-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

كافكا في «القلعة»: تشييد الكوابيس والغرائب بلعنة الاغتراب


إدريس سالم

 

الافتراء نسبيّاً وسيلة دفاع بريئة وعاجزة في الوقت نفسه

فرانتس كافكا – القلعة

 

إن إحدى أعظم أسئلة كافكا الوجوديّة، هو الاعتراف في زمن العبثيّة والكابوسيّة، ففي روايته «التحوّل» مثلاً كان يحاول التحرّر من الشقاء الإنسانيّ ودونيته، وفي رواية «المحاكمة» يبحث عن التبرئة، لكنه لم ينجرف في مجاراة السلطة، بينما نجده في «القلعة»، رغم نزاعاته الثوريّة والمجتمعيّة، كان شديد الطموح، لا يكلّ ولا يمل، يقِظ جداً – رغم انتقاده للطموح كفكرة – لأن ينال اعتراف السلطة به وإدخاله القلعة.

 

القلعة، هذه الرواية الشهيرة والمثيرة للأديب والفيلسوف التشيكيّ «فرانتس كافكا» الصادرة عام 2018م بطبعتها الجديدة عن دار «الرافدين» للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت، بالتعاون مع «منشورات تكوين» في الكويت، ودار «ممدوح عدوان» للنشر والتوزيع في دمشق، ترجمها الناقد السوري «نبيل الحفار»، والبالغ عدد صفحاتها (416) صفحة. مبتورة الخاتمة. نشرها صديقه الناشر والكاتب التشيكيّ «ماكس برود» عام 1926م، بعدما طُلِب منه على لسان كافكا أن يَحرق كلّ أعماله المنشورة ومسودّاته، لكنه أبَى أن يسمع منه.

لم يكتب كافكا الفصل الختاميّ لروايته هذه لكنه أخبر برود أن القضية تنتهي بموت بطلها (ك)، وتعلِمه القلعة على فراش موته أن مطلبه بالحياة في القرية ليس مقبولاً، لكن نظراً للظروف الخاصّة فإنها ستسمح له بالعيش والعمل فيها.

 

تسرد القلعة حكاية ك الذي أرسله مجهول لغرض مجهول إلى قلعة هي نفسها حالة مجهولة بموظّفيها وقوانينها، ولا نعرف حتى النهاية ما يفترض بالمسّاح ك أن يحقّقه من زيارته لهذه القلعة التي لا نعلم ماهيتها، ومَن يديرها، وما النظام الذي تمارسه على ساكنيها، وبدلاً من السرد الذي يمضي إلى نهاية حبكة مرسومة بعناية فإن كافكا يواجه القارئ بسلسلة من الإحباطات، حيث حاول ك المرّة تلو الأخرى أن يتقدّم في عمله، ويقابل «كْلَم»، لكنه لا يصل أبداً إلى أبعد من محيط القلعة، لتفشل كلّ أحلامه وهواجسه.

 

تبدأ الرواية بوصول ك وهو مسّاح الأراضي في القرية، ثلاثيني العمر، غريب الأطوار، رثّ الهيئة، عنيد وحالم إلى قرية غارقة في الثلوج، تلفّها ضباب كثيف خالية من الإنارة، تقع بالقرب من القلعة، وتخضع لسيطرتها. يوظّف ك في القرية دون أن يمارس وظيفته، محاولاً التواصل مع القلعة التي تقوم بإدارة شؤون القرية من خلال شبكة من الموظّفين، خلال هذا البحث يلتقي ك بعدّة شخصيّات، من ذلك فريتس (أحد نوّاب وكيل القلعة)، لازيَمن (معلّم الدباغة)، غِرشْتكر (صاحب الزحّافة)، آرتور وبرمياس (معاونا ك)، أولغا وأماليا (شقيقتا بَرْنَابس)، فريدا (عشيقة كْلَم السابقة وعشيقة ك)، العمدة، سورتيني (موظّف كبير في القلعة)، غيزا (معلّمة المدرسة)، سيمَن (رئيس فرقة المطافئ)، إرلانْغَر (أحد أمناء كْلَم الأوائل)، وآخرون كثيرون.

 

يبتعد كافكا تماماً عن وصف الحالة النفسيّة لكلّ هؤلاء، لكنه يتعمّد في إطالة الحوارات المؤذية للأعصاب والدائرة بينهم خاصّة المتعلّقة بوصف آلية عمل الموظّفين، مما جعلها تكتسي طابعاً كرتونياً بكوميديتها المفرطة إن صحّ التعبير. طبيعة الشخصيّات غير واضحة؛ إذ لا نعرف المتحيّل من المحتال عليه، أو المتحكّم والمتحكّم به، فالغموض يحيط بكلّ جوانبها، حتى أننا لا نعرف الاسم الكامل للشخصيّة الرئيسيّة.

 


يخضع – رائد الكتابة الكابوسيّة – الزمان والمكان والجسد والروح لقوانينه العبثيّة والكابوسيّة والغرائبيّة، فيحوّل عناصر العالم الخارجيّ بشكل منظّم بارع إلى ظواهر أحوال نفسيّة، ليتّخذ من القلعة الطريقة الأمثل للسخريّة من الأوامر البيروقراطيّة، فيدافع بذلك عن اغتراب الفرد، وإحباط الإنسان المستمرّ من جراء محاولاته مقاومة النظام السياسيّ والاجتماعيّ المقيتين.

 

يتناول في قلعته قضايا بسيطة ومهمّة في آن واحد، مثل الوحدة والألم والبحث عن رفقة إنسانيّة والتوق إلى الكرامة والفهم، فضلاً عن قضايا مثل الحياة الجنسيّة والصراع اليوميّ مع العمل، تفرض على القارئ أن يواجه حاجة إنسانيّة أساسيّة، وليكون شاهداً على نضال ك من أجل الاعتراف بكيانه واحترامه، لأن أساس كينونته برمّته يقوّض على أيدي أولئك الذين لا يعترفون بعمله أو حقّه في الوجود بينهم.

 

القلعة، رواية أخرى غير مكتملة لفرانتس كافكا، غامضة، هي متاهة معقّدة ومجهدة ومنهكة. تحتاج لأكثر من قراءة؛ لأنك في كلّ قراءة ستعود لتكتشف شيئاً عن عالم العبث الوجوديّ، وتدرك أمراً لم تكن تدركه من قبل. مليئة بالتفاصيل الرمزيّة يصفها بشكل إيحائيّ كبير، تشعر معه أنه يحكي حلماً أو موقفاً حدت له شخصيّاً، مع أن أحداثها تدور خلال ستّة أيام فقط، ذلك الجوّ الكابوسيّ المقبض الذي يشعرك إنما الكوابيس صنعت خصّيصاً لتتلاءم مع كتابات كافكا، ليطرأ في ذهنك عشرات الأسئلة عن الرواية التي قد يراها البعض مجرّد تأويلات لأحلام رآها أو هي إثارة لأسئلة كانت تشغله من أجل الثورة على الظلم والاستبداد والخوف، إضافة إلى أسئلة الخاتمة التي أساساً جاءت شفهيّاً على لسان صديقه الوفيّ والمخلص «ماكس برود»، ليكون السؤالان الجوهريان: «مَن هو ك؟ ومَن هو كْلَم» حاضران من بداية الرواية إلى نهايتها؟

 

حقيقة، ومن رؤية شخصيّة بحتة عن عالم هذا الرجل، أنصح لمَن سيغوص فيه أن يستعدّ ويحتاط من مشاعر الملل والاستفزاز والإحباط وهو يقلب الصفحات وينهي الفصول؛ فكلّ قراءة غير عميقة هي عقيمة، إذ يمتلك كافكا مفاتيح الغرابة والدهشة والعبثيّة الممزوجة بالكوميديا السوداء الساحرة والهادفة؛ فالمدهش والمحيّر في هذه الرواية أن ك يعرفه جميع الشخصيّات التي تدخل حلبة السرد والحبكة والمونولوج، دون سابق إنذار، أيّ أن القارئ يشعر بأن الشخوص أناس متآمرون ومتجسّسون على البطل، في حين أن البطل نفسه غير مبالٍ حيال معرفة الجميع به وبعمله وغايته من الذهاب إلى القلعة.

 


عالمه هذا الرجل المرهق مرهق، أفكاره مرهقة، وفلسفته مستفزّة، لغته وتقنيّاته متعبة، عندما وصلت لمنتصفها دون أن أصل لكينونة ك وكْلَم والقلعة شعرت أن هناك رغبة جامحة في داخلي تحثّني كي أمزّق الكتاب؛ سرد كثيف، تفاصيل كثيرة يمكن إسقاطها لكثير من المطارح والقضايا، حوارات طويلة منهكة جداً، الحالة التركيبيّة للشخصيّات مستفزّة وكوميديّة في آن معاً، لربّما هذا الحقير تعمّد استفزازنا في هذا العمل؛ إذ تعمّق في تفاصيل الأشياء الصغيرة التي تثير الأعصاب، ما يجعلني أكتفي بهذا الحديث الثالث والأخير معه بعد التحوّل والمحاكمة، وربما لن تأتي فرصة اللقاء والتحاور مع المفقود أو أمريكا، أو رسائل إلى ميلينا، وغيرها من كتبه القيّمة.

 

إدريس سالم

كاتب كردي

 idris.heci.salim@gmail.com

تعديل المشاركة Reactions:
كافكا في «القلعة»: تشييد الكوابيس والغرائب بلعنة الاغتراب

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة