-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

بورتريهات ونماذج إنسانية جميلة لها سحرها وحضورها الطاغي

 


حسين محمد علي / خاص سبا

 

وعود على بدء... إلى الأرمن... إلى هذا المجتمع المتميز بالثراء الإنساني والتنوع، لقد قدّم الأرمن (بورتريهات) ونماذج إنسانية جميلة لها سحرها وحضورها الطاغي، كنت أراها في الأسواق والشوارع، أراقب حركاتها بكثير من الشدة والشغف.

 

مَن ينسى (إيشك رشاد) سائق شاحنة (هينشل) المخيفة كان نموذجاً زورباوياً في بوهيميته ونهمه وغرائزه الحيوانية وفي ملامحه القاسية، تركت سنوات الشقاء على وجهه حفراً وودياناً وندوباً غائرة يسير ببنطاله الفضفاض وقميصه الأزرق الداكن، يعيش وحيداً مطروداً من أسرته التي كانت تقيم في حلب أو هارباً منهم لعدم انسجامه مع أسرته، بطحة العرق لا تفارقه  يضعها في جيب بنطاله الخلفي يكرعها في سيره أو جلوسه في المقهى أو وراء مِقوَد سيارته، وكان يمسح فمه متلذّذاً مع حبّات من الحمص المملّح أو الفستق.

 

مَن ينسى (آروش) وكيل الشحن، يملأ ساحة الكراج بصياحه وصخبه ونكتاته وقهقهاته، وأحياناً بتعصيباته وبرشقة من الشتائم بحقّ الكسالى من العتّالين، وهم ينقلون الفحم الحجري من القطار، ويوزّعونه على الحدادين.

 

مَن ينسى (حج كره بيت خجاردوريان) صاحب أكبر متجر للأقمشة في البلدة في ساحة الكراج، يقصده الزبائن من القرى القصية؛ فقط لأنّ أسعاره أقلّ من الآخرين بقروش، ويرفض البيع بالدين.

كان رجلاً ربع القامة بوجه أليف ولسان عذب، يُقال بأنه حجَّ إلى القدس قبل احتلالها، وكان مهنته الإسكافة، وظلّ يحتفظ بأدواته في غرفة الضيوف تواضعاً واعترافاً بفضلها عليه. أذكر كان بيته في الحارة الشمالية مبنياً من الحجر الجيري من بين القليل من البيوت التي كانت من الحجر، وقد انتهى هذا البيت إلى (حمي مهاجر). ولستُ متأكداً لما كان يروي عنه بين العامة من أنه كان يدفع الزكاة سراً.


مَن ينسى (أوسي قره كوز) تلك الشخصية المهيبة الكريمة، يقصده ذوو الحاجات طلباً للمساعدة، كان هو الآخر تاجر أقمشة وحريصاً أن يرتدي قفطاناً وعقالاً كما يفعل كبار الأكراد.

 

مَن ينسى (سيمون الحداد) وحانوته المكفهرّ والمعتم بسواد هباب الفحم الحجري وأجيره (نورو) المصبوغ بالسواد، وهو ينفخ في الكير كما العصافير الخارجة من مداخن المدافىء، وكان يجادل جاره النجّار (شكري) في استراحة العصر حول أفضلية الدين المسيحي على الإسلامي أو العكس، وكان شكري النجار يقول مازحاً: (إنّكم لن تدخلوا الجنة)، وتدور الجدالات البريئة هكذا...

كان سيمون ملك الحديد وصانعاً بارعاً يتحوّل الحديد المجمّر المتوهّج تحت طرقات مطرقته إلى كتلة من العجين اللدن؛ ليصير فؤوساً ومجارف ومعاول وسكاكين، كان يجلس قدّام حانوته عصر كل يوم، وأمامه كيس التبغ يلفّ منه بأصابعه المقدودة من الحديد سيكارته، ويعتمر قبعة الأرمن التقليدية بلونها الأزرق الداكن.

 

مَن ينسى (سروب الصائغ)، شخصية أرمنية نموذجية بملامحها وروحها، كان قليل الكلام جاداً، عليه سيماء صاحب الكار، صنّاعاً بارعاً للذهب والأحجار الكريمة بأدوات بسيطة، لم يكن حانوته يختلف عن حوانيت المهن الأخرى في ذلك السوق العتيق؛ جدران طينية معتمة وفوضى تدب في أرجائه، وسطل من اللبن، وقُفَّة من البيض يأتي بها الزبائن القادمون من الريف، وبخاصة من النساء إذ كان يكتب لهنَّ الحُجب والتمائم والتعاويذ، كان يرتدي صداراً عتيقاً من الجلد، رحل إلى أرمينيا إلى أرضه إذ كان ذا نزوع قومي عميق، ظل مسكوناً بأرضه، هو وزوجته (آراكسي) البدينة صاحبة الدعابة وسلطانة المائدة.

 

مَن ينسى (شيشو) الفرَّان صاحب الفرن الوحيد إلى حينه وشريكه (كيفو) هذا الطيّب الذي اختصر كل طيبة هذا الشعب بقبعته التقليدية الزرقاء، أكلنا من يديه خبزاً لا أطيب ولا ألذّ، شهد حادثة فاجعة في نهاية حياته؛ فقد فجع المسكين بموت ابنه الوحيد غرقاً في البحيرة (الكولة)، ظلّت أمه تحتفظ بأشيائه البسيطة في غرفته، سريره  وعلبة دخانه (بافرا)، وكانت تردّد حكمتها الغريبة عن الأولاد من تجربتها الأليمة:

( واحد قليل واثنان كثير)، ما زلتُ أفكر إلى اليوم بمغزى كلمات العجوز الأرمنية (شوشانيك).

 

مَن ينسى (يغيا) الميكانيكي البارع الذي يفهم روح الحديد كما كان يقال عنه؛ هو أخصائي بآليات (كاتربيلر)؛ هو نموذج للأرمني البائس المشبع بالحكمة وتجارب الحياة، لم يستطع أن يتقن الكردية كما كان الأرمن، ظلَّ وفياً للبلدة وناسها ولتقاليد مهنته، قلّما غاب عنها، كان على علاقة طيبة مع (أحمد عيشه) الذي كان مهووساً بآلات كاتربيلر الجبّارة، وورشته الأخيرة كانت في بيت (أحمد كنّي)، مات بصمت، وانضم إلى سرب الغرانيق المحلقة في سماء أرمينيا البعيدة!

 

مَن ينسى (منوفر)؛ ذاك الكهل الغارق في السنين، كان يبدو وكأنه حارس الأبدية! يجلس هادئاً وقوراً أمام حانوته، قلّما يتحرك، وفي يده لافحة كرتونية يبعد بها الذباب وهجير حر الصيف، حانوته كان يقابل دكان والدي، هذا الحانوت أشبه بصندوق العجائب؛ حشد فيه كل السلع من أدوات الزراعة والحبال وحجر الكبريت وبذور ومناجل ورفوش وصدارٍ جلدية وظرف جلدي للسمن، في لباسه كان تقليدياً، سروال فضفاض جبلي وعقال وحطّاطة سوداء مطرّزة، داره آلت إلى (قادر عل ترتيب)، رحل إلى أرمينيا ولم يُرزق بولد. ومثل غيره ظلّ إحدى الأيقونات الإنسانية لكوباني.

 

مَن ينسى (يهودي بيدو)؛ وهو أرمني، ولُقِّب باليهودي إمعاناً في التوبيخ والهجاء، عُرِف بكيلوته الفرنسي الخاكي مثل الجنود الفرنسيين وأيضاً بعقاله السميك، كان ممتلئاً بالرجولة بشاربيه الكثّين المصفرين بصفرة التبغ، يذكرني بكهول جورجيا ذوي الشوارب المعقوفة، كان بيته قريباً من المركز الثقافي يقابل بيت محمد بديع، ويملك سيارة شفروليه مجنّحة، ظلّ في البلدة طويلاً، ويتباهى بأن سيارته كانت لضابط فرنسي، ولم يرتكب بها حادثاً.

 

مَن ينسى (يغيش) الخضرجي ابن منطقة كرموش القريبة من رها، كان من سيمائه وسلوكه ولغته وطباعه كردياً مشاكساً محافظاً في حياته الاجتماعية ككلّ أهل كرموش ذوي السلوك الفظّ والقيم المتشدّدة حتى الامتلاء، لم يكن يقبل ظاهرة التبرُّج لدى النساء كما حال بعض الأرمن، زوجته كانت غاية في الاحتشام. ومن ظريف ما أتذكره أنّ والد (يغيش) كان معتاداً الجلوس أمام البيت إلى جانب حانوت ابنه، كان مُقعَداً كفيفاً، يرصد كلّ داخل إلى البيت، وكان كلّ داخل إلى البيت يخضع لتفتيش محرج داخل البيت، إذ كان العجوز الكفيف يمد يده إلى المكان الحرج؛ ليتأكد إن كان الداخل رجلاً أم امرأة ؟!

 

رحل (يغيش) إلى حلب، وفي أثناء دراستي في حلب في السبعينيات، وبينما أسير في حيّ الميدان – وهو حي للأرمن – التقيتُ به صدفة، كان اللقاء مفعماً بالمشاعر الطيبة من قبله، لم يتغيّر فيه شيء كثير سوى آثار السنين، عانقني بحرارة، وكان اللقاء بقرب دكانه البسيط رأيت عينين غائمتين بالدموع، أصرَّ أن يستضيفني في البيت لا الدكان، وأمام إصراره وحنين الأيام الخوالي ذهبت معه، هناك عرّفني على زوجته وقال للأولاد، وقد كبروا: (هذا عمكم الحقيقي، وهؤلاء أهلنا).

هذا هو (يغيش) الأكتع والأعرج ابن كرموش. إنني أبارك ذكراهم إلى الأبد وأشعل في قلبي لهم شمعة الودّ والعرفان!

 

وبعد... وبعد... تلك هي ترنيمة الأرمن! شريط من الصور والمواقف والمشاهد! كانوا أناساً من لحم ودم! هم تراث غني مرّوا من هذه الأرض، تركوا آثاراً وأثراً طيباً، والذكر الطيب هو العمر الثاني للإنسان كما قالت ربة الحانة  لجلجامش الباحث عن الخلود! لقد تماهَوا في تكوينات البلد وكلّ تفاصيله؛ فاصلة فاصلة، كلّ حائط ينطق بهم، وكلّ شجرة توت وكلّ حجر، والأرصفة والزواريب والحوانيت ومفردات العيش! هم ببساطة جزء من تاريخ هذه البلدة. نحن وهُمْ كنَّا على موعد مع مباغتات التاريخ في لحظة إبداع أليمة قد لا تتكرّر!

 

تعديل المشاركة Reactions:
بورتريهات ونماذج إنسانية جميلة لها سحرها وحضورها الطاغي

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة