-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

قاضي الإعدام

مصطفى تاج الدين الموسى

 

عندما رجع القاضي المتقاعد من رياضة الجري صباحاً إلى بيته، عثر على كُتيب صغير داخل صندوق البريد في مدخل البناء.

تصفح أوراقه على عجل وهو يصعد الدرجات، انتبه لوجود صور شخصية لمجرمين تم إعدامهم خلال مهنته الطويلة كقاضٍ، أعلى كلّ صفحة، وبعض المعلومات عنهم في الأسفل.

لم يهتم القاضي كثيراً، وخمّن في سرّه أن شعبة الإحصاء في القصر العدلي قد أرسلتْ له ولبقية الزملاء هذا الكُتيب، ضمن نشاطاتها المعتادة.

رمى الكتيب لا مبالياً على مكتبه ثمّ أخذ "دوشاً" دافئاً، وجلس مرتدياً برنصه القطني، يتسلى بإلقاء نظرات سريعة على عناوين الجرائد، مع كوب شاي ساخن.

بعد ساعة، وما إن جلس القاضي المتقاعد في مطعمٍ قريب ناوياً تناول طعام الفطور، حتى اقترب منه رجلٌ غريب، عندما وصل إليه صفعه بلؤم، تحسس القاضي خده متألماً ومندهشاً، بينما الغريب يميل إليه ليقول له بحقد:

ــ أنا المجرم عواد يحيى، أعدمتني منذ ثلاثين عاماً، ولو أنكَ لم تحكمني بالشنق آنذاك، لكنتُ قد عشتُ لأموت هذا اليوم في ظروف طبيعية، كان يجب أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق، رجعتُ إلى الحياة في اليوم الذي كان يجب أن أموت فيه طبيعياً، لأعيش الثلاثين عاماً التي حرمتني منها، وسوف أمضيها بصفعكَ كلما شاهدتكَ، لقد حلّتْ عليك لعنة المشنوقين...

ابتلعته ثيابه وهو يراقب الرجل الغريب يمضي مبتعداً، بينما الحيرة تفتك بملامح وجهه، لم يتناول القاضي المتقاعد فطوره، إنما رجع مسرعاً إلى بيته وثمّة شعور غامض يتجول داخله، وكأن جسده بيتٌ مهجور يتجول داخله شبح.

التقط ذلك الكُتيب عن طاولته وهو يلهث، قلّب الصفحات بأصابعه المرتجفة، ثمّ انتبه لصورة الرجل الذي صفعه توّاً وكانت في الصفحة الرابعة وأسفلها بعض المعلومات عن هذا المجرم.

"المتهم عواد يحيى، قاتل، تم إعدامه في تاريخ كذا وكذا.

ملاحظة: لو أنه بقي على قيد الحياة لتوفي في ظروف طبيعية بتاريخ كذا وكذا".

ارتجف جسده رعباً، التاريخ الوارد في الملاحظة يوافق هذا اليوم فعلاً، هذا الكُتيب ليس من صنع مكتب الإحصاء في القصر العدلي، إنه من صنع الشيطان، سقط أرضاً على ركبتيه، كان يحاول أن يفهم ما يحدث له، شيء لا منطقي رشّ ضباباً سميكاً في عينيه، ومن عينيه تسلل هذا الضباب إلى داخل دماغه.

احتفظ بهذا السرّ لنفسه، خشي أن يخبر أحد أصدقائه فيصفه بالجنون، مرّت الأيام وعواد يحيى يعترضه حِيناً بَعْدَ حِينٍ، ليسدد إلى وجهه صفعة قاسية.

بعد أسابيع قليلة اعترضه رجلٌ آخر في الشارع، صفعه وهو يزعق بحقد:

- أنا ميمون عبد القادر، أصدرتَ حكماً بشنقي منذ سنوات، ولو أنني لم أمت شنقاً وقتذاك، لبقيتُ على قيد الحياة حتى هذا اليوم لأموت بشكلٍ طبيعي، رجعتُ إلى الحياة لأعيش السنوات التي حرمتني إياها، ولأمضيها بتوجيه الصفعات لوجهك، تباً لك، كان عليكَ أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق.

ذهب ميمون مع صدى ضحكاته، بينما القاضي المتقاعد ظلّ مرمياً على الأرض بعد الصفعة القاسية التي تلقاها، يتأمل السماء، كانت السماء غامضة، كانت الغيوم في الأعلى تتخذ أشكالاً لا تشبه أيّ شيء.

جرّ رجليه إلى بيته، وفي الصفحة السادسة من الكُتيب عثر على صورة ميمون عبد القادر، ثمّ قرأ أسفلها المعلومات التالية:

"المتهم ميمون عبد القادر، قائد عصابة، تم إعدامه في تاريخ كذا وكذا، لو أنه بقي على قيد الحياة لتوفي بشكلٍ طبيعي في تاريخ كذا وكذا".

أيضاً، في هذه الملاحظة، انتبه القاضي المتقاعد إلى أن التاريخ الذي كان يجب أن يموت فيه هذا المتهم بشكلٍ طبيعي، يصادف يومه هذا تماماً.

- أيّ شيطان صنع هذا الكُتيب؟

ردّد وحلقه جاف، أغلق الكُتيب وراح يضرب به جبينه، ضربات هستيرية، صار يهذي، وينطق بكلمات غير مفهومة، مشى مترنحاً تتقاذفه أشياء بيته حتى المطبخ ليشرب الماء.

في الأشهر التالية صار سجين بيته،ونادراً ما يغادره، يرمق بخوف هذا الكتيب وكأنه كابوس ينوي أن يُفقده عقله، وكأنه وحش من لحم ودم ينوي أن يفترسه، صار يدخن ويشرب القهوة، ولطالما في حياته سابقاً كره التدخين والمدخنين والقهوة وشاربي القهوة، كان ينحل ببطء وذقنه تزداد كثافة ببطء أيضاً، بينما عواد وميمون يعترضان طرقاته على قلة خروجه من بيته، ليصفعاه بقسوة، ثمّ يمضيا بلا مبالاة.

صار ينحني لساعات على الكتيب، يدقق بتلك الملاحظات المقتضبة تحت كلّ صورة من صور المجرمين المشنوقين في كل صفحة، يدقق بالتاريخ المفترض للوفاة الطبيعية، ليستنتج متى سوف يرجع إليه هذا المجرم أو ذاك... كان يهمس في عزلته الداكنة: إنه الكُتيب المقدس لشياطين الجحيم، هذا الكتيب لعنة مرعبة حلّتْ عليّ.

ظهر ثالثهم بعد أشهر لينضم إلى عواد وميمون بهواية صفع القاضي المتقاعد، باغته في مدخل البناء، كان وجه القاضي المتقاعد شاحباً، همس مستسلماً لقدره المؤلم:

- أنت المتهم جابر عيسى، أصدرتُ بحقك حكماً بالشنق منذ سبع سنوات، ولو أنكَ بقيتَ على قيد الحياة، كان يجب أن تتوفى اليوم في ظروف طبيعية، وها أنت الآن ترجع إلى الحياة لتعيش السنوات التي حرمتكَ منها، وتقضيها بصفعي.

- الزملاء المشنوقون وفروا عليّ شرحاً طويلاً، كان عليكَ أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق.

قال له جابر عيسى بكراهية، وهو يسدد صفعة قاسية قذفت بالقاضي المتقاعد مترين خلفاً.

مثل طفل مقهور، بكى وهو يزحف على أطرافه فوق الدرجات ليدخل بيته.

يوماً بعد يوم لا شيء يفعله سوى الاستلقاء على سريره، والبكاء لساعات، والتوسل للأشياء كلها أن تساعده، التوسل لله والأنبياء والقديسين، التوسل للسماء، ثمّ التوسل بجنون للمزهرية، للخزانة، للنافذة، للسجائر، لفناجين القهوة..

البارحة صار يهذي بأن توسل لصنبور الماء، ودائماً كان يتوسل لهذا الكُتيب، وللمجهول الذي صنع هذا الكُتيب علّه يرحمه.

كان يلمح دائماً من نافذته عواداً وميموناً وجابراً يتمشون بين العابرين في الشارع.

المشنوقون بسبب أحكامه كقاضٍ خلال عقود، سوف يرجعون الواحد تلو الآخر، في الأيام التي كان يجب أن يموتوا بها بشكلٍ طبيعي، ومجرمٌ بعد آخر، سيصير وجهه عاصمة للصفعات في هذا الكوكب الملعون.

قبل نهاية هذه السنة، رنّ هاتفه عدة مرات في المساء لكنه لم يرد، في الرنين الأخير أخذ القاضي المتقاعد السماعة بوهن إلى أذنه، ليتحدث متعباً.

- مرحبا يا حبيب "قال الصوت مستهزئاً" انتظركَ منذ الصباح أمام بيتكَ ولم تنزل حتى الآن، أنا قاسم حميد...

- أعرفكَ –تنهد بحسرة، ثمّ أردف القاضي المتقاعد بدموع صامتة – لقد حكمتكَ شنقاً منذ عقدٍ ونصف، كان يجب أن تعيش حتى اليوم لتموت بشكلٍ طبيعي، وبمناسبة موتك الطبيعي الذي لم يتم الآن، رجعت إلى الحياة لتعيش ما فاتك من سنوات بسبب شنقي لك.

- كان عليك أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق، أنتظركَ في الأسفل مع الشباب، لا تتأخر يا حبيب...

قبل أن يغلق السماعة صفق قاسم بكفيه بقوة جانب الهاتف، فارتد وجه القاضي عن السماعة، وكأنه فعلاً قد تعرض توّاً لصفعة قاسية.

لأيام، حتى ليلة رأس السنة، كان يلمحهم من نافذته، يتجولون بين الناس في شارعه، عواد وميمون وجابر وقاسم.

فكر بشكلٍ جدي أن ينتحر خلال هذه الأيام، وهو ينقل بعض المعلومات من الكُتيب على ورقة بيضاء، عندما انتهى تأمل من فوق سيجارته الورقة التي انهمك بكتابتها لساعات... استنتج أنه في العام الجديد الذي سيحل منتصف الليلة، سوف يرجع إليه ثلاثة مشنوقين غير الأربعة الذين يتجولون في الخارج الآن.

- لم أعد أحتمل... "رددها بأسى".

لساعات شعر أنه يختنق، كان متأكداً أن صاحب هذا الكُتيب قد لف حول عنقه حبلاً غليظاً، عندما أرسله إلى صندوقه البريدي، حبلاً لم يشد إلى آخره، ليختنق ببطء ولا يموت.

ضاق صدره به فنزل ليمشي بين الناس حتى ساحة المدينة، حيث كانوا يحتفلون بوداع العام القديم واستقبال الجديد. لم يعرفه أحد من الناس، فقد تغير شكله كثيراً، بدا قريباً بهيئته من المتسولين.

فجأة، انتبه القاضي المتقاعد في الازدحام لعواد،التقط فوراً سكيناً كانت على طاولة بائع الحلوى، وأسرع يتصادم بالناس حتى عواد ليطعنه، ميمون كان قريباً فطعنه أيضاً، ثمّ لمح جابراً فهرول إليه ليطعنه، أما قاسم فطارده حتى شارعٍ قريب وطعنه بوحشية، والناس يتراكضون حوله ويصرخون بخوف.

حاصره بعضهم وقيدوه، كان يهذي والدماء تنقط منه، جاءت الشرطة وأخذته.

استمرتْ محاكمته لأشهر، تابع أخبارها أهل مدينتنا في التلفاز والجرائد، كانت قصة غريبة، قاضٍ متقاعد يختفي عن الحياة لمدة قصيرة، ثمّ يرجع ليقتل أربعةرجال بطعنهم ليلة رأس السنة في ساحة المدينة.

القاضي الشاب في محكمة المدينة حكم عليه بالإعدام.

لم يأبه القاضي العجوز المتقاعد للحكم، ردد عالياً في الجلسة الأخيرة للمحكمة بعد نطق حكم الإعدام شنقاً بحقه، ردد مبتسماً بثقة للقاضي الشاب:

- سوف تندم عندما أرجع إليكَ، كان عليكَ أن تعثر على حلٍّ آخر لي غير الشنق.

وأخذوه مع ضحكاته المجنونة إلى حبل المشنقة.

الذين نفذوا حكم الإعدام شنقاً به، قالوا للصحفيين مستغربين أنه تعامل مع المشنقة دونما اكتراث، وشنقه كان بالنسبة له مجرد تدخين سيجارة.

 

عزيزي القارئ، انتهتْ قصتنا هذه هنا، وقد حدثتْ فصولها في مدينتنا منذ فترة قصيرة، لكن... انتظر، لا تذهب.

عزيزي القارئ، أرجوك، هل تستطيع أن تقدم لي معروفاً؟...

أتمنى أن تساعدني، أريد منكَ فقط إن كنتَ تعرف العنوان البريدي لأيّ قاضٍ آخر في القصر العدلي أن تخبرني إياه، لأرسل له هذا الكتُيب، الذي انتهيتُ توّاً من صناعة نسخته الثانية.

 

تعديل المشاركة Reactions:
قاضي الإعدام

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة