حسين محمد علي / خاص سبا
هكذا أخبرتني المدينة حين غفوت على ركبتيها
لم أكن حاضراً لم أكن غائباً
كنت بين الحضور وبين الغياب... حجراً... أو غيمة.
في حروفي استيقظت مرحلة بكاملها ذات مدينة ، ذات حلم . وكان لا بدّ أن أُؤَرّخ البداية من خُطاهم، خُطا الناس الذين قرعوا ذات عمر أقدامهم فوق حجارة السوق السوداء المرصوفة بعناية بكل ما في هذا السوق من سحر قديم وأصوات وغرائب وطقوس ولغات ...
ها أنذا أريد صياغة صوتي القديم من جديد؛ لأكملَ حياتي حباً بك أيتها المدينة التي تسكنني! بك ابتدأت أناشيدي الأولى وها هي تعاودني في هبوب الكلمات! فأنت والحب والموت أشياء لا تنتهي!
ككلّ أسواق الشرق كان للسوق في كوباني سحره الطاغي ومتعته وقوانينه وأخلاقه، سوقان رئيسيان ؛ الأول يمتدّ مـــن بوابة الحدود ) المحطّة ( شمالاً حيث دوائر الدولة تعلن عن هيبتها ببنائها المميّز وسواري العلم المرفرف ، كان هناك المخفر والجمارك ومبنى البريد والبرق والمركز الثقافي القديم ومقهى تانير ودار السينما وحوض الماء وبرج شاهق ينتهي بمروحة هوائية لضخ الماء من البئر ، وينتهي جنوباً إلى الجامع القديم والجسر ، وقد أقيما معاً عام 1932 حين كان ( بوزان شاهين بيك ) رئيساً للبلدية . والجسر كان عملاً هندسياً بارعاً ، وكانت لوحةٌ مثبتة في الجهة الشرقية منه تؤرّخ لبناء الجسر بتدشين ( بوزان بيك).
والثاني كان يمتدّ من الجامع إلى الشرق ؛ وهو سوق المهن ، وكنّا نسمّيه سوق الحدّادين ، ولكنّه كان للحدادة والنجارة والصياغة والبيطرة وصقالة النحاس وصنع اللباد والبُسط، وهو ما يزال كذلك إلى اليوم ، لكنّه فقد جاذبيته ونكهته القديمة .
السوق الرئيسي كان مرصوفاً بحجارة بازلتية مربعة ومستطيلة بشكل متقن يسير عليه السابلة والعربات بقرقعة صاخبة بسبب إطارها الحديدي ، وعلى جانبي السوق أشجار الزينة تزهر عناقيد من الزهر الأبيض ذي الرائحة العبقة ، سرعان ما يثمر حبات تشبه العنب ، كنا نتراشق بها صغاراً وسط احتجاج أصحاب الحوانيت .
أكثر الحوانيت كانت للقماش والخياطة ، للأرمن والأكراد ، بينها كان حانوت والدي في مدخل السوق إلى الغرب ، وكان حانوتاً للقماش أيضاً، وكنت أرتاده بشكل يومي للحصول على "الخرجية" وكان تتخلل السوق محلات لبيع الخمور وفرن )كيفو) ومحل لصنع " المشبك" لــ (حنيفي ورجب) وبعض اللحامين والمقاهي. ومن باعة الخمرة الأرمني :
( ليون " وسركيس بوغصيان ) المتعصّب لأرمنيته .
وفي وقت متأخر فتح رجل إدلبي بائس يُدعى عبد الوهاب، عرفنا على يديه الهريسة والشعبيات والفلافل .. لا ألذَّ ولا أطيب! ومن حلونجية البلد) نبو شيخ حسن وشيخو ويوسف وحاج حسيب (، وقبلهم جميعاً كان رجل إدلبي اسمه عبد السلام وصانعه محمود حافظ الذي اشتهر وأبناؤه من بعده بصناعة الحلوى .
ومن معالم السوق الشهيرة عدد من الفنادق في تلك الأيام : فندق الأمة في ساحة الكراج ، وكان مخفراً فرنسياً من قبلُ .وفندق الكواكب على طريق المحطة، وفندق الشرق لـ (حاج عيسى ( ؛ هذا الفندق بقي يعمل إلى منتصف السبعينات ، نزلاؤه كانوا من المعلّمين من خارج المنطقة يديره الشيخ معصوم .
كان السوق يعبق برائحة الكباب على يد معلّمي الأرمن المهرة، أذكر منهم ( جانيك وطقطوق وصالح بوظو وكره بيت وروبين وآرمين( ، والفرن كان يصنع نوعين من الخبز ؛ المشروح الأبيض ذو القوام المرن ؛ والسميك المعروف بديار بكرلي ؛ وهو خاصّ بالصباح . وقلّما اعتمد الأهلون على الفرن ؛ لأنّ البيوت كانت تخبز خبز الصاج بشكل شبه يومي.
أذكر أنّ ( كيفو ) الفرّان كان يشوي صواني الخضرة المشكلة والباذنجان واللحم مجاناً ، هكذا كان الناس في تلك الأيام . وللمناسبة كان الفرن عماد الناس في صنع كعك العيد ) كلَور( ، وكان سعر كيلو الخبز بـ (25) قرشاً ؛ أي ربع ليرة ، وكان بيت النار يعمل على الحطب ونبات القطن والسوس تجلبه نسوة فقيرات يعتشن بهذا العمل .
أمّا سوق المهن " الحدّادين" فكان عالماً آخر غامضاً غريباً مبهراً ودوداً ، هم بغالبيتهم من الأرمن ؛ فالمهن كانت بتوقيعهم لا يزاحمهم فيها أحد. ما إنْ تدخل في ملكوت هذا السوق حتى تستقبلك روائح المواد ؛ رائحة الخشب الزكية ورائحة الحديد والنحاس المجمر ورائحة الفحم الحجري الواخزة للأنف ورائحة الصوف والنشادر المستعمل في التبيض ؛ تبيض النحاس .وتستقبلك طَرقاتُ المَطارق بإيقاعها المنتظم وخرير الخشب المنشور يدوياً قبل الآلات الحديثة .
ملامح السوق كانت عتيقة رمادية تعمُّها الفوضى والأدخنة والأصوات في سمفونية شرقية مازالت تطاردني إلى اليوم! أما بوّابات الحوانيت فقد كانت من الخشب ، وتُغلَق بعارضة من الحديد وقفل نحاسي كبير ، وفيما بعد استُبدِلت بــ ) درّابات( حديثة من الصاج والحديد .
من الطقوس الصيفيّة في هذا السوق أنه كان يُرَشُّ بالماء عصراً. كان الرشُّ يدوياً شاقاً متعباً ، ولعلّ ذاكرة البلدة مازالت تحتفظ بصورة ذلك الرجل الصبور الكادح ) تمو ( وصهره ) عثمان( ، كانا يشرفان على تنظيف السوق وكنسه ، كان (تمو) يجلب الماء بأوعية من التنك ) الصفيح ( من النهر جانب الجسر ، وينزل أكثر من عشر درجات دون تأفُّف ، ويتلقّى صهره الماء منه ، ويسكبه في مِرَشٍ ، ويمضي ليرشّ السوق، وهكذا كانا يرشّان السوق في حركة عبثية كل يوم .
وفيما بعد اُخترع ( طمبر (يُثبت عليه صهريج وخرطوم و مِرشَّة ، يقطع السوق جيئةً وذهاباً ، فتفوح رائحة التراب الطيبة من المكان ، ويصبح الهواء بارداً منعشاً، ويخرج أصحاب الحوانيت ؛ ليقعدوا على كراسي الحصير ؛ ليودّعوا يوماً آخرَ من أيام الصيف الحارّة . لقد بات العمل بالنسبة لــ ( تمو ) أسهل بفضل التقنية الحديثة أواخر الستينات. لنردد : يحيا العلم ، يحيا التقدم ، وتحيا التقنيات الحديثة!
بدأت أذرع السوق الأخطبوطية تمتدّ شيئاً فشيئاً ، حتّى استحالت البلدة إلى سوق مفتوحة في كل الاتجاهات ، وعشنا حمى "الدكننة" إلى قمة مشته النور بفضل التوسُّع السرطاني القادم من الريف.