-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

كوباني: مشته نور - مشهد النور

 


حسين محمد علي 

من لا يحبُّ جباله لا يمكن أن يحبَّ سهول الآخرين!

                                             رسول حمزاتوف

 يُطلُّ هذا الجبل ذو الحجارة البركانية السوداء مهيباً صامتاً على سهل سروج وكوباني وقرية مقتلة وقرى أخرى متناثرة مثل حروف الأبجدية ... هذا الجبل هو زهْونا ! إليه نزهاتنا الربيعيّة ، لقد غدا مَعْلَماً وعنواناً لا يخطئ أهله ، يلوّح من بعيد بمزاره الغامض ذي الحيطان البيضاء وشجرة التوت التي تحرسه .

يزحف إليه الآلاف في يوم نوروز ... إلى حيث الربيع بموكبه الأخضر .. معلناً عن دورة جديدة للحياة والطبيعة في احتفالية الحياة الغامرة بالفرح والصبَوَات .


هناك في سفحه الرحب تضيع التفاصيل ، وتختلط الألوان ، وتورق أمنيات الكرد في بحثهم عن اللذّات بعد أن تقاسمتهم الأمم القريبة والبعيدة ، وكذلك تتجدّد ابتهالات الصبية والصبايا ، ورفيف القلوب العاشقة ، يوم نيروز هو يوم للسياسة والعشق والطبيعة والجمال ! يوم للحرية والانعتاق لهذا الشعب المحبّ للحياة  "إذا استطاع إليه سبيلا"  !

الجبل والناس ومسارح الأحزاب والباعة وثياب الكرديات الزاهية ، كلّها تتحول إلى صندوق فرجة لا أحلى ولا أجمل ! يترجّل الكردي في هذا اليوم من عناء قرون من المطاردة عن جواد من الريح ، فـ "ليس للكردي إلا الريح" كما قال الفلسطيني الجميل محمود درويش في قصيدته إلى الكردي الجميل سليم بركات .

هنا يحطُّ علَمنا ، علَم قوس قزح على الأرض بعد أن كان في السماء .

 جبل مشته النور يقف مثل حارس الأبدية تحيط به هالة من القداسة في وعي الناس ، يُخيّل لي من خلال الكتل البازلتية على سطحه ومنحدراته أنه كان جبلاً بركانياً منذ غابر الأزمنة ، وهناك معالم واضحة أنه شهد سكن الإنسان القديم في جنباته، فهناك صهاريج محفورة لجمع المياه .أحدها كان معروفاً باسم ) خيرات ( إضافة لمغاور وكهوف ، كنا نأوي إليها في مغامراتنا الطفولية إلا أنّ المَعْلَم البارز ذا الهالة القدسية  كان المزار ) خيرات(  ، حتّى الكبار لم يعرفوا سرّ هذا المزار ، وضُربت حوله الأساطير والآراء .

 أعتقد أن كلمة  "مشته"  أتت من كلمة ) مشهد(  ؛ وهي من الأدبيّات الشيعيّة وكان يقال : إن رأس الحسين بن علي قد مرَّ من هناك في مسيرة الفاجعة الكربلائية إلى يزيد بن معاوية في الشام !

الضريح كان محاطاً بأربعة جدران من الحجر الكلسي دون سقف، قبر كبير هو عبارة عن كتل من الحجارة البيض .. كنّا ندخل إليه من الباب الشمالي خاشعين نقرأ الفاتحة ونقبّل الحجارة، والكبار كانوا يتبرّكون بالضريح ، ونحن - الصغار-  كنا نراقب ذلك في شيء من الرهبة كانوا يحاولون لصق الحصى على الحيطان الكلسيّة بكثير من اليقين والإيمان ، فحين يلصق الحجر كان ذلك نبوءة بفأل الخير ، فيشرق وجهه بالفرح .

 بجانب المزار من جهة الشرق والشمال تنتصب شجرة توت ، تقف هناك وحيدة عزلاء .. تمدّ جذورها في قسوة التربة البركانية ، وتشرع أغصانها في مواجهة رياح الشمال ومطارق شمس الصيف الحارة ، أغصانها كانت مزينة بقصاصات ملوّنة من القماش تبركاً ورغبةً في تحقيق أمنية شخصية استعصت على التحقيق والحلّ - وظاهرة قصاصات القماش شائعة في هذا الشرق - كانت قطع القماش تلعب بها الريح ، وتصطفق أوراق الشجر القليلة الخجولة في تلك البقعة العزلاء الصامتة .. ترى هل نبتت لتلك الأمنيات أجنحة وحملت معها فرح الأيام أم أنها ظلت مهيضة... حافية خائبة ؟!

شجرة التوت بجانب المزارفي مشته النور

ومن أسفٍ أنّ تلك الشجرة قد اُجتثّت منذ بضع سنوات ، وقد اعترف لي الحاجّ فاروق محمود المفتي أنه هو مَن قام بذلك ؛ لئلّا تتحول الشجرة إلى صنم يُعبد ويُتبرّك بها ! وقد استحضر لي واقعة شجرة الحديبية ) شجرة بيعة الرضوان ( والتي اجتثّها عمر بن الخطاب توجّساً من تحوّلها إلى رمز مقدّس .

  أمّا المزار فلاقى نفس المصير فقد تهدّم ، وهكذا انتفت معالم مشته النور؛ هذا الجبل الرمز بكامله مهدّد بالاندثار يكاد يختفي شيئاً فشيئاً بسبب ما تعرّض له من نهب الجوار ، وتبدو البيوت الصاعدة إليه كمحاولات لاهثة لسرقة هذا الجبل من خلال مخططات بلدية مشبوهة ومريبة ، خطّط لها - ومع الأسف-  بعض أبناء البلدة من رؤساء البلدية ومهندسين ومتعهدين لا همّ لهم  إلا ملء الجيوب بالمال على حساب مستقبل البلد وأبنائه القادمين . وأنا أزفُّ للقادمين بشرى رائعة ؛ فالحدائق والمساجد ورياض الأطفال كلها رحلت إلى سطح جبل مشته النور بفضل التلاعب بالمخطط التنظيمي للبلدة مع اللجان الإقليمية ، فانتظروا أيها الآتون مملكة الإسمنت والشوارع الخالية من الأرصفة والجزر الخضراء ! 


أذكر أنّ الألمان أثناء إنشاء السكّة الحديديّة استفادوا من حجارة الجبل البركانية الصلدة لرصف سرير السكّة بها ، ومن أجل ذلك كان مقلعاً لكسر الحجارة وسكّة حديد صغيرة تمرُّ عليها حاويات تنقل الحجارة إلى موقع السكة ، وآثارها كانت لا تزال بادية واضحة إلى سنوات متأخّرة ، وبخاصّة في قرية كاني عربان.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخيال الشعبي قد نسج قصصاً حول ملكية هذا المزار فقد كان يقال: إنّ الأرمني الثري ( حج كره بيت ) هو من سوَّر الضريح ، وقد انهارت الحيطان عدة مرات بأيدٍ خفيّة ليلاً  ليقال : إنّ الولي الدفين يرفض أية رعاية من الأرمن المسيحيين  !!

مشهد آخر لشجرة التوت المطلة على كوباني على سفح مشته النور


أيتها الشجرة التي لفحتها الشمس

ولطمتها الريح

أيتها الشاهدة الوحيدة

في طقوس المزار وشغف الابتهالات

ما نسيتُ منك إلا وجهي وفرحي

حين كنت واقفةً ذات عمر

ما فات فات .. لكنك متِّ واقفةً

ولطالما انتظرت الآتين في هبوب الكلمات

أنت للريح ..   و للمساءات الحزينة

وأنا للذكريات

ما كنت فارعة .. عالية

لكنك كنت مرئية من جميع الجهات !

تعديل المشاركة Reactions:
كوباني: مشته نور - مشهد النور

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة