-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رهان الغيم

  


أيمن ناصر / خاص سبا

 

عقربُ الساعاتِ كان يزحفُ قريباً من وحل الثانيةِ بعد منتصفِ النهار. والشمسُ تقذفُ من شرفاتِ سعيرها عصافيرَ من نارٍ تنقُر الوجوهَ وتشعلُ أديمَ الأرض.

 

أشعل سامي اللفافةَ الخامسةَ أو السادسةَ, لم يعد يدري. أخذ نفساً قوياً ثم مجّها بعيداً، فمرارتُها لذعت لسانه، كان تبغاً محلياً رخيصاً. تنفّس ملءَ رئتيه هواءً حاراً رغم نسيماتٍ لطيفة ترخّ نداها بين الحين والآخر. انسـربتْ قطراتُ عرقٍ فوق جبينه شرّدها بظاهر كفّه وانزلق يتخبط في شوارع المدينة يسفح أسرار قهره رماداً على أرصفتها. تـَنغِلُ جَسَدَهُ حُمّى عذاباتِ السجن الخارجِ لتوّه من أسواره. حزنٌ بطيءٌ كان يمتصّه. يلوكه وحش الندامة لهشاشة جسده الآبق الذي ما تحمّل عذابات السجن فدفعه إلى مستنقع الاعتراف والخروج.

استوقفه طفلٌ يحمل كومة جرائد، أغرقه بنظراته. زقزق ملتصقاً به:

       يا عم، يا عم ألا تقرأ أخبار اليوم؟!

 

لم يلتفت سامي إليه. ألحّ الصبي ثانية. وضع صحيفة في كفّ سامي وضغطها بإلحاحِ بائعٍ يستفتحُ بأول زبونٍ تأخّرَ كثيراً مشيراً بإصبعه لتأكيد خبرٍ طازَج لا يعرفه أحد. لكن سامي لفّ الجريدة وقذفها على الأرض بتوتر ظاهرٍ أراق به آخر ما تبقّى من ماءِ وجه الطفل المسكين. (لمَ فعلتَ ذلك؟ ما ذنب طفل الجرائد ترمي عليه قهرَك وخيباتِك! هو لا يقل عنك قهراً وذلاً).

 

شرع سامي يؤنّب نفسه. نظر إلى وجه الصبي بعينين معتذرتين ثم انحنى والتقط الجريدة. وأخرج قطعة نقود بقيمة عشر جرائد - هي آخر ما تبقى معه - غمسها في جيب الصبي الذي ابتسم شاكراً، ومدَّ يده يعيدُ باقي النقود، إلا أنّ سامي داعب شعره وتابع المسير.

 

ولج شارعَ المنصورِ من أعلاهُ وانحدرَ يعبرُ واجهات المحلاتِ الزجاجية، تعكسُ قامتَه الهزيلةَ تمطُّها أو تشوهُها أكثر مما هي عليه. يراقبُ المارةَ بدهشةٍ وخيبة أمل. وجوهٌ تبدو له آسنةً متشابهةً، تفيضُ استكانةً وسذاجةً. تنهّد حين داهمه شعورٌ أنه ما عاد ينتمي لهذه المدينة أو لهذه الوجوه الكالحةِ اللا مبالية وكأنها من طينة لا يعرفها أو عاشرها يوماً. فسحةٌ من الصمت والظلام تغطي ذاكرته. قلبه المريضُ يخفق بعنف. هوّم بعينيه الجائعتين. يبحث عن لغة تساعفه كي يعتذر للنهر، للجسر العتيق، للمدينة كلها. يحطب الغفران من أرصفتها. كذّبته عصافير الشمس، فأغمض عينيه على حريق شبّ فيهما. لابت يداه في الهواء مثل مجاديفَ من غضب حين عاودته آلامُ المعدة. ضغط عليها بأصابعه. بصق على طرف الرصيف. تأمل بصاقه. يمتزج بقليل من الدمّ. لم يستغرب الأمر. اعتاد هو على أسوأَ من ذلكَ في السجن. فقد ساءت صحتُه وأصابه الهزال واليرقان وبقيت حالته محتملة إلى أن غطى البهاقُ جانباً من وجهه ويديه ولم يبرأ منه. ما عاد يدري مكمنَ علّتهِ. شخّص له أحد الأطباء ممن كانوا معه في الزنزانة مرضه على أنّه القرحةَ. سعل بشدة ثم دمدم ضاغطاً على حروف الكلمات:

       ملعون أبو القرحةِ.

