-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

أدونيس لموقع سبا: الفصل بين الشعر والفكر هو فصل ديني، والحرّية تدخل في جسد اللغة


أدونيس شاعر يوقع موته


الفصل بين الشعر والفكر هو فصل ديني لم نستطع تجاوزه إلا مع أبي نواس والمتنبي والمعري.

من «جلجامش» إلى «رامبو»، كانوا كلهم شعراء ومفكرون؛ فالحرّية تدخل في جسد اللغة.

 

حاورته: فاتن حمودي / خاص سبا

في «قصابين» كان مولده، تلك القرية البسيطة التي تذكر ببدايات الخلق، أكواخ من الحجر والطين، والتي سميت بيوتاً، مكان يختلط فيه الشجر والبشر،  يقول أدونيس: «جسد الإنسان هو الشكل الآخر لجسد الطبيعة»، مضى الحوار مع الشاعر والمفكر أدونيس منفلتاً نحو الشعر وفلسفة الزمان والمكان، أدونيس صاحب «الكتاب» و«أول الجسد آخر البحر»، يرسم منصته الكونية من اللغة، فاللغة وطنه، والزمان ملكه، يقول: «الزمان مقيم فيّ أنا، ولست أنا المقيم فيه، الزمن تابع لي، ولست أنا التابع له»، هكذا يمضي نحو العشق والجسد، نحو الكتابة، ولأنه عاشق فهو شاعر يسافر في الأمكنة فتعطيه لحظات الإبداع.


يشكل أدونيس طاقة إبداعية خلاقة في خلخلة الثقافة العربية الراكدة، فهو ومنذ أعماله الأولى «قالت لي الأرض»، و«أوراق في الريح»، وحتى «الكتاب»، الذي أعاد فيه لحظات دموية في التاريخ، ليدخل بعدها حالات  عشق في «أول الجسد آخر البحر»، كأنه في حالة عشق دائم.

في حوارنا الخاص معه لصالح جريدة «سبا» الثقافية نسلط الضوء على أمكنة عاشها ومدن ولدته، البيت، والمدرسة، والطرق والموت، لنرى «ذاكرة المكان» التي أوصلته ليقول: «انتمائي الحقيقي ليس للمكان وإنما للغة».

 

ذاكرة المكان:

·       البيت الذي ولدنا فيه يبقى محفوراً بالذاكرة، هل تحدثنا عن بيتك الطفولة الأول؟

العودة إلى المكان الأول «قصابين» والبيت الأول، الأب والأم، لم يكن البيت إلا حاجزاً واهياً بيني وبين عشب الطبيعة، كان بيتنا صغيراً وبسيطاً فكثيراً ما كان المطر يتسلل عبر شقوق لم نكن نراها، فتنزل نقطة نقطة، لهذا كان يكسى بالطين كي لا تجرفه المطر، ولم يكن في البيت مطبخاً، وكانت أمي تطبخ في الهواء الطلق، وفي الشتاء كانت تتحول المدفأة إلى مطبخ، كنا نتجمع حولها ونمد أرجلنا تحتها، لا زلت أذكر صوت أبي: «لا يكفي أن تقرأ الكلمات، أو أن تحفظها، وترددها، عليك أن تحولها إلى غيوم تمطر فوق قصابين».

 

المدرسة:

بدأت الحرف من الطبيعة، ثم الكتّاب، كنت أذهب حافي القدمين إلى معلم القرية لأتعلم القراءة والكتابة، كان يجلسني قربه ويضع في قدمي الرأس المقوس لعكازه حتى لا أهرب إلى التسكع في الحقول، ولم أعرف المدرسة بالمعنى المتعارف عليه حتى الثانية عشر من العمر حين قرر أبي أن يرسلني إلى تلك المدرسة البعيدة، والتي سيرافقني إليها ابن المختار.

تحت الأمطار كنا نذهب إليها، فلم يكن هناك مدارس حكومية قريبة، ففي أحد أيام الشتاء، عدنا من المدرسة إلى قريتنا تحت مطر لم ينقطع، وكان هناك نهر «الشدة» الذي يفصل بين القريتين، ترددنا في عبوره، لكننا مضينا بجنون الطفولة، نجونا نحن، وغرقت كتبنا ودفاترنا، وكانت عودتنا إلى قصابين نصراً.

 


·       تقول «لا الخارج بيتي، والداخل ضيق عليّ». أدونيس: ما الذي يشكله لك المكان والزمان كبعد فلسفي وشعري ووجودي؟

المكان خارج وهو ساحة و ملعب للإنسان، يتغذى ويتنفس وبتثقف يكبر وينمو فيه، والمكان بالبعد الداخلي، أي البيت الذي يختاره الشخص، كم أشعر أنه ضيق علي وعلى طموحي وطاقاتي وأحلامي، الإنسان ضائع بين الاثنين، لذلك أقول انتمائي الحقيقي ليس إلى المكان بل إلى الوطن، لأن وطني الأخير هي اللغة، وزماني الحقيقي هي اللغة التي تنقل هذا القلق الذي بداخلي، فحين أكتب قصيدة أشعر كأنني أمارس الحب مع كل كلمة، كأنني مقيم في اللغة، كأنني مقيم بأحضان امرأة، الزمن داخل فيك، لذلك القصير يبدو طويلاً، والطويل يبدو قصيراً، الزمن داخل فينا، يتجلى الزمن في اللحظات الإنسانية الزمان مقيم فيّ أنا، ولست أنا المقيم فيه، الزمن تابع لي، ولست أنا التابع له، ولكن حين تحسّ بالزمن بالمعنى الموضوعي، وحين تتضاءل الطاقة الحية الخلاقة، يصبح الزمن مكثفاً وثقيلاً، قائماً أمامي، الزمن الذي هو الموت يصبح قريباً، في هذه اللحظات أشعر أن الزمن معبر وأنه ملكي.

 

·       ألا نعيش الولادة والموت في نفس اللحظة؟

نحن يومياً نعيش موتاً. فقد كنت أعيش في منفى حتى داخل اللغة التي أكتب فيها؛ لأن اللغة عضوية مرتبطة بحركة الجسد والفكر، فأنت تسيرين في الكتابة واللغة كما تسيرين في الجسد من حالة إلى حالة، ومن منفى إلى منفى، فالإنسان يعيش في حالة نفي متواصل، هذه السمة الأساسية للإبداع، وغياب هذه السمة يدخل الإبداع في حالة من الاستنقاع اللغوي والشعري والأدبي.

 

·       الموت المتربّص، الموت الحتمية،  تُحضّر نفسك لرحلة العودة إلى مكانك الأول، كيف ترى الموت؟ ولماذا اختار أدونيس أن يكون قبره في مكان ولادته «قصابين»؟ أليس هذا انتماء للمكان؟

الموت يقاربنا أو يواجهنا، الموت هو السطح، لكن حركة الإبداع هي العامود، لذلك قد يغلبك الموت سطحياً، وتغلبه أنت عامودياً،  فهناك نوع من الجدل بين الموت والإبداع، المشكلة الحقيقية ليست بالموت، وإنما في الحياة، فكيف تحل تلك المشكلة؟ هناك بشر مجرد أشباح، والمشكلة ليست في الموت، وإنما في الحياة، وهناك حدين البداية والنهاية لا يختارهما الإنسان مكان الولادة، هذه الحتمية بمكان الولادة، وحتمية الموت، أحلم أن أربط وأن تكتمل الدائرة، أي أن أموت في المكان الذي ولدت فيه تلك الحتمية المفروضة على الإنسان.

 


شاهدة موت:

·       سمعت أن الفنان «أحمد معلا» فاجأك بشاهدة قبرك، والتي أعدها ببعد الاحتفاء بالموت الممزوج ببعد المسرح والفن معاً، لماذا اختار أدونيس الكتابة على الشاهدة؟

الموت هو قصيدة أيضاً، لهذا أردت أن أوقع على موتي.

 

·       هل المرأة عندك مفارقة أم علاقة؟

المرأة علاقة مثل اللغة، وأعمق من اللغة؛ لأنها حية. فانا لا أتواصل مع امرأة مفارقة، أو جسد خارج عني، فحين تمارس علاقة مع امرأة تصبح جسدك الآخر، وبهذا المعنى المرأة ليست كائناً منفصلاً، وإنما مقيمة في أعماقك، وفي جسدك الآخر. لا أرى تشبيه لعلاقة حبيبين مثل علاقة الشاعر بلغته.

 


«أترى لم نزل واحداً

أم كلانا تشتت؟ ما ألطف الهباء

جسمه الآن في هذه اللحظات،

وجسمي سواء».

·       شكّل الجسد والعشق في كتاباتك الأخيرة بعداً مفصلياً، لماذا؟

الإنسان كائن عشقي حين يتوقف عن العشق يتوقف عن الوجود، أن العشق هو البحث المتواصل عن المغيب فيك، فإذا توقفت عن المغيب فيك لا تعودين كائناً سوياً، فالعشق هو الحالة الطبيعية للإنسان.

 

السفر اكتشاف:

«أتنور في سفري نحو نفسي... ونحو المدائن والناس شعري».

·       تجارب السفر تدخلي الخبرات والتزود الثقافي، هل تحدثنا عن مدن تركت أثرها عليك؟

مكانان حتى الآن، مكان يصير مع الممارسة والحياة نوع من التحدي، يتيح لك مجالات عليك أن تكتشفها بنفسك أكثر، فكلما ازداد الإنسان اكتشافاً لنفسه اخترق كل الحجب وازداد تقدماً في العالم، لهذا أعتقد أن المدينة التي أعطتني هذا الشيء هي باريس، لكن هناك مكان آخر بدل أن يتحداك يذكرك بمصيرك، بولادتك، بطفولتك بتلونك الآخر، وهذه هي الضيعة التي ولدت فيها «قصابين»، لذلك أنا في مكانين باريس في المقام الأول، وبيروت وقصابين في مستوى واحد، بيروت هي مكان ولادتي الأولى بالمعنى الإبداعي، وقصابين مكان ولادتي بالمعنى الطبيعي، أما دمشق فما هي إلا تنويع على قصابين، تنويع على مكان الولادة الطبيعية، وأنا أعتبر دمشق دائرة، أما قصابين فهي نقطة الدائرة، أما الجانب  الإبداعي الثقافي فبيروت في المقام الأول.


المرجعيات الثقافية:

·       أدونيس عين ترصد، تختزن، تهجس، تحوّل الأشياء إلى إبداع، هل تحدثنا عن مرجعيتك الثقافية؟

لا أعرف أن أفسر كيف يمكن أن يصدر عطر من  الوردة، الوردة تحتاج إلى ماء وتربة ورعاية متواصلة كي يطلع منها العطر، العطر ليس له علاقة بالعناصر التي أدت إلى تطوره، فما علاقة الرائحة بساق الوردة، أو جذرها أو برعمها؟ يبدو أن العطر ينتقل من كائن ومن عناصر تولد عنها، فأنا أظل تلميذاً أتتلمذ على العالم، ومن الناس الذين يتأثرون بكل ما يحسون وبكل ما يعرفون، العالم بكل تفاصيله وبكل تنويعاته، وممكن أن تؤثر فيّ الأشياء البسيطة والمهملة والتي لا ترى، بالإضافة إلى النصوص الكبرى التي تؤثر بشكل مختلف لأنها تتيح لك أن تكتشف المناطق الغامضة في نفسك، وهي لا تؤثر عليّ بمضمونها، وإنما بما تحمله من تحريض وطاقة.

 

الطاولة:

·       كتبت ابنتك نينار مرة عن الطاولة، فهل شكلت الطاولة مسرحاً للكتابة؟

هل تعرفين أنني ما كتبت قصيدة وراء الطاولة أبدأً؟ فحين أجلس على الطاولة أبيّض القصيدة التي كتبتها وأنا ماشياً، أو وأنا جالساً على حجر، لا أجلس وراء الطاولة لكي أكتب شعراً، وليس لي وقت للكتابة، أحياناً أكتب في الليل، وأحياناً وأنا أتغدى، وأحياناً يمرّ الوقت الطويل دون كتابة، وكلّ القصائد كتبت بظروف استثنائية، أي غير مكتوبة بإرادتي، ثم أعمل عليها فتصبح المقدمة مؤخرة، الإبداع لا منطقية له ولا قاعدة، وأنا شخصياً أشعر أن ما أحلم أن أكتبه لم أكتبه بعد، وأشعر أنني لا زلت أبحث عن نفسي.

 

مؤسّسة الزواج:

·       شكلت وخالدة سعيد زواجاً إبداعياً استمر أكثر من نصف قرن، كيف يرى أدونيس مؤسّسة الزواج؟

الزواج حتى حين يكون ناجحاً فهو مؤسّسة فاشلة، ولكن هذا لا يعني إطلاقاً أن الصداقة بين الرجل والمرأة هي فاشلة. أتمنى أن تلغى المؤسّسة؛ لأنها تخلق بين شخصين مشكلات وتكاليف ترهق الاثنين معاً، وتحول الأمور إلى شيء عادي.

هناك صداقة بيني وبين خالدة، فنحن مرتبطان وبنفس الوقت منفصلان، اثنان وتنويعان، فخالدة دائماً كان لها شخصية مستقلة، ولها آراءها، أحياناً نلتقي وأحياناً لا نلتقي، وهناك خلافات حول أشياء كثيرة لكننا صديقان فيما وراء الخلافات، والدليل أن زواجنا عمره أكثر من خمسين سنة، ونحن نتفاهم ونختلف لكن باستقلالية كاملة لكل واحد عن الآخر.


الشعر والفكر:

·       الشعر والفكر يتداخلان عند أدونيس كما الروح بالجسد، فهل أنت الشاعر المفكر؟

الفصل بين الشعر والفكر هو فصل ديني؛ بمعنى أن الشاعر العربي قبل الإسلام كان يقول ما يقوله بمزيج شعري فكري، حينما جاء الإسلام حدد هذا الشيء (الشرخ بين الفكر والدين، وأصبح لا يحق له أن يقول فكراً، أي أن يقول الحقيقة، فالحقيقة يقولها الدين وحده، وهذا الفصل أساء كثيراً إلى الشعر العربي ولم نستطع أن نتجاوزه إلا مع أبي نواس والمتنبي، ومع المعري حقق هذا المزج العميق بين الشعر والفكر، والتاريخ يعلمنا أن ليس هناك فصل، فمن جلجامش إلى رامبو، كانوا كلهم شعراء ومفكرون، هكذا أرى أن الحرية تدخل في جسد اللغة.

 
تعديل المشاركة Reactions:
أدونيس لموقع سبا: الفصل بين الشعر والفكر هو فصل ديني، والحرّية تدخل في جسد اللغة

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة