصرية ومخالفة تماماً
لأهدافها البنيوية، فهم بذلك يخلصون المجتمع من الترويض السابق – بترويض جديد،
وبعيدة كل البعد عن ماهية الايديولوجيا التي سعت جاهدة خلال الأعوام المنصرمة إلى
إبعاد المجتمع عن قيود الإيديولوجيات الملقنة على أساس خاطئ. وفي تجربة «غربي
كردستان/ شمال شرق سوريا» خير مثال وبرهان للاستدلال على ما سبق أعلاه حول ترويض
العقول على أسس ايديولوجية.
وهذه
الديباجة تكررت مع كل الايديولوجيات المتعاقبة على التوالي؛ وهي تلخيص موجز لأحداث
كل منها بفترتها الزمنية وما آلت إليه مستقبلها المعتم بناءً على ما ورد أعلاه حول
التلقين والملقنين على أسسٍ خاطئة، فهي قضية خلاف واختلاف.
بعيداً
عن الاصطلاح ما نعنيه بالتدجين برمجة عقل الباطن على طباع وسلوكيات بفضل التكرار
ودون وعي حتى يتحول الكائن المبرمج إلى أداة تسير وفقاً لرغبات مبرمجها ويصبح
ببغاء لأقواله الملقنة. تمام كما تفعل الطيور في «المدجنة». (والتي هي مكان مخصص
لطور الدجاج المروضة وفق منهجية صاحبها، تروض لتصبح أداة تستخدم لأغراض الشخصية
ولتشبع حاجيات صاحبها المادية؛ فمنها اللحم ومنها البيض ومنها الريش ومنها الروث
كمواد عضوية تستخدم للزراعة... الخ).
وللتوضيح
أكثر يمكننا الاستعانة بقصة «القرود الخمسة» كمثال مثبت بالتجربة، توصل فيه
العلماء إلى فرضية تقول: «أن الغباء يمكن صناعته».
فقد
جاء العلماء بخمسة قرود ووضعوهم في قفص بغرض برهان «صناعة الغباء» وقاموا بوضع طبق
من الموز في أعلى زاوية القفص، وإذا تسلق أحدهم بهدف الوصول إليه قاموا برشهم
بالمياه الباردة... فباتت القرود إذا حاول أحدهم التسلق يضربه الآخرون تجنباً
لرشهم بالمياه الباردة، وهكذا حتى امتنع جميع القردة عن التسلق
إلى الموز، فقام العلماء باستبدال أحدهم بآخر جديد فتسلق الوافد الجديد للوصول إلى الموز فضربه
الأربعة البقية تجبناً لرشهم بالمياه حتى امتنع هو الآخر عن ذلك دون أن يرشوهم
بالمياه، فقاموا بتبديل آخر بجديد وكذلك الأمر حاول الجديد الوصول إلى الموز فشارك
سابقه بضربه رغم عدم معرفة سبب الضرب والمنع
إلى أن اعتاد هو الآخر وامتنع عن ذلك فقاموا بتبديل الثالث وكذلك ضربه سابقيه
لمنعه من الصعود إلى الموز دون أن يعلما سبب المنع. وهكذا إلى أن تم استبدال جميع
القرود واستمرت عملية معنهم للوافدين الجديد من التسلق إلى الموز. وهكذا دواليك
يضرب السابقون اللاحقون دون أن يعرف أحدهم سبب منعهم لبعضهم عن تناول الموز.
إذا
كان الأمر كما ورد أعلاه «صناعة الغباء» فلماذا نتبع الإيديولوجيات إذاً؟
هل
يمكننا العيش دون الإيديولوجيا؟
أننا
نحيا في عصرٍ بإمكاني اعتباره عصر التوافق والاختلاف، أي عصر الثنائيات المضادة
والمتناقضة. عصر سهل واضح الملامح/ معقد ومتشابك الملامح.وهذا الاختلاف أو التناقض
مرتبط بالزمكان، بالعودة إلى نظرية «النسبية العامة» وأن «الزمكان» متعلق بمستوى
الوعي الفردي والجمعي مع حساب الفروقات الفردية العقلية بالإضافة إلى البيئة
ومتغيراتها.
هناك
حالة من التناقض في جميع المضامين الفكرية، لأن المفاهيم والمعتقدات والعادات
والأعراف متداخلة بشكل كبير جداً ومنفصلة بنفس الدرجة في ذات الوقت. عصر بتنا فيه
نخطأ في الخطأ نفسه؛ ونصحح الصح إلى الخطأ وهكذا دواليك. عصر القناعات وتفضيل
الذات، الكل يعتبر نفسه ملكاً. الكل على الصواب؛ والآخر على الخطأ.
أن
كل الايديولوجيا انبثقت من رحم واحد وتطورت باستمرار مستفيدة من التجارب سابقاتها
عبر الزمن ونمت على حساب الآخر بالتوالي لتأتي وبعد فترة من الزمن بفرضيات ومعطيات
وبحساب الزمكان التي هي فيه لتبرهن خطأ السابقة متناسية الزمكان التي ظهرت فيه
سابقتها والمعطيات التي قامت عليها والظروف الآنية وقتها لتقول وبناءً على
المعطيات والنتائج التي خرجت هي بها، أن السابقة (سابقتها) مخطئة.