-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

لا شيء سوى الذكريات تتربص بي

جان بابيير

 

الوقت كلِصّ، خلسة يقترب ويسرق منّا درب الحياة. بعض الأحيان تحاول أن تمضغ اسمك في أي ذكرى من الذكريات التي عبثت ببتولتك لأول مرة، تحاول نفي تلك التفاصيل إلى ما خلف باب الذاكرة وتغلق عليها بقفل صدئ، حتى لا تتنمّر عليك ابتسامة المعلمة ولا أثداء تلك الصبية، كلما انحنت لتكنّس أرض الديار.

 

تختلس كما الوقت نظرة من منبت ثدييها المكتنزين بالشهوة وأشياء لا حصر لها، تتسلل بخجل إلى غرفة المعيشة لتمارس العادة السرية مع قصيدة تجيد فيها الرفع والنصب وحركة السكون على فخذي المتن بشبق اللغة المتدفق. تجد الرغبة تنكمش حينما تسكن تفاصيل الصور فيها، هناك حراس يعترضون على تبرّج المتن، كل هذا لا يحتاج إلى قشعريرة الشتاء، فتلقّم مدفأة المجاز بحطب استعارة مكنية، كأن تنزع من قدمك الحذاء صيفاً دون أن ترمي بالجورب. للجورب في حذاء مطاطي على بوابة مدرسة أبي علاء المعري رائحة كما إبطي الموجِّه ذي الأنف الطويل وهو يجبرك على ترديد الشعار الصباحيّ بوجهه النكِد المليء بالجدري، لا أقصد ذلك البعثيّ، أقصد وجه الشعار المليء بالشوفينية، المهم ذاك «القومجي» تحوّل فيما بعد إلى أحد أمراء داعش، لكن تلك اللهجة الفراتية ما زالت تدغدغ روحي وتُثملني أكثر من النهر ذاته، زجاجة من الخمر وراء سكة الحديد في مقصورة مهجورة نداهم وحدتها، معاً نتعرّى أنا والزجاجة ورفيق شيوعي من منفى اللون القصي للأحمر، من فم القنينة إلى فمينا مباشرة، بصحة الطبقة الكادحة وسندويتشة من المحمّرة مع بصل أخضر زاد على مائدة من عراء.

 

الـ (فاركونة) كما كنّا نسميها مروراً بحروبنا العبثية من على أبواب المدارس لملاحقة الصبايا. نحصي الخسائر بعد المعركة؛ قميص تمزق، أنف سال منه الدم، وعضّة على كتف مراهقتي وسن انكسر من العبث، وانتهاءً بالمناوشات التي يكون ثلاث أربعها عرق المكيدة والربع الأخير من الماء في كأس رفيقي الشيوعي إن حالفنا النقود مع قنينة عرق وارتقينا إلى مقام  نهر الفرات، نتظلل بشجر الطرفاء والغَرَبْ والقصب النابت بعبثية، كمراهقتنا بمزاج داعر، تركنا الله وعبدنا الطبقة العاملة، وأشترك في خيالي الدافئ بقبلة مع جارتي طرفة قبل انطفاء نار الخيال في تنّور ذاكرتي، أحدّثها الآن كما أخبرتها قبل أكثر من عقدين وحولَين (بحبك)، هكذا بعاميّة دافئة كما خبز الصاج قصيدة أخرى في صباحات وطن غادرناه دون عناق.

 

أعيد بذاكرتي الظل للأغصان، والنبض لقلب الوقت بصحة شعوب تتقاتل على علي وعمر، بصحة شعوب تحتاج إلى صاروخ نووي من «كيم أونغ جون» رفيقنا القديم، كأن تبعد الحياة الجميلة خمس دقائق وفصل حواسي الشامخة كما سور تلك المدينة، وأركن إلى ذاكرتي وأداهم الوحدة بضجيج من الأفكار، نتربّص ببعضنا كعدوَّين في اشتباك والتحام يا جمهورية الحزن الديكتاتوري، الذاكرة أيضاً كالمرض والغريزة  لتولد حياتك العابرة من جديد في تلافيف المخ التي تشبه قشرة جوزة من الداخل، أودّ أن أثمل  في هذا الركن من حانة ذاكرتي لتجلس في كرسيها الفارغ بالقرب منّي بكل أناقتها وتفاصيلها المغرية سوف نسكب الوقت في الكؤوس ونسكر حتى الصباح، نتحدث عن مغامراتنا وصلعة لينين وتطل علينا فوزية المرعي، والكافيار الذي كنت أعتقده أول مرة شتيمة، لكنها شتيمة بيض السمك مثلما شرحت لي ذات مرة في إحدى قناديلها، ونعيد الحياء لتلك المقصورة ونخفي خطواتنا من بوابة مدرسة الفارابي، وبيت مصطفى العايد وعواش الأرملة وهي تقصفنا بشحاطتها البلاستيكة لسرقتنا التوت من شجرتها المعمّرة وتنهال علينا بوابل من الشتائم: «يول لأشق راسكم متل كـ ...... أمكم»، ويستوقفني عايد السراج بسمرته ويرفع عقيرته بـ (تلولحي بكلبي تلولحي أحنا خلانا وكتنا تراب بحلوك الرحي اش ما يطول الجرح يطول بس أثره بكلبي ما ينمحي)، ومن الرعب الساكن فينا من المخابرات، أخفي رواية جميلة لأيتماتوف، كأنه منشور حزبيّ ممنوع، ونستدين السجائر من البقال الكرديّ ويجلس قبالتنا في شارع المحطة جمو علهمك بنحافته يلعب (المانغلة) مع ذلك الأحمر البدين الذي نسيت اسمه فليكن مجه سور أو شيوعي آخر بلون بشرته، ونعرّج على أبي عبدو لنخرس عصافير المعدة بصحن فول ورغيفين من خبز الفرن الآلي، فأنا لا زلت هنا مع ذاكرتي أسكر هناك، كنّا نلعب بدحاحل طفولتنا في المقبرة، ومن العطش نهرب وقتنا إلى بيت مشمشو أو ميتيلو، وأتذكر الألقاب الغريبة وكيرميان وشيرباك وبي سري، معاشرة الذاكرة جنون وأنا أستنطقها، فأنا مصاب بذاكرة لعينة، أقف أمام مكتبة السلام في حيّ الفردوس وأودّع ذاكرتي وأضعها على إحدى رفوفها، ونسيت اسم صاحب المكتبة الأرمني وأعود إلى سينما الزهراء للمرة الثالثة لأشاهد نفس الفيلم لأنه يتضمن مشهداً إيروتيكياً.

 

تعديل المشاركة Reactions:
لا شيء سوى الذكريات تتربص بي

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة