-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاصّ «محمد مشّة»


 

محمد عبد الله القواسمة


ظهر على صفحات ملحق الدستور الثقافي السبت 26 أيلول 2020م عشر قصص قصيرة جداً للقاص محمد عارف مشة. رأيت أنها تحتاج إلى قراءة نقدية؛ فمن المعروف أن مشة له باع طويل في كتابة القصة القصيرة جداً، فضلاً عن القصة القصيرة؛ فقد صدرت له أعمال في هذين النوعين من الإبداع القصصي، منها: «بائعة الكبريت» 2006م، «شبابيك» 2016م، و«عصافير المساء تأتي سرًا» 2018م. ولعل قراءة هذه القصص العشر تلقي الأضواء على بعض هذا العالم الذي ابتدعه محمد مشة.

 

من الملاحظ أن هذه القصص جاءت عناوينها على شكل أرقام متتالية، كأنها تتقصد من ذلك أن تضفي مزيدًا من الغموض على عالمها لا أن تكون مفاتيح تساهم في فهمه وتفسيره. وقد ارتأيت لقصر مساحاتها النصية إيرادها كاملة ليحسن التعامل معها نقديًّا.

 

1

«وصل الزقاق. الظلمة شديدة. نظر خلفه. وجده يتبعه. أسرع. تعثر.هرول. وصل بيته. دخل. جلس. جلس الظل مكانه. صرخ فعاد صوته صدى».

نرى أن هذه القصة تتوافر فيها عناصر القصة القصيرة من شخصية ومكان وزمان وحدث ومنظور قصصي. وهي تعبر عن إحساس الإنسان بخوائه وفقدانه قيمته وأهميته من خلال تلاحق الأفعال الماضية التي تبعث الحياة في النص، وإن كنا نرى عدم ضرورة الفعل «جلس» الأول ما دام الظل قد جلس مكان الشخصية.

 

2

«دخل. ركل الدجاجة بقدمه. زعقت الدجاجة. ارتفعت بفعل ركلته. هربت الدجاجات باتجاهات مختلفة. اختبأ الديك خلف القن. مد عنقه. لم يخرج صياحه».

في هذه القصة كما القصة السابقة تتلاحق الأفعال السردية؛ لتنتقد الواقع الذي لا يجرؤ فيه من يتصف بالشجاعة أن يتصدى لمن يقهر الضعيف. ونلاحظ عدم انتباه القاص إلى أن الفعل «ركل» لا يتم إلا بالقدم، وإن التعبير «لم يخرج صياحه» فيه ضعف، فيمكن استبداله بالقول «لم يصح». ولكن تبقى القصة ناجحة في التعبير عن عالم يتحكم فيه الأقوياء عن طريق البدء بقهر الضعفاء.

 

3

«امتص شفتيّ. ابتلع قهري. ابحث عني. على الأرصفة. في الطرقات. في المقاهي. استمع لأغاني فيروز. اخرج مشتعلا عشقا. ابحث عني ثانية. فأجد عامل النظافة قد سبقني وكنس الرصيف ووضعني في كيس القمامة».

تقترب هذه القصة من القصة رقم (1) حيث يتجلى إحساس الإنسان بأن لا قيمة له، ولا قوة. حتى ينتهي به انتقاص ذاته ليوضع في كيس قمامة دون مبالاة.

 

4

«المرأة التي استوقفتني نظراتها قبل منتصف العمر بخمس دقائق كانت قاسية، سألتها عن اسمها وعن عمرها وتاريخ ميلادها و... صفعتني نظرات طيفها وداست ظلّي الممتد من الرصيف إلى الرصيف، ومضت».

هذه القصة مثل القصة السابقة، لا قيمة للإنسان وخاصة عندما يتقدم به العمر؛ فهو لا يحظى باهتمام الآخرين بل بنظراتهم القاسية. يبدو أن جملة «كانت قاسية» لا تساعد على قوة الإيحاء؛ فالفعلان: «صفع»، و«داس» تكفيان للتعبير عن هذه القسوة.

 

5

«الطلاب ذاهبون إلى مدارسهم. ينظر إليهم مبتسما. يتناول زوج جرابات. يمد بها كي يلبسها لساقين بلا قدمين. يتذكر حادث السير قبل عام. تدمع عيناه حزنا وفقدا. ينظر نحو الله ثم يبتسم».

يبدو الهم مسيطرًا على هذه القصة؛ فذلك الطالب الذي ذهبت قدماه بحادث سير تدمع عيناه، وهو ينظر إلى زوج من الجوارب. لكن نعجب كيف يكون الابتسام في هذه الحالة التي تدمع فيها لعينان حزنًا وفقدًا، حتى إن السخرية لا تتناسب مع الموقف.

 

6

«استيقظ من نومه فوجد اسمها منقوشا على وسادته. فرك عينيه. تلمّس شعرها. تحسس وجهها. اقترب منها، فارتطم رأسه بإطار السرير. صرخ: تبا لطيفك».

تنبني القصة على حلم، يتحسر فيه الرجل على عدم وجود من أحبها بجواره. ويكتمل بناء القصة الفني لولا هذه الجملة «صرخ تبًا يا لطيف» فالقصة انتهت عندما ارتطم رأس الرجل بإطار السرير.

 

7

«قرر أن يأخذ إجازة. ألغى مواعيده. أغلق جهاز هاتفه. تمدد في سريره. وضع الملاءة البيضاء على جسده. ربطها عند رأسه وقدميه ثم نام».

في هذه القصة يبدو إحساس البطل بالزمن شديدًا، فقد مل من عمله فليس إلا النوم وسيلة للخلاص من الإحساس بمجرى الزمن.

 

8

«دفع الرجل ثمن سندويشة الفلافل. وجد طفلا ينظر للسندويشة باشتهاء. شبع الطفل. ظل الرجل جائعا».

لا شك في أن هذه القصة (كما أرى) جاءت متكاملة من النواحي الفنية كافة، ويمكن تقديمها نموذجًا متميزًا للقصة القصيرة جدًا، وأجمل ما فيها هذا التكثيف والموقف الإنساني الشفيف، بتفضيل الآخرين على النفس.

 

9

«فر البطل من القصة هارباً. لحق به القاص غاضباً. طارده في الأزقة والشوارع الضيقة. ألقى القبض عليه. حمله بين ذراعيه. أعاده للقصة. دهش المارة من رجل يركض. يمد ذراعيه في الهواء».

هذه القصة تعبر عن معاناة القاص في بناء شخصياته، وستكون مثل سابقتها في غاية الاكتمال والجمال لو أنها توقفت عند جملة «أعاده للقصة».

 

10

«باعت آخر ما بقي لديها من علب الكبريت. عادت لغرفتها مساء. تحسست علبة الكبريت. بقي عود ثقاب واحد. أشعلته لتضيء غرفتها. انطفأ العود. نامت في العتمة».

في هذه القصة التي تعبر عن الفقر الذي يحيط بشخصيتها لا نجد ضرورة للجملة الأخيرة «نامت في العتمة» فانطفاء عود الكبريت الأخير في الغرفة يجعل العتمة تسود.

 

رأينا في هذه القصص القصيرة جدًا، رغم ما أبديناه من ملاحظات بخاصة على نهاياتها، فإنها (كما أرى) أفضل ما قرأت من قصص قصيرة جدًا لكثير من الكتاب؛ ففيها تتوافر عناصر القصة القصيرة جدًا، وما يتطلبه هذا الفن من تكثيف وصور ورموز. إن محمد عارف مشة لا يستهين بهذا الفن القصصي الصعب، بل يؤديه حقه من الجهد والتجويد، فهو فن له مقوماته ومكابداته. إنه ليس مثل غيره من الكتاب الذين يفهمون القصة القصيرة جدًا بأنها لغز أو نكتة أو مثل أو خاطرة. إن مشة يغترف عالمه القصصي من الواقع، ويمزجه بخيال خصب؛ لينجح في تقديم الإنسان وهو يحس بالإحباط من وجوده في هذا العالم.

تعديل المشاركة Reactions:
قراءة في عشر قصص قصيرة جداً للقاصّ «محمد مشّة»

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة