recent
جديدنا

سربند حبيب لموقع «سبا»: أنا منفيّ داخل المنفى، والوطن أستحضره بذاكرتي الكوردية

الصفحة الرئيسية


 

حاوره: إدريس سالم

 

«المعجزة، التي حافظت على الكيان الكوردي، هي اللغة الكوردية، ذات الأصالة التاريخية والحضارية والثقافية».

 

في خضمّ تحوّلات واقع متصدّع يتهاوى تحت وطأة الحروب والخراب، وتفاقم التحدّيات السياسية والاجتماعية والوجودية، لم يعدِ الأدب مجرّد انعكاس جمالي لذاك الواقع، بل أضحى ممارسة فكرية وجمالية، تنطوي على بعد مقاوم، واستنهاض لوعي القارئ، من تحت رُكام التكرار والخطابات الجاهزة.

من هذا المنطلق، ينهض الكاتب الكوردي، سربند حبيب، بمشروعه السردي، مستعيناً بفنّ القصّة القصيرة جدّاً، كأداة تعبيرية تستثمر غزارة اللغة، وسحر الرمز، لتعرية واقعه ومساءلته من زوايا متعدّدة: المنفى، القمع، الهوية، الوجود، الجسد، المرأة، والحبّ والحنين... وهو في كلّ ذلك يمسك بخيوط اللغة بعين الشاعر، ويحرّك وجدان النصّ بعين المفكّر، متجاوزاً المألوف، نحو بناء تجربة سردية، توازي اختلالات العصر وتقلّباته.


وفي هذا الحوار الخاصّ، نفتح نافذة على عوالم، سربند حبيب، من خلال مجموعته القصيرة جدّاً «بوح الحياة»، الصادرة عام 2025م، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، في هولندا، ونستقصي عبر أسئلتنا ملامح هذه التجربة المتوهّجة، التي تجمع بين الوجع الكوردي، والانشغال بالهمّ الإنساني، ضمن رؤية تكتب من المنفى وصولاً إلى الذاكرة السورية، ولكنها تنبض بالحضور.

فإلى أسئلة الحوار...

 

«لا تخبرني بأن القمر يضيء، بل أرِني انعكاسه على سطح الزجاج المكسور». تشيخوف

 

السؤال الأول: كيف ينظر سربند حبيب إلى القصّة القصيرة جدّاً كأداة مقاومة فكرية وجمالية في مشروعه الأدبي، لا سيما في كتابك «بوح الحياة»، الذي يُعدّ نموذجاً ناضجاً لهذا الفنّ، من حيث التكثيف والعمق؟ وما الذي جذبك إلى هذا الشكل السردي تحديداً؟ وهل ترى أنه قادر على إعادة تشكيل الواقع أو تأويله بطرق جديدة؟

عندما تعيش واقعاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مزرياً، تحتاج إلى طاقة إيجابية كبيرة تنتشلك من ذاك الجحيم، وتعيد توازنك السيكولوجي، وسط هذا الخراب، وهذه الطاقة هي الأدب، تنقّي الروح، تطهّر الضمير وترقّق القلب، فهي قادرة على قراءة ما وراء السطور تحليلاً وفهماً، والتخطّي لما هو أعمق في فهم فلسفة الحياة، إنها الصورة الفوتوغرافية، تصوّر الواقع بعُريها.

 

«أردت التحرّر من سلطة الخطابات وبلاغاتها الطويلة». سربند حبيب

 

وقد انجذبت إلى هذا المولود الجديد في الساحة الأدبية كإحدى الأجناس الأدبية المرنة، التي أفرزتها السياقات الثقافية المسكونة بسرعة إيقاع العصر والمعلومة المكثّفة اللمّاحة المشفّرة، لقد فُصِلت على مقاس زمن سريع الاستهلاك وقارئ عجول، وخاصّة بعد حالة العزوف العامّة عن القراءة، وظهور نوع من التكاسل والتململ؛ لكثرة الملهيات من: إنترنت، أفلام، وألعاب فيديو... وهذا الشكل قادر على استقطاب المواهب الناشئة، وعقد مصالحة بينهم وبين الأدب، ضمن إستراتيجية بيداغوجية جديدة، بفضل قصر حجمها وسهولة تداولها وحفظها؛ فهو جنس سردي مرن متحرّر ومنفتح على التقاط المستجد الطارئ، في السلوكيات والعلاقات والمشاعر، حيث يخلق لدى القارئ الفائدة والمتعة الحقيقية، وروح المغامرة الإبداعية.

أردت التحرّر من سلطة الخطابات وبلاغاتها الطويلة، وأن أشيد فضاء رحباً، يستعيد مخيّلة القارئ الموءودة، فأقضي بذلك على ذهنية الرُّهاب من الكتابة الطويلة، وأحتفل بنكهة لغة طازجة على مقاس إرهاصات العصر الحالي، فجميع الدراسات الأكاديمية الحديثة تشير إلى انقراض القراءة الطويلة لدى القرّاء، من خلال تغيير عادة القراءة بشكل ملحوظ؛ حيث يقرؤون مقتطفات قصيرة، وعدداً أقلّ من الكتب والنصوص الطويلة، وهذا ما يؤكّد أن مهارات القراءة بقيت عند مستويات ثابتة، والتغيير هو أننا نقرأ اليوم بشكل مختلف عمّا مضى، لذلك قد تكون القصّة القصيرة جدّاً المنقذ الحقيقي لهذه الأزمة.

 

«الوجود يسبق الماهية». سارتر

 

السؤال الثاني: إذاً هل يمكننا القول، إن هذا الكتاب هو تجربة فنّية تنبع من دوافع داخلية، أم أنه كان ردّ فعل مباشر، على واقع اجتماعي وسياسي صعب وقاسٍ؟

إن أيّ تجربة فنّية، سواء أكانت في مجال الأدب، الموسيقا ، المسرح، الفنّ التشكيلي، إذا لم تكن نابعة من أعماق الكاتب الداخلية، تكون كجسد بلا روح؛ فعندما نشعر بالأشياء ونعاني فثمّة إبداع حقيقي، يبحث عن سبب ما يدعونا للتأمّل والخروج، فنحن هنا نحتاج لوقود نشعل به ذاك الإبداع، وحين يلامس هذا الإبداع نَفَس البشرية يكون في أرقى حالته، وهي أسمى ما يستطيع الإنسان تقديمه، عندما يشعر به الآخر، والواقع الذي نعيشه هو المحفّز، الذي يرغمنا على خوض هذه التجربة الفنّية، لعلّها تكون بصيص أمل لإثارة تفكير القارئ وحثّه على التفكير الإيجابي نحو قضايا المجتمع، فهناك قضايا كثيرة نعيشها بشكل يومي، لكنّنا نغفل عنها، ولمجرّد أن نقرأها في السطور الأولى نتلامسها ونشعر بها، فمجموعتي القصصية «بوح الحياة»، بكلماتها القليلة قد تشفي غليل الواقع، وتثير ذائقة القارئ.

 

السؤال الثالث: في قصص المجموعة نلمح تقاطعاً واضحاً بين القلق الوجودي والنقد السياسي والاجتماعي. هل تتعمّدون إدخال هذه الثيمات ضمن بنية القصص؟ وهل تراها انعكاساً للواقع السوري والكوردي، أم تجربة وجودية أكثر شمولاً؟

يقول سارتر : «الوجود يسبق الماهية». فالإنسان يوجد أولاً، ثم يلتقي بذاته، ويكون حرّاً في تعريف نفسه من خلال مشروعه في الحياة، في إطار فعل وجودي إبداعي، وهنا يرافقنا قلق وجودي كردّة فعل طبيعية على المآسي والحروب والكوارث، والتي تعتبر بمثابة المعضّلة الحقيقية في اختيار الإنسان لماهيته، والواقع منذ الأزل يفرض نفسه بالقوّة، وعلى الإنسان أن يصارع لمواجهة هذه التحدّيات، لإثبات كينونته الوجودية، والتحرّر من قيود الوعي الجمعي وممارساته، والانفلات من كلّ المورثات الاجتماعية والسياسية، التي لا تقبلها، فيلتزم أيّ كاتب بقضايا مجتمعه، لإنقاذ الإنسان من متاهات الضلال الإيديولوجي، وتحدّيات الزمن الراهن، فمن الضروري أن يحمل أيّ نتاج أدبي طابعاً نقدياً يعكس ماهية الأزمة الحقيقية للإنسان المعاصر عامّة، والسوري خاصّة؛ لأنه أصبح ضحية حرب، كان ذنبه الوحيد أنه طالب بحرّيته وكرامته ذات ثورة، والآن أصبح رقماً في سجّلات اللاجئين، والأكثر من ذلك هو الكوردي، الذي بات منذ الأزل يعيش حالة قلق وجودية لهويته الضائعة والممزّقة في جغرافية لعينة، فأغلب قصص المجموعة تحمل في طيّاتها ثيمات القلق الوجودي، التي تعكس الواقع.




السؤال الرابع: وكيف تعكس مجموعة «بوح الحياة» علاقة الأدب بالسلطة، من خلال تصويرها لوجوه القمع السياسي والاجتماعي؟

العالم الذي نعيشه اليوم بشكل عامّ، تحكمه سلطة مطلقة، بغضّ النظر عن شعارات الديمقراطية والدعوات إلى الحرّية، فهذا الواقع بحاجة إلى شيء مضادّ، يقف ويصرخ في وجه الطغيان السلطوي، ويتجلّى ذلك في الفنون عامّة والأدب خاصّة، ولكن الإبداع الأدبي بحاجة إلى قدر من الحرّية السياسية؛ بوصفه نوعاً من المقاومة، بالحيلة للقهر الذي تمارسه هذه السلطة على الجماهير، فهو سلاح لتعرية الاستبداد، وكذلك مجالاً للتنفيس عمّا يكنّه في ضميره منتقداً السلطة.

 

«لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع، كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي، كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح». برتولد بريخت

 

ففي سوريا كانْتِ السلطة قمعية دكتاتورية، تكمّم الأفواه، وتقمع الحرّيات، وتكبت الأصوات، وتندّد بأيّ شكل إبداعي يدعو للتحرّر وإيجاد مساحات من الديمقراطية، وهنا لا تستطيع التعبير بشكل مباشر عن صوتك الداخلي، خوفاً من آلة القمع والاعتقال، فتلجئ إلى الحيلة بين النقد اللاذع والنصح المبطّن، مستخدماً الرمز، وتضفي خيالك على الأحداث، وتصنع بطلاً لإنقاذ الواقع المتردّي، آخذاً بيد الناس، للخلاص والعيش في مجتمع أفضل، ومجموعتي «بوح الحياة» تنتقد الواقع السياسي والاجتماعي بسخرية ناقدة، وتبحث في توليد المتعة، وخلق الوعي لدى القارئ. وهنا أتذكّر قول الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت: “لا يمكن للسلطة السياسية أن تستولي على الأعمال الإبداعية، كما تستولي على المصانع، كذلك لا يمكن الاستيلاء على أشكال التعبير الأدبي، كما يتم الاستيلاء على الرخص والتصاريح”.

 

السؤال الخامس: أنت تعرف أن كلّ كاتب يوظّف عدداً من الاستراتيجيات السردية والرمزية، والتي تسهم في فضح بنية السلطة القمعية، أو أيّ نوع آخر من السلطات. ما الاستراتيجيات السردية والرمزية، التي وظّفتها في «بوح الحياة»، لتفضح بنية السلطة، وتعرّي أدواتها القمعية؟

كون القصّة القصيرة جدّاً لا تحتمل السرد الطويل، معتمدة على الإيجاز، وخاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والجمل ذات النَّفَس القصير، الموسومة بالحركية والتوتّر وتأزّم المواقف والأحداث، لذلك أكتب بإستراتيجية التكثيف الدرامي؛ لأحتوي الحدث في إطار زمني محدّد، بحيث أعزّز من خلالها التأثير النفسي والفكري في وعي القارئ، وكذلك أعتمد على الرمز، لتقديم الأفكار والمواقف حتى أستفزّ القارئ على البحث والتفكير، فالنصّ هنا ليست لقمة سائغة، فهو بحاجة إلى لتنقيب والتمحيص فيما وراء الكلمة.

