-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

أرواح تحت الصفر: جرح متأنّق بلوعة الفراق ولذّة اللقاء

 


سربند حبيب

 

صدرت عن دار ببلومانيا المصري للنشر والتوزيع/ القاهرة رواية «أرواح تحت الصفر» للكاتبة الكردية أفين أوسو، وهي باكورة أعمالها في الرواية، الكتاب من قطع الوسط يقع في (199) صفحة.

 

تنسج الكاتبة من جرح وطنها رواية وتحوك على منوالها أقسى العذابات التي ذاقها الشعب طلباً لحريته، فالكاتبة هنا شاهدة حقيقية على معاناة ومأساة شعبها وهي جزء لا يتجزأ من حربها. هي رواية تندرج ضمن المنهج الواقعي، مختزلة عبر أحداثها التراجيدية معاناة عائلتين التي اتخذتها كنموذج حيّ عن دموية الحرب في سوريا.

 

تدور الأحداث في مداره العام حول مأساة سوريا، حيث الشابتان الجامعيتان «جيان وأفيستا» شخصيتان رئيسيتان تعيشان قصة حب عذرية في زمن الحرب. فجيان تعشق زنار الشاب الذي تعرفتْ عليه في مقهى الجامعة الذي كان يعمل فيه، تحبه بالرغم من عدم تكافئ علاقتهما للتفاوت في مستواهما الدراسي والثقافي، لكن الحرب تفرقهما فزنار كغيره من الشباب يلتحق بالخدمة الإجبارية ويصبح في صفوف الموتى، وجيان تهرب مع عائلتها داخلياً بعد هجوم الجماعات المسلحة على منطقتهم، وعندما تضق بهم سماء الوطن يهربون نحو المجهول عبر تركيا إلى أوروبا بحثاً عن الأمان في رحلة الموت.

فيما أفيستا ابنة ذاك الرجل الشبيح والمتنفذ الذي يتاجر بدماء الأبرياء تنعم بحياة مرفهة تعشق زميلها الجامعي شفان، الطموح الذي يكون آرائه وأفكاره مناقدة لوالدها ومناهضة ضد النظام الحاكم، وهنا تدفع أفيستا  ضريبة أفعال والدها السيء واللاخلاقية  حياتها، حيث تصاب بفقدان للذاكرة نتيجة قصف الجامعة أثناء تقديمها للامتحانات، فتعيش بذاكرة بيضاء إلى أن تسترجعها بفضل حبيبها شفان.


 

لغة الرواية جميلة ومنمّقة ترتقي في بعض الأماكن شاعرية الكاتبة المنبعثة من إحساسها الداخلي بعد أن أصبحت رقماً في سجلات اللاجئين تاركة خلفها جميع أشيائها الجميلة، فقط حقائب الذاكرة تكدس برماد لحظات جميلة فتقول: «ازدحمت الغرف بالحقائب واجتاحت الفوضى كل أركان الفناء، قطع مرمية على الأرض تقيأت بها الحقائب لتخمتها بأكداس من الكتب وألبوم صور يحمل بين دفّتيه جمال وطن قبل أن تمطره غيمة من الدماء، فتحت جيان الأدراج وقلبها ينزف، راحت تلتقط بنهم كل ما وقعت عينها عليه لتحشوه في الحقائب والأكياس وتصفّهم في طابور طويل كطابور أحلامهم وهم في عمر الزهور».

 

زمكانية الرواية:

الزمن في الرواية واقعي بعيد عن الخيال، ويحدث بوتيرة متسللة وواعية لذاكرة الكاتبة القريبة لسرد أحداث حدثت بالفعل، فعندما يقرأ أي سوري الكتاب سيعيش تلك اللحظات لاشعورياً؛ لأنها أصبحت جزءاً من حياته، مشاهد الحرب والدمار والقتل والهروب واللجوء...

فالمكان يبدأ في سوريا التي أصبحت ساحة حرب مفتوحة ومستنقعاً لصرف الإرهاب غير الصحي، وتتابع الأحداث بوتيرة سريعة في تركيا حيث الظلم والاستغلال وانعدام إنسانية الإنسان ومن ثم رحلة الموت والبحث عن الحياة على متن قوارب مطاطية، لم تكن وليمة لأسماك البحر يكتب لك عمراً جديداً، فتلجأ إلى أوروبا حيث الأمان، لتعيش هناك جسداً بلا روح على أنقاض ذاكرتك.

كون الرواية واقعية فهي تبتعد كثيراً عن الدهشة والمفارقة وتعتمد في تتبعها للحدث بشكل مباشر، فعندما تندهش وتلامس بعض مشاهد قاسية.. أليمة وحزينة.. فجميعها حقيقية وليست من وحي خيال الكاتبة، فهي وقائع جرت بالفعل لأي سوري سواء أكان في الداخل أو في الخارج.

حصدت الحرب الأرواح ببذخ حد التخمة، ومنحت تأشيرة الدخول إلى الموت من أوسع أبوابه بالمجان وللجميع، اقتلعت البراعم قبل أن تتفتح، ووهبت الأمّهات لقب   الثكالى بسخاء ودموع لا تنضب، قبل أسابيع كانت طبول الموت تقرع هنا في ذات المكان، وما زال صدى عويل الأطفال والنسوة يخرج من شقوق الجدران.

 

الشخوص في الرواية هي لحم ودم، عاشوا ذات الحرب وذاقوا أقسى العذابات، من الهروب والموت.. الحنين للوطن.. المجازر.. الفقد, الخيانات والتطرف الفكري والهجوم الوحشي الذي كبّدنا خسارة أرحامنا, هذه العوامل جميعها تغزو أرواحنا وتجعلنا نعيش أحداثاً تراجيدية خارج المكان داخل رواية مكتوبة بالدم السوري.

إنها الحرب، أبشع ما أنتجته البشرية لا ترضى أن يفلت أحد من ضحاياها دون إرث، أطفال يعيشون على هامش الحياة، دهس الآخر، ابتسامة طفولة تحت نعل الفقر، صغار يرزحون تحت طاحون الحرب الذي لا ينقطع دورانه، يفترشون الأرض على قطع كرتون، أجسادهم الغضة تلفحها أشعة الشمس الحارة، ينادون بنبرة تعكس أرواحهم المكسورة «طعميني جوعان...».

 


تخلو الرواية من التنوع في أساليب السرد وأشكالها، حيث تعتمد الكاتبة  على ذاكرتها القريبة في سرد الأحداث بتسلل منطقي، فهذه الأحداث جزء من وعيها السيكولوجي والاجتماعي والثقافي، والتي تمثل الواقع جمالياً بالرغم من قبحه، وكذلك تنعدم التنقلات في الرواية، فقد اعتمدت الكاتبة على جيان وأفيستا، الشخصيتين المحوريتين، لتروي لنا الحدث السوري من منظورها بوصفهما نموذجان لضحايا هذه الحرب.

 

تنتهي الرواية بنهاية سعيدة مفتوحة، بوصول جيان مع عائلتها بأعجوبة إلى ضفة الأمان، بعد صراعهم مع الموت في خضم البحر، أما أفيستا فبعد إنقاذها من قبل شفان تقرر البقاء معه وأن تحافظ على حبها نقياً بعد موت أحلام شفان الثورية، لكن الحب يبقى منتصراً بالرغم من الموت والدم: «ليسقط العالم تحت نعال الحب، ولتحترق السياسة والساسة والأحزاب بعقد قراننا، احتويني فأنا أهرب من الحرب، لأدلف تحت جناحيك، عارياً من الحماقات وخاوياً من الهتافات».

 

رواية حزينة تستحق القراءة، ولكنها تحتاج لقلب قوي ليتحمل القارئ مشقة ذاك الكم الهائل من الحزن الدفين بين طياتها، إنها رواية الفاجعة؛ جسدت ملحمة الحرب والثورة التي أحدثت قدراً هائلاً من الدمار والخراب وهجرت أعداداً مهولة من الشعب السوري، نعم إنها الحرب تستيقظ فينا أجمل وأقبح الصور التراجيدية عندما يغدو الوطن حكاية ترويها أفين أوسو بلسان الوجع والألم، محاولة بذلك ترميم الخراب وحفظ ذاكرتها عبر تدوين وتوثيق مشاهد حقيقية بكل فواجعه ومآسيه ومدى تأثيرها على نفوسنا واستقراء ما يدور بداخلنا.


 

تعديل المشاركة Reactions:
أرواح تحت الصفر: جرح متأنّق بلوعة الفراق ولذّة اللقاء

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة