-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

أحلامهنّ

 

خديجة بلوش 

في الممر البارد تسمع وقع خطواتها الحثيثة, أعرفها من  صوتها, تمشي على مهل  تعاند تعبها, بقدها النحيل و اسمرارها الجميل, رغم الشحوب البغيض الذي يعكره, لكن ابتسامتها الجميلة  التي لا تفارق وجهها تغطي على بقية العيوب.

أتخيلها قبل أن تدلف للداخل و هي تسير في الممر الطويل, أتخيلها تمرر أصابعها الصغيرة على طول الجدار البارد المتقشر و هي تدندن ربما بلكنتها التي تشبه لكنة من تعلم لهجة ما حديثا و ما زال لا تتقن كل كلماتها و لا تجيد نطق حروفها..لكنها لكنة محببة تجعلك لا تمل من سماع حديثها مهما أسهبت و أطالت,

-صباح الخير, صباحكن مبارك

صرت أحفظ  جملتها الصباحية...

كل من في القاعة يرددن بصوت واحد

-        و صباحك مبروك يا رقية , تأخرت ثانية و ليس هناك من سرير فارغ لكِ

تطلق ضحكة رنانة و تقول بمرح

– بل أتيت باكرا, كنت أخشى أن تتركني الحافلة إن تأخرت دقيقة أخرى,

تجر حقيبتها الممتلئة بالأغراض وتضعها بجوار صديقتها التي تفضي لها بكل أحلامها الصغيرة البريئة, و تجلس على حافة السرير, تمد لها  يدها الباردة و تسلّم بمحبة ..

-        هل أنت بخير؟ ألم تؤلمك الإبر اليوم؟

من بعيد أراقبها و تملأ قلبي حسرة, تناديها أحدى العجائز

– متى موعد عرسك يا رقية؟

-        من سيرغب بمريضة مثلي؟

تقول بانكسار و ابتسامتها الساذجة تملأ وجهها الطفولي الشاحب.

تسألها صديقتها المقربة,

- ألم تقولي  أن هناك من طلبك للزواج؟

لوحت بيدها في الهواء كأنها ترسم كل كلمة قبل أن تقذفها في الفراغ

-        تركني حالما أخبرته بمرضي,

-        قال : من سيهتم بشؤون البيت ومن  يرعى الغنم؟؟

ربتت صديقتها على يدها و قالت : يحبك الله كثيرا,

تلك اللوحة الصباحية تعودت أن أساير فصولها المتحركة و الصاخبة, بكل تفاصيلها المحببة وأيضا بتلك الندوب التي تكون بين السطور, سألت نفسي مرارا

-        أليس من حق المريض أن يحلم..؟؟

المرأة لا ينتقص من أحاسيسها المرض, ولا تسقط أنوثتها إن هي أصيبت بعلة, أكاد أصرخ في كل من يظن أن الأصحاء وحدهم يستطيعون الصمود و الحياة’

-ما أغباكم !!

في عالمنا الصغير الذي سقفه من إسمنت  و أرضيته مستنقعاتراكدة، ثمة أجساد تنتفض ضد كل القيود لتنعم بحياة مستقرة هادئة مستكينة, رغم ما تعج به من صخب الوجع.

في هذا العالم أمهات يسابقن الصباح للفوز بالمقاعد الأولى كي ينهين حصص التأمل في أمان و العودة لمطابخهن لإعداد وجبة متخمة بالمحبة  لصغارهن,هنا أيضا جدات جميلات لا يتركن مكانا للندوب لتسيطر على تفاصيل زنودهن المترهلة من صفع السنين, يخضبن أناملهن بالحناء و يعطرن ملاحفهن ببخور يطرد رائحة المعقمات البغيضة, و ثمة أرواح صغيرة أرواح جميلة و أرواح ربما لم تجد بعد خارطة لهذا المكان و ظلت تائهة في دروب أخرى،  و إن كانت الأجساد تجد دائما من يعيد تعديل بوصلتها لتجد الرقعة المناسبة لتستقر لساعات قبل رحلة أخرى تقودها لمكان آخر و شرود لا ينتهي..

الأرواح الجميلة اخترت منها واحدة, صرت انتظر زيارتها في ما تبقى من الساعة الأخيرة من كل حصة على كرسيها المتحرك تتسلل إلى ملل  يكاد يطبق على  أنفاسي, و هذا حال البقية مثلي في كل مرة نقترب فيها من خط النهاية تسحب كمامتها عن وجهها المبتسم و تهمس بصوتها الجميل

– أتيت ..

نتطرق فورا لكل المواضيع المعلقة من محادثة سابقة سواء على الافتراض أو في واقع تقيده الخطوات  المتعثرة  في ساعة الذروة, تدهشني رزانتها و تعقلها في أكثر المواقف حدة تبتسم و تتحدث بهدوء أغبطها عليه,

 و أقول:  هذه روح تنشر السكينة, و ترفع بيدها النحيلة شارة النصر على المرض.

لكن المكان هناك لا يسع  أرواحا أخرى وجدت نفسها في محيط لم تكد تستوعبه, أرواح تظل مبهمة لكنها حتما ستجد خيطا يقودها لبداية حلم يبدد وحشة الألم .


تعديل المشاركة Reactions:
أحلامهنّ

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة