-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

معزوفة حزن



خليل عثمان

  

في صباحٍ صيفي مفجوعٍ بآلام البشر، والشمس تعقد أشعتها كخيوط الحرير، بدأت رغبة ملحة تنال من معصوم وهو يخرج متأبطاً حقيبة بنية أحيل لونها مما توالى عليها من سنين إلى لون آخر.

 

أقبلت الحافلة، اندس فيها وانطلقت تخرج من جوف المدينة وتتجه شمالاً، وبدأت تنوء بما احتشدت فيها من خلائق واكتظت من بشر، وهي تسير لاهثةً مبهورة الأنفاس.

 

أراد أن يودع ذلك المكان ويحيد الخيال كي ينسى بأن حزناً تمدد في مدينته، والتي هجرها جل سكانها وارتدت وشاحها الأسود الكئيب، وهو يريد أن يثبت أنه يستطيع أن يجعل للصباح وجهاً ابيض، ولكن اليأس لا يريد التخلي عنه ويفترش طريقه أينما حل، فهو دائم الإحساس بأن شيئاً في أعماقه يتلوى ويعذبه بقسوة، وتمسه بارقةٌ من الضجر، وكأن الدنيا طافت به فصار كالصدى.

 

إنه يعيش في اضطراب وقلق منذ ذلك اليوم المشؤوم والذي كان الأكثر سواداً في حياته.

أما الآن فهو يريد أن يزحزح العتمات، لكي يلبي هذا النداء الغامض والهمس القوي، ويحاول أن يحرر ذاته من كل ما يقلقها من ضعف واستسلام.

 

نزوحه الأول كان إلى كوباني حيث بنو جلدته، والمدينة التي ينتمي إليها بوجدانه وجذوره، ودون أن يميز في يومٍ ما شوارعها وأهلها.

هناك بحث عن منزل يأويه، حينها ساقه القدر إلى سمسار يجري الاستغلال في عروقه، في حديثه خبثٌ، وفي سلوكه جشعٌ، وهو لا يرضى بالقليل ويطالبه بحمل يفوق قدرته وينافي إنسانيته.

 

وهكذا عاد إلى قريته، وما زال يسير وحيداً يحمل فوق كتفيه ثلاثون عاماً لا يدري كيف مرت عليه.

 

في مسقط رأسه يقضي أيامه بملل، وفي غرفته العارية يسترجع الأماكن التي عاش فيها من خلال ذاكرته حيناً وألبوم صوره أحياناً أخرى، وهو يطل بعينيه مراقباً هذه الحياة، بينما الأسماء تتشابك والصور تتداخل، وهو لا يبحث عن الفوز في الحياة، بل يريد أن يتعلم من الهزيمة والتي بدأت تقعده كحصان مهزوم.

 

ثم يعود إلى سيجارته كي يحرقها وكتابه الوحيد الذي احضره معه كي يتوه بين سطورها.

 

هنا ساد الصمت المكان، ودون إنذار وعلى الباب لاحت المرأة توأمه في الحياة وأم طفله الوحيد، كانت تحمل صينية الأكواب وإبريق الشاي، غدا أنفاسه لاهثةً وفي صدره تثاؤب لا يأتي وتنهيدة لا يستطيع إخراجها، أما هي فكان صوتها كحريق يتوغل في كومة من الحطب، واخذ ينظر إليها بدهشة...!

 

-         ولكن ينبغي أن تحادثني. قالها في نفسه.

 

ولكنها لم تفعل، وإنما ارتخت زاويتا فمها وقالت بصوت ينذر بالبكاء كلمات مبهمة، بينما هي تطل على عالمه من خلال عينين غرقتا في ظلال، وجفنين ناعسين تتوسطان قمراً طرياً، وهو يرى شعرها المكور كتاج ملكي يشتهي إزاحة الخصلة المنطرحة على جبينها ليخلو أمامه الميدان .

 

كان في عينيها حنان يتجرع كل شيء حتى آلامه نفسها، وما هي إلا لحظات هرول في جسدها اضطراب، وجمحت مشاعرها مذهولةً وهي تمضي ...

 

بدأت تنطوي سريعاً صفحات من الماضي في حياة معصوم، وكالمجنون كان يشع في عينيه بريق غريب ثم تتحرك شفتاه، وينطلق في حديث طويل ساحر من غير أن يأخذ جسمه رعشة الاضطراب، ودون أن يدرك بأنه يحادث روحه.

 

كانت هذه الخواطر تتلاقى خلسة في رأسه كأنما تخشى أن يراها أحد، أحدٌ داخل نفسه.

 

عاد إلى وعيه مرة أخرى، والحافلة تمضي به عبر الدروب الملتوية وسط الهضاب والسهول، وقد ذاب في أعماقه شعور مرير بالأسف، كان يعيش داخل قوقعة مظلمة داخل ذاته، وحينما غادرت الحافلة مدينته حطمت تلك القوقعة، وبدأ يحس بالآخرين و بحياته تعانق حياتهم وهو يتفاعل معهم.

 

فبعد ذلك الصمت الذي ساد المكان يبدأ بالمناقشة تارةً وأخرى بالتجاهل، إلى أن لمح في المقعد الأخير للحافلة شبح ابتسامة على شفتي امرأة ثلاثينية، دفع يده بعنف ماراً على شعر رأسه، ولكن لا فائدة إنه لا يتذكر...

 

هزت المرأة رأسها في بطء، بينما كان معصوم يمعن النظر في ملامحها التي ظهرت كالفراغ تماماً.

-         أيمكن أن تكون فريدة؟!

فريدة الفتاة الشقية التي كانت تجاروه السكن في حي الرميلة في يومٍ ما.

 

 هنا بدأت تنجلي قرية صغيرة معظم بيوتها من الطين، وأمامها سهل فسيح، توقفت  الحافلة، هبطت تلك المرأة مع رجل في مستهل الشيخوخة قصير القامة ناحل الجسد، أحس معصوم باختناق في حلقه، وهو يراها تخطر أمامه مجتازة الممر إلى الشمس، والتفتت ورائها كي تتأكد لمن تراها تبتسم، ربما كانت تحلم؟

 

-         ولكن البسمة استمرت ولا أحد يراها سواي. قالها معصوم في نفسه.

-         ولكن هذا الجسم الملفوف بعناية تامة، وهذا الوجه البريء ليس غريبا عني.

ثم أدار وجهه ومضى في شروده...

 

اجتازت الحافلة طريقاً ترابياً شائكاً، بينما الشمس الحادة متقدة تفضح سير الحافلة، والحر لافح، والطريق ممتد طويل.

 

بدأ الأسى يزحم قلبه من جديد ، بينما روحه تهتز، ويختلط الطريق أمامه ويصبح الناس في الحافلة أشباحاً تغيب وتتساقط في الغبار المتصاعد من عجلات الحافلة، ثم  تتوسع وتتناثر حتى تتلاشى نهائياً.

 

في لحظة معينة شعر بأن التربة والأحجار، أصفى بكثير من هذه البيوت المتناثرة بجانبي الطريق و المحشوة بما فيها!

 

وأخيراً يصل قريته، يهبط من الحافلة، يشم من البيوت رائحة البصل المقلي، بينما سكينة حالمة تعانق القرية في تلك الساعة، والمناخ هادئ، ولكن مافي النفس كان أبعد من كل ذلك.

 

رضخ الصمت لخطواته المتعبة وقد أشعل  أحدهم وهو مقبل إليه لفافة تبغ زفر دخانها بحرقة في الفضاء الأصم وأخذ يناديه:

 

-         معصوم متى عدت من الرقة تعالى نحتسي القهوة.

 

لم يلبي النداء فقد نال منه التعب، ولكنه دخل بيته والمؤلف من غرفة إسمنتية يتيمة، تملكته رغبة جامحة بالنوم، مضت عدة ساعات، استيقظ، خرج من غرفته وأخذ يسير على مهل وتحت قمر فضي يضيء الأرجاء.

 

كان الليل في أوله جافاً غائر النجوم، والقمر يتوسط السماء وكأنه واقف متعب من رحلته الأزلية.

 

 لحظتها تعالت من أعماق الصمت وتناهى إلى سمعه نباح كلب شارد ثم تلاشي في الفراغ...!

 

إنه ومنذ مجيئه إلى قريته وهو وحيد بائس، فقد التنفس بلذة، ويشعر بأن الألوان غابت من تلك البيوت ولم تتغير، وساكنوها شحبت وجوههم وافتقدت معالمها.

 

هيبة الصمت ونسمة الأرض كانتا وراء استعادته لوجه ابنه وحنان زوجته مرة أخرى، وهو لا يستطيع أن يرى أو يتصور لهول الرؤية وتلك الصورة القاتمة، وهو لا يزال يشعر بألمٍ في ضميره، وحسرةً على كل شيء، فحتى جنازة مهيبة تليق بهم لم يتمكن من إقامتها لهم، زفر زفرة عميقة، كيف لا وهو الذي فقد كل شيء بقصف غدار نال من أغلى ما يملك، يومها كان خارج المنزل وحينما عاد وجد مشهداً كان كافياً ليفقده قلبه وروحه، لقد فقد ابنه وزوجته وباتوا تحت الركام، كان ذلك منذ عام ونيف في حي الرميلة الرقاوي الذي كان يقطنه ومنذ طفولته.

 

حينها أراد لقلبه أن يصمت وإلى الأبد، فوضع فوهة المسدس في حلقه ولكنه لم يفعلها، و أدرك في شبه غيبوبة مرتعشة، بأنه لا يزال يعيش على وهم يائس، بينما شيئاً ما يعتصر نفسه بوحشية ويطوح بكل تلك المثل التي يحيا لأجلها دون رجعة.

 

توقف قليلاً، وكأن يد رعناء كانت تتسلل إلى صدره، وتعتصر قلبه الذي يدق بعنف وشدة وهو يحاول الخروج من الضلوع، بينما مسامعه تتلقى همسات وتمتمات وأصوات خافتة وكأنها قادمة من الغيب.

 

 

تعديل المشاركة Reactions:
معزوفة حزن

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة