وجيهة عبد الرحمن
خذلتك بئرك مراراً وما كنت تعود إلى رشدك! تقول لك أطياف روحك بينما تخاطبها وأنت منكبٌّ على علبة سردين تفتحها وقت الظهيرة.. السردين خدعة الجوع والصواب في ترميم العظام كما يقولون!
وأنت مذ سمعت صوت خيانتهم فاضت بحيرة الدم في رأسك ولم تنم قرير العين مذَّاك..
لا تغتمَّ ، لست أولهم ولن تكون الأخير في فعل الصوم عن قبحٍ ، أنت شريكهم.
- لا لست أنا من فعل ، أنا بريء من ذنوبي براءة الذئب من دم يوسف.
- لكنك في ذات البئر ترقد!
- نعم، لكن قميصي لا يزال مزرَّراً، أكمامه تحيط بساعديَّ والمرفق، ولم يشقُّوا صدري بعد.
- بل أخذوا منك برهاناً آخر على موتك، أخذوا حفنة من ترابك.
تصارع وحدك حقيقتك بينما الكلُّ عنك غافل ، كأنَّما رهنت نفسك للجنية التي تحبُّ، لم يكن ما حدث على مقاس ما خطَّطت له، كنتَ قد قررت حفر بئر صغيرة في مساحتك التي اشتريت من فناء المدينة التي غادرتها، وحلمت بحاملة مفاتيح فخمة لآلية لن تكون بأفضل من خردة الأرمني في إعادة إصلاح ما تعطَّب منها.
راهنت على هرٍّ أسود يمتطي إسفلت الشوارع باحثاً عن علب سردين فارغة، عن بقايا سمكة عفتها وقت الظهيرة.
الهرُّ لا يجيد سوى لغتين، التحديق في عينيك بينما يتلصص للهرب، وتشمُّم ما تقتات عليه.
طعنوك في طفولتك تاركين السكين مغروزاً في الفقرات التي تنتصف رقبتك ووركك، إنها مناطق الظهر وفق تقويم تشريح الآدمي، عطَّبوك من ظهرك فأردوك كدمية معلَّقة بخيوط خيبتها.
لُدغتَ من ذات الجحر مائتي مرة، أنت أحمق بالفطرة المنكوبة وأحمق بالولادة العسيرة وأحمق بطفولتك إذ لم يقبلوك بينهم وقد استعاروا ألعابك بها يلهون بينما تقف في زاوية بيتكم تهرج وتمرج للهوهم بغنيمتهم منك، تصفِّق لهم وفي المساء تحمل أغراض خيبتك وتمضي إلى المغيب متأبطاً بُصاقك!
لن يقبلوك لأنَّهم قبل ذا قد مزَّقوك، وقبل ذا أدانوك على جرائمهم، ونسبوك إلى الجن!!
كم خانك الحظ أيَّها العاثر الحظ وأذيال هزيمتك لا تزال ممسكة بها أصابعهم القوية، يعفِّرونك في طين دسيستهم الكبرى... ابن ضالٌّ أنتَ، وفي الضلالة ينسى المرء خلقة ويستهين.
كان حريَّاً بك أن تركض كما الغزالة وقت الفجر إلى منبع الماء، تحفر بحافرك اللين ما استطعت، علَّك تجد الماء فتئن رئتيك بامتلائها من هواء لن يكفيك، أنت المنفي عن عقيدتك الكبرى، حتى الآن وأنت غافل عن مشيئة الرب في إرشادك عن الغيِّ، ثم هل سيتركونك وشأنك تدبِّر لهم مكيدة فتطمر بها بقاياهم التي تحلم بها، لطالما تركوك تسرح وتمرح، تمزق أوراقك بيديك الصلبتين وتذرُّ القصاصات هباءً في السماء التي لم تقك ألسنتهم، أنت الحوذي الذي قاد العربة في غير اتجاه ، وراح يماطل الحصن، يشغله على غير هدى، علَّك تجد الفكرة في رأسك فتقود باتجاه ما سلبوه منك، الفرصة الحانية لا تجيء مرتين أيها المتهم بالخديعة ، اغتنمها كيما تحيد عن الحياد الذي فَطرت عليه، اخلع عن رقبتك التميمة السوداء، اقذفها بعيداً كما لم تقذف بقلبك من قبل ، ستجد آلهتك حيث تحط التميمة ، ستحدثك عن إرث أسلاف خانوك في النسب، وما تركوا لك موطئ قدم لتهزَّ عرش الأولين الذين ركنوا حياتك إلى الدخان من دون نار، ستأتي على الأخضر واليابس ذات مصيدة، حتى الحوذي حين يمسك بلجام قلبه يهتدي إلى وعورة الطريق ولن يحيد عن مسافة الأمان وفق تقويم الشر المبيت على جانبي الطريق وناصيتها العوجاء، لا تكلِّف نفسك ما ليس بمقدورك، قُد باتجاه ما خلعوه عنك وما نسبوه إليك، أنت الحيُّ الذي رزق من البئر مرتين، الغزال الذي اهتدى إلى صمته، والحوذي حيث يجيد الإمساك برسن حصانه، كن كما لم يرغبوك، آن أو أن امتهانك قيادة القطيع الخائف إلى البراري الفسيحة.