سربند
حبيب / خاص سبا
«موج شاحب» مجموعة شعرية منمّقة بعبق الياسمين، مغلّفة برائحة الرصاص، تبحث عن قضايا وجودية للإنسان المعاصر «الوطن، الهوية، المرأة، الحرّية، الحبّ والأمل»، الكلمات هنا تتّقد دفئاً وتصويراً وإيحاءً حزيناً بحجم حزن وطن الشاعر، فيتخذ من الالتزام بالحالة الوجودية منهجاً في نقل هذا الكم الهائل من المشاعر والأفكار والأحاسيس؛ ليعبّر عن همّ الإنسان عامة والسوري بشكل خاص.
يُحيك الشاعر الكردي «رشيد جمال» في مجموعته الشعرية من جرح الوطن قصائد عذبة رقيقة بإيقاع داخلي حيّ، وبلغة رشيقة وشجية ينقلنا إلى عالم البلاغة بموضوعات متنوّعة، تتشابك فيها قلقه وهمّه الذاتي بقضايا إنسانية، فيعزف بقلمه تقاسيم الوجد من وحي الألم والمأساة، ناثراً كلماته كحبات اللؤلؤ على سطح الورق، فيجمعها هنا في هذا الديوان.
يعتبر «موج شاحب» المجموعة الشّعريّة الرَابعة لجمال، والصَّادرة عن دار «فضاءات» للنشر والتوزيع – عمّان/ الأردن 2020م، هي قصائد نثريّة «بولوفونيّة» متعدّدة الأصوات، تسري كالهذيان في عروق الورق، مصدحة حبراً تليق بشهوة الحرف في حضور الكلمة.
يهدي الشاعر ديوانه لأبجدية عشقه زوجته «غادة»، ولفلذات كبده «فؤاد وسيڨين»، ولا ينسىPascal & Véronique Mussard" " اللذان أحيا أحلامه من جديد، وأخرجاه من زنزانة العبث التي كانت يعيشه قبل هجرته لفرنسا.
اختار جمال لوحة غلاف مجموعته بعناية روحية كبيرة، وهي صورة واقعية اقتنصها صحفي عراقي فوتوغرافياً بعين كاميرته لفتاة فارّة من القصف، برفقة عائلتها في مدينة الموصل، وهي تجهش بالبكاء، وعندما رأتِ المصوّر ارتسمت على وجهها ابتسامة التحدّي بالرغم من الألم الذي في عينيها والكثير من الحزن، ولتخبرنا دموعها بالرغم من بشاعة الإنسان والشرّ الذي يحدثه أننا سنعيد لطفولتنا صخبها ونرسم عالماً جميلاً بسماء زرقاء وعصافير تزقزق فيها، فاختزلت بذلك حزن العالم، واستطاع الرسام الكردي «بشير مسلم» بريشته الصاخبة أن يبدع في رسم براءتها المسلوبة بكل احترافية.
لسيميائية العنوان انعكاس على سيكولوجية الشاعر وشحوب حياته القلقة بتفاصيلها، يبحث عن ذاته المضطربة من خلال شقوق البوح، لعله يستنشق بصيص أمل لوطأة روحه المهاجرة مع الطيور إلى حيث اللاجهة، يدوّن بأنين القلم حروف منمّقة بعبق الياسمين ورائحة الرصاص، ويصوغها قصائد وومضات تليق بحلم ما زال يبحث عن أناه.
لثنائية الموت والحياة بُعد فلسفي في روح القصائد، فمن خلال البلاغية والتعابير الموحية تنبلج منطق الوجود متّسمة بالجمال والدهشة وبتوليفة لغوية متناغمة، فيقول في الصفحتين (17 – 18) من قصيدة «اسمٌ آخرُ للتابوت»:
أنا...
المسرحُ،
وزاويةٌ للموت
لا شيءَ آخرَ
هناك كقصيدة حبٍّ
تحيا أنت
بينَ النفسِ والجسدِ،
وتحملُ موتَك إلى الضفّة الأخرى
للحلم المرسومِ
بينَ جناحي حمامةٍ
أرادَتْ البقاءَ
فقُتِلَتْ
بينَ دمعتين.
البنية الدياليكتية للقصائد تكمن في الكم الهائل من الصور والاستعارات التي جاء بها الشاعر متصدعاً ومجلجلاً مأساة وطنه بفلسفته الخاصة، حيث يحمل همّ كل إنسان عشق وطنه ورحل وتجرّع مرارة الغربة واللجوء في الشتات:
ليسَ هناك وقتٌ للتفكير
دعيني أُحبُّك
بعيداً عن وطني المسافرِ
مع الخراب.
دعيني أتنفّسُ بأريج السلامِ
المُندثرِ مع ابتسامتك
فقد أرهقَتْني الحروبُ،
وأضنَاني منفايَ.
قصيدة «خذيني بعيداً عن وطني». الصفحة (29).
يرتقي الشاعر بشكل فني لجسد القصيدة، من خلال تطوير وسائل التعبير والتجديد الشعري، حيث يعتمد على منطق الجدل الشعري والابتكار في خلق المجازيات اللغوية، وظهر ذلك في قصيدة «المَلِك» من الصفحة (81):
تعابيرُ الريحِ
تفضحُ أجسادَنا،
والياسمينُ
يغطّي أرواحَنا
في بلاد ماتَ الإنسانُ،
وعاشَ المَلِكُ.
احترقَتِ الشمسُ
تغيّرَتْ طقوسُ الموتِ
تعاركَ الليلُ مع الليلِ،
والرملُ مع الموجِ
فكانَ اللجوء.
إن لغة النصوص مشحونة بذاتها ومكتفية إلى حدّ بعيد برنينها الداخلي، حيث للقصيدة شكلها الخاص واللغة والصورة في الإيقاع وترويض الوزن في إضمار التفاصيل والنفور من كل صياغة أصبحت مباحة لكل قصيدة، يتشظى المتخيّل ويأتلف المتوقّع وتختمر الرؤى غوصاً وتجلياً، وهو مالك أسرار هذا الجمال الكامن في نفسه بثوابته وتحولاته:
إنْ رحلَ الزمانُ،
وتلاشى المكانُ
لا تغضبْ...؛
لربّما تغيّرَتْ
خريطةُ الإنسان.
(الومضة الثامنة عشر المندرجة تحت عنوان: بقايا حُبٍّ... بقايا حربٍ).
قصائد مشوبة بمشاعر القهر والاضطراب والخوف والقلق والغضب، تصاحبها الحماس والتفاؤل والأمل، فيندلق حبر المشاعر على بياض الورق معلنة بهسيس البوح وأنين الأرق ثورة شعرية، كما في قصيدة «لا شيءَ آخر»، الموجودة في الصفحة (20):
وطنٌ مشرّد
بينَ مغازلاتِ الرصاص.
حاضرٌ يتجرّدُ من ماضيه،
وزمانٌ ما زالَ يلاحقُ لعنةَ المكانِ
القابعِ في مخيّلته.
إنها لغةُ العابرين نحو الوجودِ
المثقَلِ بالضياع.
إنها لغةُ الحرب
لا شيءَ آخر...!
لقد قدم لنا الشاعر الكردي رشيد جمال في مجموعته الجديدة تجربة حسّية ناضجة لكيمياء اللغة، مختزلة في جدلية النص، بثوابت جمالية في اللغة والخيال والإيقاع والرؤى. هو ديوان شعري يمكنك قراءته مستمتعاً بجمال الكلمة والصور والإيحاءات والاستعارات.