موسى رحوم عباس[1] / خاص سبا
عن دائرة الثقافة والسياحة (أبوظبي، 2019) صدر للدكتور موسى الحالول، أستاذ الأدب المقارن في جامعة الطائف، كتاب بعنوان «مابين عُشْبةِ بَرْزَوَيه وحيَّةِ جلجامش: تأملات في الترجمة الأدبية» في 192 صفحة من القطع المتوسط. يتألف الكتاب من توطئة وعشرة فصول. مادفعني للكتابة عنه تميزه في مجاله، وما تحتله الترجمة بكل أنواعها الأدبية والعلمية من أهمية قصوى، وبخاصةٍ في عالمنا العربي كوننا نعتمد عليها اعتمادًا يكاد يكون كليًا في ميادين العلم والمعرفة لأسباب لا تخفى على أحد، بعيدًا عن المناكفات والاحتماء بالماضي التليد الذي انقضى! والسبب الآخر هو اختصاصالمؤلف وخبرتهوذخيرته التي تحتوي على أكثر من أربعين كتابًا بين تأليف وترجمة ولأكثر من مؤسسة رصينة لها اسمها ورصيدها في الوطن العربي.يقول المؤلف في توطئته لكتابه: "عبء التعارف والتثاقف يضطلع به المترجمون، لا الغزاة الفاتحون." وينفي أن يكون قصده التنظير للترجمة، بل أقصى مراده هو أن يُشرك قراءه ومتلقيه في تلك الورطة الجميلة– الترجمة الأدبية –ليطلعهم على جوانب خفية في الممارسة الترجمية.
الوهم الجميل وخلود الروح:
ما قاد الطبيب الفارسي برزويه إلى الولوج في عالم الترجمة وَهْمٌ جميلٌ بوجود عشبة يُزعَم أنها إذا رُشَّت على جثة هامدة أعادتها إلى الحياة. وعندما أدركبرزويه أن لاوجود لهذه العشبة في الواقع، استعاض عنها وهو بطريق رحلته المضنية إلى الهند بترجمة«ݒانچا تانترا» من السنسكريتية إلى البهلوية،وهو الكتاب الذي عُرِف لدينا باسم «كليلةودمنة». ما استخلصه برزويهمن ترجمته هو أن خلود الفكرة أهم من خلود الجسد، وكذا فعل جلجامش عندما ابتلعت حيةٌ تلك النبتة التي أخبروه أنها تمنحه الخلود.
الترجمة الرثائية:
في الفصل الثاني من الكتاب يتحدث المؤلف عن نوع خاص من الترجمات أطلق
عليه مسمى الترجمة الرثائية، وهي لجوء الشاعر الثاكل إلى ترجمةشعر غيرهبعد أن
أعجزته مصيبة الفقد عن رثاء المحبوب. فالمعروف أن الشاعر المحزون يكتب قصيدة أو
أكثر في الرثاء، أما أن يلجأ إلى شعر غيره ليداوي جراح روحه فأمر جدير بالدرس.وقد اختار
الحالول، في إطار مقارن، ثلاثة من الشعراء، أولُّهم الأمريكي هنري وادزويرث
لونغفلو(1807- 1882) الذيماتت زوجته حرقًا، فحزن عليها حزنًا شديدًا حتى أنه لم
يستطع رثائها إلا بعد مرور 18 عامًا. ولكنه استعاض عن ذلك بترجمة«الكوميديا
الإلهية» لدانتي. أما معاصره الشاعر الأمريكي الشهير وليم كَلِن برايَنْت (1794-
1878)، فترجم ملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأدويسا»في أثناء حداده على زوجته أيضًا.