وفي المجموعة أيضاً تتنوّع الثيمات، التي تتراوح بين: الحبّ الخسارة، الصراع الإنساني، الهوية، المرأة، الجنس، الدين، السلطة، والحرّية... فجميعها تحتاج إلى ميكانيزمات جمالية وفنّية للطرح، والقصّة بشكلها الفنّي تحدث هذه الجمالية في وجدان القارئ. جمعت فيها بين الحقيقة والخيال، الواقع والمجاز، الماضي والمستقبل، الحبّ والكره، الحياة والموت، والحرّية والقمع، وبهذه الثنائيات المضادّة أعرب عن ماهية القصّة.

 

«تتميّز القصص القصيرة جدّاً بالتصوير البلاغي، متجاوزة السرد المباشر، إلى ما هو بياني ومجازي، ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي». سربند حبيب

 

السؤال السادس: وتلك الثيمات، التي أفصحت عنها، والتي تتّسم بها قصص مجموعتك، من تكثيف شديد وحضور للرموز المتعلّقة بالموت، الغربة، الهوية، الجسد، الحبّ، الجنس، والحرّية. أترى أن هذه الثيمات تعكس هموماً وهواجسَ شخصية، أم أنها أدوات لفهم العالم من حولك؟ وما الذي يحرّكك أكثر أثناء الكتابة: الفكرة، اللغة، أم الحدث؟

كما ذكرت، تتميّز القصص القصيرة جدّاً بالتصوير البلاغي، الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي، ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. والسرد هنا ليس مجرّد سرد لأحداث في إطار مكثّف، بل يُعدّ نافذة نطلّ من خلالها على المجتمع بتفاصيله وتحدّياته، وفي هذا السياق تسلّط «بوح الحياة» الضوء على موضوعات ذات صبغة مجتمعية واقعية وثقافية، محقّقة تأثيراً بالغاً في الذائقة الأدبية والفكرية لدى القارئ، فعندما تمعّن القراءة في أيّة قصّة فأنت أمام معضّلة استفزازية، تتوقّف للحظات أمام السطور، التي تحرّضك على التفكير؛ لأنه يطرح جانباً من حياتك، وهنا تكمن قيمة المادّة الأدبية في دحض ألم الإنسان بجمالها وتناقضها ووجودها، وفي إصرارها على إيقاظ الضمير والأخلاق والحبّ، فجميع الرموز التي ذكرتها هي وقود لتأجيج أيّ حدث، وجعلها قصّة تؤنس خلوتك، وتسكن وجدانك، وتهمس فيك جمالاً، وهي الأداة لفهم العالم من حولنا.

وما يحرّضني على  الكتابة هو الحدث في المقام الأول؛ لكوني ابن البيئة، فثمّة علاقة تأثّر وتأثير متبادل، حيث أستقي مادّتي القصصية من الواقع، أقصّ هموم ومعاناة المجتمع، فهو المرتع الخصب للكتابة. وما أكتبه لا ينفصل عن ذاتي وكياني، بل هو ذاتي الإنساني بكلّ ما تحمله من مشاعر وعواطف وأحاسيس، وهناك دائماً قوّة خفية ومحرّك لا مرئي، تدفعني نحو الكتابة، ألا وهو الشغف والحبّ والهوس بها، والذي تُغني القصّة وتجعلها قوية هي الفكرة، فجميع أفكار المجموعة من وحي الواقع المُعاش مشوبة بخيالي، وفي هذا الجنس الأدبي يجب أن تكون صيّاداً حاذقاً في اقتناص اللحظة قبل انزلاقها من سطح الذاكرة وتثبيتها للتفكير والتأمّل، بعدها يأتي دور اللغة لتضفي طابعها الجمالي والإبداعي، فأنتقي الصور المؤلمة، وأجسّدها بلغة جميلة، فيها موسيقى داخلية أقرب إلى النثر، فأهزّ وجدان القارئ حتى ينفعل وينساق مع كلّ كلمة أختارها بعناية، لتناجي فؤاده وتخالج مشاعره، وأجعله جزءاً من الحكاية.

 

«أُبرز عبر القصص فلسفة القبح في الجمال، وفلسفة الجمال في القبح». سربند حبيب

 

السؤال السابع: هناك حسّ شعري واضح في اللغة، حتى في أكثر المشاهد قسوةً وواقعية. هل تتعمّد هذا الانزياح اللغوي، أم أنها طبيعة تكوينك الكتابي؟

لأنسج خيوط الجمال في متن القصص، فأنا بحاجة إلى لغة شعرية منمّقة، ومختارة بعناية فائقة، وكون القصّة شكل من أشكال التعبير اللغوي عن هواجس النفس والفكر، فهي الثوب القشيب الذي يكسو مخرجاتنا الفكرية والعاطفية والوجدانية، لذلك يجب عليّ تقديمها بقالب لغوي مميّز وراقٍ ومختلف عن لغة الحياة اليومية، مراعياً الجانب الفنّي والجمالي، وهي طبيعة تكوّني الكتابي، عليّ أن أخرج بالقارئ من قوقعته الكلاسيكية وأبحر به في بحر لغة غير مألوفة تسبر أغواره الداخلية، عندما ألتمس ألمه وأشاركه فرحه، ويصبح هو نفسه جزءاً من القصّة، كنتيجة طبيعية لعلاقة تشاركية، فأبرز من خلالها فلسفة القبح في الجمال، وفلسفة الجمال في القبح.

 

«ق.ق.ج هو جنس متمرّد».

 

السؤال الثامن: أوضح لنا إذاً كيف توازن بين التكثيف والإيحاء، بين المباشرية والغموض، في هذا الشكل الأدبي المكثّف؟

«ق.ق.ج» هو جنس متمرّد، تبحث في بناء شكل مغاير غير نَسَقي، وينسف إلى حدّ ما القوالب الأدبية الجاهزة، لذلك يجب أن أخلق عوالم في مساحة محدودة، فأستخدم الإيحاء والتكثيف عبر كلمات أرسمها بدقّة بدلاً من السرد الطويل المباشر، فأجعل القارئ يعيش حالة شعورية وفكرية؛ فكلّ كلمة لها مدلولها الفنّي، وكلّ صورة جزء من نسيج متماسك لبنية القصّة، حيث أمنح القارئ شعوراً متكاملاً دون الخوض في التفاصيل، أشركه في القصّة، ليتفاعل معها في البحث عن المعنى، وهنا تتداخل المعاني في ذهنه، وتتشابك مع مشاعره، محاولاً فكّ شيفرتها وتأويلها تبعاً لعمق فكره، والتكثيف اللغوي هنا حالة ضرورية؛ أصنع به الإحساس لديه، وأجعل من القصّة لوحة حيوية نابضة بالحياة، وتصبح الكلمة بمثابة نافذة نطلّ منها على العالم الخارجي، وحتى لا أفقد توازني بين المباشرية والغموض أعيد تشكيل القصّة، لتحمل في داخله كثافة شعورية وفكرية مؤثّرة، وحتى لا تفقد رشاقتها وسلاستها، فهي تكون نصّاً محسوساً أكثر من كونه مرئياً.

يقول أنطون تشيخوف: «لا تخبرني بأن القمر يضيء، بل أرِني انعكاسه على سطح الزجاج المكسور»، وهنا تكمن روح الإيحاء؛ حيث تتحوّل الصورة التقليدية لمشهد حيّ تروي القصّة دون الحاجة ألى الشرح، فيصبح النصّ تجربة إنسانية مكتملة.

 

السؤال التاسع: بعض القصص مثل «سبي الحلم»، «أنفلونزا الديكتاتور» و«إسقاط النظام» تنحو باتجاه النقد السياسي والاجتماعي اللاذع. هل ترى أن القصّة القصيرة جدّاً قادرة على التعبير عن مأساة وطن؟

الفنون بشكل عام، والأدب خاصّة هي المرآة الأنجع في انعكاس هموم ومعاناة المجتمع، وهي الأداة الأقوى في مواجهة الواقع، حيث لا تسير وفق التدفّق الطبيعي للظرف العام والأحداث، بقدر ما تعكس وتحرّك تلك الأحداث، لذلك نرى في مجتمعاتنا الفنّان والأديب دائماً مستهدفون من قبل السلطة الحاكمة، خاصّة الملتزم بقضايا وهموم شعبه ووطنه، فالإبداع الذي يحدثه ضدّ السلطة من أجل التحرّر والتغيير قد يشكّل نار التمرّد ضدّ النفوذ الاستبدادية، ولكن مهما كانت تلك السلطة مستبدّة فإنها لا تستطيع كبح زمام خيال الكاتب، الذي يسعى دائماً لتغيير الواقع نحو الأفضل، من خلال زرع مفاهيم الحرّية والعدالة والديمقراطية والحبّ في مواجهة الطغيان والظلم بقلمه، مؤدّياً رسالته الإنسانية برؤية مستنيرة لمعطيات الواقع.

بالرغم من سوداوية المشهد، ولا شيء في الأفق يوحي بالأمل، تستطيع «ق.ق.ج» كغيره من الأجناس الأدبية مجابهة هذا الواقع بحجمه الصغير وفعله الكبير، فهي قادرة على خلق تغير فعليًّ ضد الاستبداد والظلم، فكلّ كلمة في القصّة تصفع القارئ، توسّع مداركه، وتعزّز حسّه الفكري، فلها سطوتها الخفية على المشاعر والإحساس في تشكيل الرؤى والقناعة، وبالتالي التأثير في الواقع وتغييره.

 

السؤال العاشر: ما هو دور السخرية السوداء في قصصك؟ وهل ترونها وسيلة للنجاة النفسية، أم شكلاً من أشكال المقاومة الفنّية؟

السخرية هي الأداة الأنجح في القصّة، للتعبير عن مكنونات النفس المأساوية بكلّ تداعياتها النفسية والمادّية، فهي تجسيد حيّ للأفكار، ومن خلالها نستطيع مواكبة الصراع الاجتماعي بالنقد الفكاهي والتشويه الانمساخي والتعرية الكاريكاتورية وكثرة الباروديا في التلميح والتهكّم والإيحاء.

فالسخرية هي جزء من أسلوبي الكتابي، أعيد من خلالها تشكيل الواقع بصيغة فنّية لاذعة وناقدة، حيث أخرق السائد بالمفارقة الصارخة، التي تدعو إلى عملية الضحك، فأجذب القارئ إلى القراءة، ملامساً الموضوع والتغلغل في عمق الحدث تحليلاً واستنتاجاً، مستشفّاً من خلالها صوت الحزن، الذي أرغمه على الضحك، وأعتمد على السخرية كوسيلة سيكولوجية؛ فهي تساهم في رفع الروح المعنوية للقارئ، بالاستعلاء على الخوف والقلق، حيث يمنحه شعوراً بالتوازن والانسجام، بين عالمه الداخلي والخارجي.

وهناك الكثير من الكتّاب أشادوا بدور الأدب الساخر، وأهميته كأداة للمقاومة، كالأديب الروسي مكسيم غوركي، والناقد الروسي ميخائيل باختين، الذي رأى في الضحك صيغة عظيمة، وتأثيره القوي في جذب القارئ نحو القراءة بشكل أكبر.

 

السؤال الحادي عشر: تبرز الهوية الكوردية، كجذر عميق ومصدر توتّر دائم، في عدد من القصص. كيف تكتب عن الهوية في ظلّ التهديد والطمس والإنكار؟

الهوية هي حاجة وجودية لكلّ فرد، فأنت تولد ضمن جماعة معينة، بدون إرادتك، منها تكتسب إنسانيتك، تشكيل وجودك الاجتماعي، وتتفاعل مع الآخر في إطار معيّن، ولكن أحياناً تغرّد خارج السرب، عندما تعي ذاتك الحقيقة، فتصبح أمام معضّلة كبيرة في ماهية البحث عن هويتك الضائعة، التي تجعلك غير متماثل مع شخص آخر في محيطك، فظهرْتِ القومية الكوردية كغيرها من القوميات في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكنها كانت مهمّشة وضائعة بين العرب والأتراك والفرس. عانْتِ الويلات، من الظلم والقهر والاضّطهاد، وقد حاولوا بشتّى الطرق تذوبيها واضمحلالها في تلك القوميات، وعدم الاعتراف بوجودها، هذه النزعة القومية الفاشية خَلق لدى الكورد نوعاً من التحدّي في إبراز هويتيهم القومية، والمعجزة التي حافظت على الكيان الكوردي هي اللغة الكوردية، ذات الأصالة التاريخية والحضارية، بالرغم من محاولة تلك القوميات من صهرها في بوتقة لغتهم، لكنها حافظت على وجودها وأصالتها.

أنا الآن أكتب بالعربية؛ كون دراستي وثقافتي جميعها بالعربية، تحت دوافع سياسية وقومية، لكنني لا أتحدّث إلا بالكوردية، ويظهر ذلك جلياً في كتاباتي (أفكّر بالكوردية وأكتب بالعربية)، حيث أختزل البعد القومي والاجتماعي في بنية عملي الأدبي، وهي الأساس التي تستند عليها صورة الهوية، فأظهر جمالية التوظيف الأدبي في هويتي، التي لا تُختزل، بل تنبلج في بنية عملي، فهنا أعرب عن ملامحي الكوردية بفعل التعبير الثقافي، ضمن مكنونات القصّة، وهو ناتج عن تفاعل دراماتيكي ما بين شعوري القومي وانتمائي الثوري للأدب، بحيث يتكاثفان معاً، مشكّلة بنية قصصي، من خلال عرضي لرؤية حقيقية ومؤثّرة في وعي القارئ.

 

«أوظّف الجنس فنّياً؛ لأكتشف طبيعة العلاقة الشخصية بذاتها». سربند حبيب

 

السؤال الثاني عشر: بالحديث عن موضوع المرأة، كمحور رئيسي وحسّاس في جميع الأصناف الكتابية، ففي قصصك لم تكن المرأة نمطاً واحداً، فهي الأمّ، الحبيبة، العاشقة، الضالّة، الضحية، والفاعلة. كيف ترى تمثيلك لها؟ وهل تخشى أن يُساء فهم بعض القصص؟

عانْتِ المرأة قديماً تحت مَأْثَم المورثات الاجتماعية والدينية البالية، التي قيّدتها وقلّصت من دورها في المجتمع الذكوري، وذلك بجعلها أحد متمّمات الرجل، وليس كائناً بشرياً ذا كرامة وحقوق، فهي عورة يجب إخفائها خلف جدران دون علم ولا قرار، كأنها قطعة أثاث تزيّن المنزل، وتستمرّ معاناتها حتى بعد انتقالها من النظام الأبوي إلى النظام الزوجي، وبالرغم من التطوّر والتقدّم الذي نشهده اليوم، ومع بزوغ فجر التنوير والإصلاح، تعالت أصوات الإصلاحيين الداعية لتغيير وضع المرأة، لكنها مع ذلك بقيت مهمّشة في كثير من المجتمعات، مكبّلة بالأغلال ذاتها.

فأنا أتعامل مع المرأة بصفتها موضوعاً، أو شخصية مساهمة في بناء العمل الأدبي، وليس بصفتها الواقعية كأنثى، هي ملهمتي في كثير من القصص، وأعتبرها البنية الأساسية لأيّ عمل فنّي، سواء كانت في السينما، المسرح، الأدب...، يجب إبراز دورها واعتبارها جزءاً متمّماً للرجل، لذلك أطرح قضية تحرّر الرجل الشرقي من مركزيته، وبأنه محور الكون، وأدعو المرأة إلى التحرّر الفكري، وألا تنتقم من واقعها بممارسة سلوكيات غير أخلاقية متمرّدة على ما ذاقتها من اضطهاد وتنكيل وتهميش عبر العصور، وأن تصل لفكرة مفادها بأنها عمود المجتمع، قادرة على العطاء والتربية الصالحة، لإرساء القيم الأخلاقية والإنسانية والتربوية، وبناء مجتمعات متوازنة، ترتقي في مسار نهضة فعلية، بحيث تبتعد عن التقليد، وتخرج من قوقعة البيت، وبأن وظيفتها لا تنحصر فقط في الإنجاب والطبخ... يل تشارك في المشهد الثقافي والعلمي والسياسي والاجتماعي، بحيث توسّع رقعة تفكيرها، وتدرك حقيقة أنها لم تُخلق لمشاهدة الدراما الهندية والصينية والتركية، وبرامج الأبراج، وشرب القهوة بنكهة الحديث عن الناس. عليها أن تحرّر ذهنيتها من أفكار رجعية لا تخدم تطوّرها الذاتي، فالمرأة اليوم ليست كالأمس، يجب أن تتحرّر وتكسِر قيودها، لمواكبة روح العصر، وأن تكون فعّالة في المجتمع. 

 


السؤال الثالث عشر: هناك قصص تلامس موضوعات محرّمة أو حسّاسة، مثل الجنس، الرغبة، الجسد، والدين... هل واجهت رقابة، أو رفضاً بسبب بعض هذه القصص؟ وإلى أيّ مدى يمكن للأدب أن يعبّر عن المسكوت عنه، دون الوقوع في فخّ المباشرة؟

الانسان بطبيعته المتمرّدة ينبش المستور، ويستهويه الخروج عن المألوف وخرق السائد، وهو السلوك الذي يلزمه ويعكس طبيعته البشرية المتمرّدة، ونزعته لارتكاب المحرّمات والخوض في عمقها الشائك، فالإنسان منذ القِدم تمرّد على التابوهات في الفنون التعبيرية عامّة، كالرسم، السينما، الغناء والأدب خاصّة، منتهكاً حرمة الثالوث المحرّم (الدين، الجنس، والجسد).

فطرحي لهذه التابوهات في القصص، هي وسيلة لتصوير حدث واقعي، وتعريتها لكشف الحقيقة، ولا أجعلها غاية لجذب الانتباه أو التشويق لدى القارئ، بل أستخدمها للمعالجة الفنّية في إطار كشف وفضح المناطق المظلمة في المجتمع، تنديداً واحتجاجاً لتحطيم الحواجز، التي تعيق العبور لمنطقة النور، تصحيح التشوه الذي لطّخ العلاقة بين الجنسين.

أوظّف الجنس في القصص فنّياً؛ لأكتشف طبيعة العلاقة الشخصية بذاتها، وبجنس الآخر، فمن خلالها نكتشف زيف المجتمع ونفاقه، بين الظاهر والباطن في تلك العلاقات الإنسانية، وأيضاً في الدين والجسد، عندما أطرحها أثير عبرها تساؤلات مستورة وممنوعة لدى القارئ، فأدغدغ تفكيره وأحرّضه على فهم الإشكال الذي يمنعه الاقتراب من منطقة الثالوث المحرّم، وهو ما يعبّر عنه الأدب في سياقه الرمزي واللغوي.

ولم أوجه حتى هذه اللحظة أيّ رقابة، ولكن أعتقد عندما أعود للوطن، قد تكون مجموعتي القصصية ممنوعة من التداول في ظل السلطة الحالية.

 

«الجسد مجرّد موضوع خارجي على الفكر، فوجود الذات كجسد خاصّ يعقب وجود الأنا المفكّرة، التي هي أساس كلّ إدراكات وأحاسيس الذات». ديكارت

 

السؤال الرابع عشر: وما الفرق بين الجسد بوصفه رمزاً للحرّية، وبين الجسد كموضوع للرغبة، في تصوّرك القصصي؟

يعدّ الجسد من أهم القضايا الفكرية، التي انعكست تجلّياتها في الفنون التعبيرية الحديثة، التي تسعى لتأصيل مدلوله السيميائي، في أيّ عمل فنّي وخاصة في الأدب، والتحرّر من فكرة أن لكلّ شخص جسده العضوي، والوصول إلى صيغة لكلّ شخص بالنسبة إلى ذاته جسده الخاصّ، أيّ التحرّر من مادّية الجسد بمفهومه البيولوجي وطبيعته الأنطولوجية، كبدن مكتنز باللحم وما يحمله من غرائز وشهوات، وعندما نصل لهذا المفهوم الديناميكي للجسد، ندرك ذاتنا الحقيقية في بلورة الوعي بالجسد، فمن المستحيل أن أكون أنا وشخص آخر في الآن ذاته، حيث يقول ديكارت في كتابه «تأمّلات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى»: «الجسد مجرّد موضوع خارجي على الفكر، فوجود الذات كجسد خاصّ يعقب وجود الأنا المفكّرة، التي هي أساس كلّ إدراكات وأحاسيس الذات»، وبالرغم من أن الجسد يُعدّ من التابوهات المحرّمة في مجتمعنا، لكني أوظّفها في القصص حسّاً جمالياً وطابعاً تخيلياً منفلتاً، لمعالجة الكثير من القضايا النفسية والعُقد الاجتماعية. وأعبّر عنه بوصفه ليس موضوعاً للفعل، بل ذات فاعلة، يحيا ويفكّر، يتحدّث ويشعر.


«الوطن هو حيث تتوفّر مقوّمات الحياة، لا مسبّبات الموت، عندما يُبتلى الوطن بالحرب، يموت مَن لا يستحقّ الموت، بسبب مَن لا يستحق الحياة». الماغوط


السؤال الخامس عشر: والمنفى، كيف ينعكس في كتاباتك؟ وهل تشعر أنه يوسّع من رؤيتك للعالم، أم يعمّق الجرح أكثر؟

المنفى في كتاباتي، حالة روحية ونفسية، وليس مكاناً مادّياً أعيش فيه رحلة استجمام أو مغامرة، فعندما يفرض عليك القمع سطوته، وأنت في بيتك، تشعر بالمنفى الحقيقي، فثمّة رقابة على حركة جسدك وحتى على اسمك؛ فنحن الكورد كنّا منفيين قبل الخروج من أرضنا، ولم نشعر يوماً بأننا ننتمي لهذا الوطن، ويؤكّد محمد الماغوط ذلك في كتابه «سأخون وطني»: «الوطن هو حيث تتوفّر مقوّمات الحياة، لا مسبّبات الموت، عندما يُبتلى الوطن بالحرب، يموت مَن لا يستحقّ الموت، بسبب مَن لا يستحق الحياة».

لذلك كنت منفياً داخل المنفى. وقد غادرت المكان، وبقيت روح الأشياء تعيش معي، فأنسج منها قصصاً بدافع نستولوجي، حيث أستحضر الوطن بذاكرتي الكوردية، عبر الكتابة، وهي خير شاهدة على تلك المأساة.

المنفى هو نوع من الاحتجاج والمقاومة، ضدّ حالة الشتات والضياع ومواجهة الواقع وليس الهروب، وهي تتيح لي فسحة من التأمّل في الذات، وكشف الألم والمعاناة، فعندما تعيش حالة الوحدة، وتفقد الجميع من حولك، يواجهك سؤال وجودي: «مَن أنا؟». ومن هنا تبدأ المعضّلة الكبرى في رحلة البحث عن تفكيك أسئلة عصية على الفهم والإدراك، دون الحصول على أجوبة شافية، فتصبح الكتابة بالنسبة لي وطناً أعيش فيه تغريبتي الروحية.

ويبقى المنفى هو المحرّك الأساسي لمادّتي الكتابية، التي تقوم على فرضية تفكيك الهوية، ونوع من التحليل النفسي الذاتي، رغم اتّسامها بالقلق الوجودي والانشقاق المتمرّد. أستخدم السخرية للتعبير بحرّية عن خلجات نفسي، فأعرّي الواقع وأرفضه، وأثور على الظلم والاستبداد بالكلمة.

 


«الحنين استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية». محمود درويش

 

السؤال السادس عشر: في تجربتك السردية، كثيراً ما يحضر الحنين بوصفه ظلّاً دائماً للنصّ، أو طيفاً مراوغاً للذات والذاكرة. برأيك، هل يُمكن للحنين أن يكون محرّكاً جمالياً للكتابة، أم أن العودة المستمرّة إليه، ليست سوى إعادة إنتاج للخيبة والخذلان؟

يقول محمود درويش: «الحنين استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية». ومن هنا أعتبر الحنين أداة أدبية عميقة في فهم الحياة والنفس الإنسانية، وهي نافذة أتأمّل من خلالها الحاضر لماضٍ عشته، واستشراقاً للمستقبل، وسيلتي السردية في خلق تواصل مباشر مع القارئ، فالحنين لدي ليس اشتياق للماضي، بل هو حالة استكشافية للذات والروح والتأمّل فيما سأرنو إليه مستقبلاً، فعندما أكتب عن ذكرياتي بالحنين أقصد حالة جمعية مشتركة لموقف معيّن، يعيد بالقارئ لملامستها، فيكون النصّ هنا قريباً يلامس حنينه، ويبقى له الأثر في البعد الإنساني، وهو الأداة الأنجع لطرح تساؤلات فلسفية.

فعندما أطرح في أيّ نصّ سبب تخوّفي من سواد المستقبل، وشعوري بالتوتّر في مواجهة هذه التحدّيات، يكون خلفها حنين كبير للماضي، وأستطيع من خلال هذه الحالة الوصول إلى توازن داخلي والسلام والتآلف مع المحيط، فالحنين هو شعور جمعي، يعكس مأساة الحاضر في ماضٍ جميل عشناه، فنحن فقدنا قيمة الحياة العادية البسيطة: ألعاب الطفولة، براءة الحبّ في المراهقة، إنسانية الإنسان في صخب الحياة... جميع هذه الأشياء تحتاج لمحرّك قوي لتنقذها من عبثية الفوضى اللا إنسانية وتخرجها للنور، فالحنين هو الوسيلة الأوفى للتعبير عما وصلنا إليه، صرخة خفية لقوى الحداثة في طمس الروح الانسانية المعاصرة، أداة في البحث عن معنى الحقيقي للأشياء المفقودة.

 

السؤال السابع عشر: برأيك إلى أيّ حدّ تشكّل الأمكنة المغلقة والرمزية (كالسجن، الغرفة، المدينة الصامتة) تعبيراً عن سطوة القمع وكسر الإرادة؟

للأمكنة دلالات مكثّفة في الفضاء السردي، فأيّ عمل أدبي في بنيته التكوينية يحتاج إلى المكان، ويعتبر الأرضية المحرّكة للأحداث، له أبعاده الإيحائية ذات الأوجه المتعدّدة، وهي التي تبنى عليها النصّ السردي، وتعطيه الشكل الحيوي، فمن خلال تلك البقعة السيميولوجية، نستطيع التعبير عن سطوة القمع (السجن مثلاً)، هي مادّة خصبة للإبداع، فالسجن وبالرغم من أنه مكان مغلق ومقيّد للحرّية، يبقى فضاء رحِباً لفكرة الثأر والبحث عن الحرّية والأمان، فالمكان هي لغتي الثانية في التعبير والولوج إلى عالم الكتابة، وهو العنصر الجمالي في رمزيته، فعندما أتحدّث عن غرفة مفتوحة وسط المدينة تكون سجناً في نظر القارئ وفق تأويله.

 

السؤال الثامن عشر: أتطرّق معك إلى دور الشخصيات الهامشية في المجموعة، وكشف المُعاش اليومي تحت القمع، وكيف تقوم على تعرية الخطاب الرسمي السلطوي.

بشكل عامّ للشخصيات الهامشية دور هامّ في المجموعة، بالرغم من أن وظيفتها أقلّ من الشخصيات الرئيسية، ومع ذلك لا يمكنني الاستغناء عنها؛ فهي تقوم بدور الوصل الفنّي بين عناصر القصّة، وتؤدّي وظائف خفية غير مرئية، تعطي تماسكاً قوياً في تشكيل بنية السرد، وتساعدني على كشف الواقع.

 

السؤال التاسع عشر: كيف تفسّر غياب أو ضعف حضور القصّة القصيرة جدّاً، في المشهد الأدبي الكوردي، مقارنة بأدب اللغات الأخرى؟ وهل يعود هذا الغياب إلى عوامل ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية، تؤثّر على تطوّر هذا الشكل الأدبي في الأدب الكوردي؟

نتيجة للتحولات الاجتماعية والفكرية والثقافية تطوّرت القصّة القصيرة إلى القصيرة جدّاً، التي أصبحت مجالاً رحِباً يتناسب مع سرعة إيقاع العصر،  والقارئ العجول الذي ابتعد عن القراءة الطويلة، لذلك تحتّم على الكاتب ابتكار صيغة تعبيرية جديدة، تتماشى مع سرعة الحياة، مختزلة العالم بمشاكله وتناقضاته في أيقونة سردية، فثمّة انشغال كبير في الأوساط الأدبية، للاعتراف بهذا المولود الجديد، ما بين متحمّس ومعارض، فهي ما زالت تعيش طور النقد، حتى تثبت هويتها الفعلية، فجميع هذه العوامل تؤثّر في حضور القصّة القصيرة جدّاً، في المشهد الأدبي الكوردي والعربي. وبرأي يجب تشجيع هذا الجنس؛ ليستقرّ على أرضية ثابتة، في العوالم الأدبية.

 

السؤال العشرون: ما أبرز الصعوبات والتحدّيات، التي تحول دون تطوّر تجربة الكتّاب الكورد، في مجال القصّة القصيرة جدّاً؟

إن الانخراط في الكتابة الإبداعية بشكل عام، أمر صعب، وبالأخصّ القصّة القصيرة جدّاً؛ فهي تحتاج إلى موهبة كبيرة أكثر من القصّة الطويلة والرواية، إذ تستدعي من الكاتب أن يقبض على العالم في بضع جمل، وأن يتسرّب إلى قلب وعقل القارئ بجمل وجيزة، والوصول للحالة السردية في أقلّ عدد من الكلمات.

والتحدّي الأكبر هو قدرة هذا الجنس في الصمود والاستمرار، ومدى تقبّله من قبل القرّاء، لتخلد في ذاكرتهم كجنس سردي مختلف، لذلك لا بدّ من تميّزها بمقوّمات خاصّة، من التكثيف والإيجاز في اللغة، والحكائية والدهشة والإرباك والصدمة والمراوغة... وفي اللغة الكوردية فنّ الحكاية هو جزء من التراث الشعبي، التي كانت تنتقل عبر الأجيال بشكل شفوي، ممّا أضعف من حالتها الكتابية، والعقبة الكبيرة تكون في اللغة باعتبارها لغة محظورة وممنوعة من التداول، بتهمة الانفصال والعنصرية، التي أدّت إلى ضعف الذخيرة اللغوية والقاموس الكتابي، وكذلك عدم وجود نصوص سردية تنهل منها المفردات، والتراكيب اللغوية والفنّية، وغياب الدراسات الأدبية والمعايير النقدية، بسبب عدم وجود المجمّعات اللغوية الأدبية، لمواكبة التطوّرات، التي تطرأ على الأدب بشكل عام.


السؤال الحادي والعشرون: كيف يمكن للقصّة القصيرة جدّاً، أن تلعب دوراً في التعبير عن الهوية الكوردية، والواقع الاجتماعي والسياسي الماضي والحاضر؟

القصّة القصيرة جدّاً كغيره من الأجناس الأدبية، تلعب دوراً هامّاً في التعبير عن هوية أيّ مجتمع، من خلال اللغة، فهي ترجمان المعاني وقالبها البديع، تساهم في تعزيز الهوية الثقافية. فعندما أتطرّق لأيّ حدث كوردي، من خلال اللغة، أجسّد بذلك هويتي، فمثلاً أستخدم الأسماء الكوردية والمناسبات والأغاني والأماكن، وجميعها تعكس هويتي، وتعزّز من الحسّ الانتمائي لأمّة تبعثرت في أصقاع العالم؛ نتيجة للصراعات السياسية والدينية، حيث تناثر الكورد كحبّات الرمّان، وابتعدوا عن أرضهم، ولكن ثمّة معجزة حقيقية أنقذت هويتهم القومية – وقد ذكرتها في جواب سابق – ألا وهي اللغة؛ إذ أعتبرها خطّ الدفاع الأول عن كينونة الأمّة، والدرع الواقي لمعالم هوية الشعب الكوردي وحضاراتهم المتعاقبة.

وبالرغم من المحاولات الكثيرة لطمسها وانصهارها في بوتقة قوميات أخرى، لكنها حافظت على حضورها في المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي، فتعبيري عن أيّ حدث في القصّة يكون من منظوري الكوردي، فأستحضر تراثي الثقافي والاجتماعي، وأجعله مادّة فكرية، وبالرغم من كتابتي بالعربية الجميلة تبقى هويتي الكوردية حاضرة في خلفية النصّ ومساندة لها دعائم ثابتة لا تتكسّر ولا تتهشّم، وفي الوقت الراهن ثمّة اهتمام كبير باللغة الكوردية، وأتمنّى أن تتطوّر كغيرها من اللغات، وتعزّز حضورها في المشهد الثقافي العالمي.

 

السؤال الثاني والعشرون: هل يلعب الداعم والناشر والموزّع ودور الثقافة، دوراً في ندرة هذا الشكل القصصي في الأدب الكوردي وحتى العربي؟

للناشر والموزع دور كبير في نشر هذا الجنس الأدبي من خلال دعم الكتاب القصة ، فهناك كثير من أدوار النشر تهتم بالرواية والكتاب المشهورين من أجل الربح المادي ويبتعدون عن دورهم الريادي في الثقافة ، وكذلك المؤسسات الثقافية في المجتمع تلعب دورا في نشرها من خلال الندوات والمحاضرات والامسيات الأدبية قصصية الكوردي وحتى العربي والقيام بمسابقات خاصة بقصة القصيرة جداً دعما وتشجيعا لكتّابها.

 

السؤال الثالث والعشرون: ما توصياتك لتشجيع الكتّاب الكورد، على تبنّي القصّة القصيرة جدّاً، وتطوير هذا الشكل الأدبي؟

نظراً لما نعيشه في الوقت الراهن من تحوّلات اجتماعية وسياسية وثقافية وتكنولوجية، فنحن بحاجة لأدب يواكب هذه التحوّلات، ويعبّر عن الحياة بوتيرتها السريعة، بتقديم سرد قصصي كتب بلغة تراهن على فكرة النسيج السردي المكثّف والمختزل، وتبتعد عن المباشرة، وتتميّز بمقوّمات حكائية موجزة، تحتوي على الدهشة، لإرباك القارئ وشدّ انتباهه، بطرح موضوعات متفاعلة ومتجاذبة، بما يحمله من همومه وحاجاته وإثارة قضاياه المجتمعية، لذلك من الضروري العمل على النشر والترويج لهذا الجنس الأدبي، خفيف الظلّ، وخاصّة في ذائقة المواهب الناشئة، ليترسّخ كنوع أدبي، ويتعايش مع الأنواع الأخرى في الساحة الثقافية.

 


google-playkhamsatmostaqltradent