فاتن حمودي
الفن عالم فتح لي أبواباً روحانية، لقاء مع نفسي ومع الكون، كل لوحة تأخذني إلى باب لأطرق أبواب الوجود
بمقولة الفنانة التشكيلية فاطمة لوتاه أدخل النص، لأشير إلى إنسان حاضر بجموح عالٍ، على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المعارض التي تقيمها في أكثر من مدينة عربية وعالمية، حاضرة في قضايا في الحدث العربي اليومي، في الجمال والتصوف والانزياح نحو قيم وجودية عالية، آثرت أن تكون بين مدينتين: دبي منصة الطفولة والشباب الأول، وفيرونا التي اختارت الإقامة فيها، وما بين المدينتين أسست بيت الفن، تطورت وعرفت وغامرت، ولا تزال في شغبها تطرق أبواب الروح، مرة بموضوع المرأة الذي استغرق منها سنوات، لا سيما بين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ثم توقفت وقفة تأمل، لتعود عام 2000 لتسابق كل ما فاتها، عرضت في اليونيسكو، وصلت عام 2018م إلى العالمية، حين عرضت لوحاتها على أكبر الشاشات الالكترونية في نيويورك بساحة تايمز سكوير.
وأقامت معارض كثيرة في إيطاليا ووطنها الإمارات، فكان لها بيت للفن في البستكية، وبيت في إيطاليا، بيتان مفتوحان على التجربة والمغامرة والاكتشاف، بل على صداقات مع فنانين عالميين.
يمكننا القول، أن فاطمة لوتاه، بنت الشمس، اقتربت من أرض جلجامش وحمورابي، وأساطير الحب، وفي بغداد انضمت لأعرق أكاديمية فنون في الشرق الأوسط، تلقت الأسس الفنية، فسكنتها بغداد كمكان يشتعل بالأسئلة والجمال والفن، لدرجة ترتجف معها حين يتردد اسم هذه المدينة، ثم انتقلت إلى أمريكا، لتدخل تجربة مختلفة تماماً، ولم يكن بالأمر السهل أن تقف امرأة خليجية سمراء، بين وجوه الغرب، وتثبت وجودها، تقول:
في أمريكا عشت تجربة مختلفة، وهي أن تكون مبدعاً بطريقتك، لا أحد يوجهك، تدخل باب التجريب، اكتشاف الخامة، وكل ما تحسه، إلى أن يصبح الفن حاجة روحية حقيقية
وتوجت هذه المرحلة بنصيحة أحد الأكاديميين لفاطمة، أن تتابع مشوارها في بلد الفن إيطاليا.
إنها رحلة وكأن خيط الفن فيها رسم مشوارها وفضاءها، فكانت التجربة في التنوع والتجدد والإشراق، حيث مساحات التجريب لاكتشاف الذات، وبقيت بغداد في الذاكرة، ذاكرة الحب والبرد وشهقة الحلم، ثم مضت لتتابع مسيرتها في التعلم.
هكذا هي ابنة دبي حيث تقف بين مطلق الصحراء ومطلق البحر، فتؤثر الرحيل والسفر، فالسفر اكتشاف، والطريق محطات وعلامات، سعت إليها بدأب وجد، كي تضفي شروقاً متميزاً على سطوح لوحاتها، الثيم والإيقاعات والمفردات المتداخلة والمساحات اللونية التجريدية والتعبيرية والحروفية أحياناً، وما تحمله الموضوعات من أفكار من خلال التعامل على ترويض المساحات وتكثيف إيقاعاتها اللونية، فتتداخل فيما بينها ضمن مركزية الفكرة، لتحول كل ما يجول بروحها إلى فيض من الألوان المتداخلة والمتجاورة تختزن نكهة من مزاج شرقي يشع بسطوع لوني متأثرة في قوة حرارة الشمس، وفضاء البحر، فتعطي معنى حقيقياً لنتاجها الفني.
إن غاية الفن عند لوتاه تأتي من منابع روحانية، وما هي كفنانة إلا وسيط يحمل رسالة جمالية تأملية تلتقطها عين المتأمل للفن، وهو ما جعل لوتاه تشير إلى:
أن عين المشاهد الأوربي تشعرك بأنك فنان، وتنمّي هذا الإحساس، وهذا بسبب ما يختزنه في روحه من ثقافة وتاريخ فني عريق، في حين عين المشاهد العربي تتفاوت بين النخبوي العارف، والذي يمر مرور الكرام العادي في ثقافته البصرية
فاطمة لوتاه بتواضع صامت وفي اغتراب اختياري تفتح للإبداع الفني الإماراتي نافذة على أوروبا، ونافذة على وطنها، فتكون حاضرة في المعارض، وفي بيت فاطمة لوتاه في بستكية دبي، حيث المكان مفتوح على البحر ورائحة التاريخ، وصالات الفن وورشات تجمع بين التراث والمعاصرة معاً.
في معرضها «غزل»، استخدمت في لوحاتها كلمات الحب لشعراء إماراتيين، لتوقع عنواناً لفنها الماضي أبداً نحو فضاء الإبداع ومحبة الوطن، وهي القادمة من ذاك المثلث الجغرافي التاريخي بين الفينيتو وتوسكانا ولومبارديا، مثلث النهضة الأوروبية فنياً وثقافياً، لا يمكن لها أن تكون حيادية تجاه ما يدور حولها، وهو ما عبرت عنه في معرضها «جوهر»، ففي أعماق فاطمة طفلة ترسم للإنسانية تقول: «الألم في مجموعة سورية انعكس من خلال الأم والطفولة، بينما ظهر الزيتون في مجموعة القدس المتجذرة برغم حضورها في هذا الفضاء اللوني»، ترسم اليوم للعراق وتشارك في عرس الحرية ببيروت، تنشر لوحات وإهداءات على صفحة الفيس بوك، فهي حاضرة، ومؤكدة بأن الفن رسالة وموقف.
في هذه اللحظة أعود بذاكرتي إلى الساعات التي قضيناها معها في البستكية، ونحن نسجل ونصور فيلماً وثائقياً عنها، كان هذا في المكان التاريخي البستكية، الذي يعيدنا إلى حياة الألفة والمحبة ومعنى الجمعي والجمالي، رأيتها كيف تتحرك بجرأة لا نظير لها، فتقرر أن تبدأ من مساحة الحرية، معلنة أهمية التسامح في عالم تأكله الحروب، فتفرش القماش على الأرض وتبدأ تنثر اللون، وكأنها تنثر بذور الخصب، ثم تسقي اللون بالماء وتبدأ تعجن الألوان بإحساس عال لتتداخل الألوان بسحرية خاصة على سطح لوحتها التي تتجاوز الثمانية أمتار.
وحين ترسم تدهش من يراها من كبار وصغار، فيتحلقون حولها وكأنهم أمام مشهدية سينمائية ساحرة، بل أمام لوحة يزدهي فيها اللون مع كلمات كتبها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان باني الإمارات.
يا سحابة قدرها فوق السحاب لا يصيبك باس يا بحر الندى
تصرّ فاطمة لوتاه العودة إلى أحد مفردات البيئة الإماراتية ألا وهو البحر، لتفرد على رمل شطآنه القماش الأسود، قماش العباءات، تنثر الرمل على القماش وتوزع اللون لتقوم بعد ذلك بخلطة سحرية وتشتغل اللوحة بكل الخيال وكل الخلايا، تكتب بالريشة الكلمات ولا يهمها في المحصلة سوى اللوحة، وتأخذ تكويناتها المجردة في أعمالها أحياناً ملامح الطائر المحلق في حلم له مغزاه مستفيدة من رسومات الأطفال الذين إذا عجزوا عن رسم النجوم يكتبون في موضعها، هي هنا تفعل الأمر ذاته لتشعرك بمشهد نيازك منبثقة وشهب ساقطة في قتام اللوحة.
نتاج فاطمة لوتاه الإبداعي غني ومتنوع، فقد مضت نحو صياغة الحلي والمجوهرات، منطلقة من الأنوثة والحركة والفن في تماوج يعكس إبداعاً خاصاً، حيث شكلت الصحراء إحدى مفردات البيئة الإماراتية، مساحة في عالمها الفني، فأبدعت مجموعة أطلقت عليها «الصحراء والكثبان الحمراء»، عكست من خلالها وجوها لرجال ونساء من بلادها، سكنت في ذاكرتها.
لامست لوتاه في مجموعتها «سلام» ذاك الحلم القديم في الشرق الأوسط، بل الحلم الذي بات يؤرق العالم، ملتقطة بفنية عالية لحظات إنسانية مختلفة، فرسمت رجالاً ونساء من أديان مختلفة، المسلم والمسيحي واليهودي وكأنها تدعو إلى السلام والتسامح الإنساني بين كل هؤلاء.