 

رفع رأسه إلى أعلى، ثمةَ غيمةٌ تزحف ببطءٍ على الرصيف الأيمن للسماء، توالتِ الصور متسكعة أمام عينيه. فالغيمة أثارتْ في نفسه انفعالاتٍ قديمة ما يكاد ينساها حتى تعتريه. كان قد اختار لنفسه لقب الغيمة يمهر به مقالاته التي ينشرها في الصحف.

سألته زوجُه هيام ذات مساء:

       لمَ اخترتَ الغيمةَ لقباً تلصقه باسمك يا سامي؟

رد عليها:

       ألا يكفيها أنها تعبرُ الحدودَ دون جوازِ سفر. وتحطُّ رحالها في أي أرضٍ تريد. هذا أقلُّ ما أحلُم به من حرية الغيم.

-       أراك تفلسف الأمور على هواكَ. أنسيت أن غيمتكَ هذه بضربةِ شمسٍ واحدةٍ تُعطيك عمرها؟ وأنّ لا حرية مع شهوة الغيم.

 

مزّقته سياط الشمس فانكفأ ينتزع نفسه جاهداً من ذاكرته, أحس أنه عاد بسماء فارغة مثلَ حلمٍ غبي. فثمةَ ريحٌ باردةٌ كنست كل غيماته.

تنبّه سامي لامرأة خطرت تهتز أمامه بكَتفٍ عارية وعطرٍ أخّاذ. تأمّلَ جسدها. كانت له قناعاتٌ خاصةٌ لجسد المرأة التي يشتهي. استكان لعتابا تفتُّ القلب آتية من صوت الهزار لـ «فؤاد سالم».

 

ما زالت المرأة تخطر أمامه، وما زال يستحث خيول شهوته في رهان يعرف سلفاً أنه الخاسرُ فيه، فطبيب السجن أعطاه زرقة أفقدته فحولته منعاً لتناسل أمثاله ممن يضرون بالمجتمع. مدّ يده يلامس كتفها العارية. ترقّبَ ردّة فعلها كتمثالِ بلّورٍ فاجأته الرياح وهو على شرفة من فرح. لم تبدِ أيَّ حركة ولم تلتفت. توجّس منها خيفة. ارتجفت عضلةٌ تحت عينه اليسرى. زحفت أصابعُه فوق ظهرها. أصابته رعشةٌ ناعمةٌ فأخذ ينتشي. تبسّم قائلاً في سرّه: لا بدّ أن مفعول الزرقة فاسد كمفعول دواء القرحة. ملعون أبو أحسن دواء. كل شيء إلاّ النساء. أنعشته رائحة خبز آتية من فرن النظير. شعر أنها بدأت تستثار لشمع أصابعه يذوب بطيئاً حاراً على جسدها. أي فجيعة تكمن وراء استكانة هذه المرأة. يدعوها بقرارة نفسه أن تقف. أن تلتفت، فكلُّ مَن في الشارع غافل عنهما. لا بدّ أنه يمتلك قدرة خارقة جعلته يحجب عيونهم الشبقةَ. أو أن القدر وقف معه لأول مرة في حياته.