وكذلك فعل الشاعر المصري أحمد رامي (1892-1981) عندما تلقى نبأ وفاة أخيه الشاب،
وكان رامي وقتها يدرس فيباريس.إذ بعد قصيدة رثاء عابرة، عكف رامي على ترجمة رباعيات
الشاعر الفارسيعمر الخيام. والطريف اللافت أن الشاعر الإنجليزي إدورد فتسجِرَلد
كان قد لجأ أيضًا إلى ترجمة هذه الرباعيات بعد أن انفصل عن زوجته. من هذه الأمثلة
يخلص الحالول إلى استنتاجين مهمين: 1) في هذه الترجمات الرثائية يكون الشاعر
الراثي هو نفسه المرثي، أي أنه يرثي نفسه لا غيره، ولم يكن موت المحبوب إلا المحرض
على هذا الرثاء المنعكس على الذات الراثية؛ 2) أدت فاجعة موت المحبوب إلى إدراك
الشاعر فناءه الوشيك وهو لم يحقق بعد الشهرة المطلوبة من خلال شعره، فاختار تحفة
شعرية حققت الخلود لصاحبها، وكأنه في اللاوعي يريد أن يحقق لنفسه نوعًا من
الخلودبترجمة تلك التحفة الأدبية. وهذا ما تحقق فعلاً لثلاثة من هؤلاء الشعراء: فلا
أحد اليوم يتذكر فتسجِرَلد وأحمد رامي إلا بسبب ترجمتهما لرباعيات الخيام؛ وكذلك
الأمر بالنسبة إلى لونغفلو الذي لا يذكره أحد اليوم إلا بسبب ترجمته لقصيدة «الكوميديا
الإلهية» الملحمية. إذن، لا يقتصر الأمر على بحث المترجم الراثي عن العزاء والتأسي
– كما هي أغراض الرثاء التقليدية– بل عن شيء من الخلود بالوكالة.موسى رحوم عباس
الشعر والتناص والضائع في ترجمتهما:
ومما تطرق إليه المؤلف أيضًا قضيةالفاقد في ترجمة الشعر، فخصّها بفصل عن التناص وصعوبة ترجمته دون أن يفقد النص الأصلي بعضًا من حرارته وامتداداته غِبَّ ترجمته للغة أخرى. وعرض لثلاثة نصوص شعرية هي على التوالي:"السكوت المر" للجزائري نور الدين درويش، وقصيدة "سوى جمرتين" لكاتب هذه السطور، وقصيدة "الأيقونة الشهباء" للسوري سعد الدين كليب. ومن خلال عرض الترجمة الإنجليزية أولاً ثم النص الأصلي، وضع الحالول يده علىحمولة الأصل الثقافية الضائعةفي الترجمة، وقد أسهب في تفصيل هذه المسألة. على سبيل المثال، تحيل كلمة "انتبذت" (في قصيدة درويش) القارئ العربي فورًا إلى القرآن الكريم والسيدة مريم العذراء وهي تهرب من أهلها، لكن هذه الإشارة تنطمس حكمًا في الترجمة.
المترجم الخائن:
في فصلين متتابعين تحت عنوان "الترجمة بيد عسراء" قدم الحالول درسًا عمليًا لاذعًا في النقد الترجمي، إذ عرض بالتفصيل لنماذج من عبث المترجمين بالنصوص التي ترجموها. ومن الطرائف المضحكة عن الترجمات المعكوسة التي أوردها ترجمة إحداهنلعبارة post-coital ablution (التي وردت في كتاب إنجليزي يتحدث عن الثقافة العربية الإسلامية) إلى "وضوء ما بعد الجِنْس" بدلاً من عبارة "الاغتسال من الجَنابة" أو "الغُسْل" ببساطة شديدة.
يَصْدُر الحالول في تحليلهللترجمة الأدبية وتطبيقاتهاعن منظور محكم وأرضية فكرية صلبة تستند للخبرة الطويلة في هذا الميدان، وقد انتقى لفصول كتابه عناوين موحية وجاذبة من مثل: أشباه الترجمات، الترجمة والعنقاء والخل الوفي، الترجمة المعكوسة، الترجمة بيد عسراء، على من تتلو مزاميرك، يا عبد الودود؟وسنمَّار، أَغَدًا أُجزى جزاكَ؟
أمَّا قبلُ، كنتُ أودُّ الحديث عن كل فصل بالتفصيل، لكنني أترك هذه المهمة للقارئ، ففي هذا الكتاب من المتعة والفائدة ما يستحق العناء.