 

اللوحة للفنّان التشكيلي السوري أيمن ناصر

غرق في نشوة مطلقة حين قصّرت المرأة خطوها والتصقت به. أغمض عينيه حين استدارت، كان لها وجه امرأته. ارتعشت أصابعه ورجف قلبه. احتضنها وضغط عليها بكل ما يعتريه من حزن وبكاء. ارتفع بها عن سرير الأرض بين صحوٍ وحلم يقظة. تحدّى بها قوانين الجاذبية. شعر أنه خارجُ الزمان والمكان. آب إلى نفسه حين تلاشت همّته. أيقظه بوق شاحنة قوي فدفع نفسه عن عمود كهرباء كان يحتضنه. لفّه الخزي. أراد أن يعيد للأرض جاذبيتها. اعتدل في وقفته. تجاوز فرن «النظير» بقليل.

السابلة على قارعتي الطريق يبدّدون شمل كبريائه بأعين وقحة تفيض استنكاراً.

 

لاحقته الضحكاتُ والأعينُ، ارتبك وتعثر بمشيته. رفع رأسه، ثمة غيمةٌ شهقت في سماء المدينة. خجل من نفسه. أدرك أنه وقع في مصيدة تخيلاته وقناعاته الخاصة بمقاييس الجسد... لا بدّ أن المارةَ فهموا الأمرَ على نحو خاطئ. ألا يفهمُ هؤلاءِ الأغبياءُ أنَّ للجسد لغةً يستطيعُ التحدثَ والتفاهمَ بها؟ دمدم سامي وتابع انزلاقه. كان قد ترك المتحف وراءه بكثير. تجاوز نادي الفرات ودلف إلى زقاقٍ ضيقٍ خالٍ إلا من بعض الأولاد يتقاذفون كرة بأيديهم.

 

تمطّت رمالٌ محرقة في عينيه حين اقترب أكثر من بيته. تذكر كيف غادره آخر مرة. حين شيعته زوجته من وراء النافذةِ وخيطٌ دافئ أسودُ يعبر مساحة وجهها الحزين. رفعت يدَها، حاولت عبثاً أن تلتقطه، أن ترجعه، لكن باب السيارة الرمادية قد أطبق عليه، فسقطت يدُها مَيـْتـَة إلى جانبها.

 

تحسس مفتاح بيته في جيبه للمرة الألف. إلا أنه خمّن ستكون المفاجأة قاسيةً عليها بالتأكيد. لعلها نائمةٌ، فهي لا تفوّت وقت القيلولة. قرر أن يضغط زرّ الجرس. رفع يده، إلا أنّ أولاد الحارة تجمعوا حوله يتعرفون على الغريب. دنا أكبـرُهُم. له عينان ضاحكتان وأنف عريض. بحْلقَ في البهاق الذي يغطّي رقبة سامي وجانباً من وجهه ويديه. عرَف فيه أستاذَه في مدرسة الرشيد الابتدائية الذي تركهم ذات ظروف غامضة.

تشكلتِ الكلماتُ في فم الصبي نطق بها دفعة واحدة:

-       منْ؟! أستاذ سامي؟! يا ألله كم ضعفت وتغيرت. تغيرت كثيراً.

اقترب ولد آخر، له وجه ودود وجبهةٌ عالية. صافحه وقال:

-       الحمد لله على السلامة عمُّ سامي. قالوا إنك مسافر في بلد أجنبي.

-       نعم...! صحيح... خطفت رجلي إلى السويد... غيّرت جو. ورجعت.

-       السويديات حلوات؟ لمَ لم تأتِ بواحدة معك؟

-       كانت عندي واحدة... لكنها بضربة شمس أعطتكم عمرها.

دمدم سامي ونظر إلى السماء. ما زال رصيفها الأيمنُ يزدحم بالغيمات... تذكّر يده المعلقةَ عند جرس الباب. أسقطها. أخرج المفتاح، غمسه في غمده وأداره. قبل أن يدخل لمح الصبي صاحب الأنف العريض يشـير إلى السماء قائلاً:

-       انظروا إلى تلك الغيمة... ستسقط... مَن يراهن؟

لم يراهنه أحد... فالغيم لا يسقط وحده.

 

 

الرقة – 2005م

تعديل المشاركة Reactions:
رهان الغيم

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة