الالتواءات والمنعرجات في المدن القديمة تشبه
ألف ليلة وليلة بغموضها
المدن الشرقية تشبه امرأة لعوب لا تسلّم نفسها حتى تدجن الآخر وتقتله في التيه
الترجمة مصير من وجع اللاجئين إلى ترجمة فيلسوف
العصر نيتشه
حاورته: فاتن حمودي
«كان أحد الدراويش من أصدقاء جدي يقول،
الطريق بلوى، وكنت أتمنى في السرّ لو أنني أصاب بهذه البلوى، كنت أنتظر أن أكبر كي
أحقق هذا التيه، أخيراً كبرت وتلاقفتني الطرق وأصبحت لا أعود إلا لكي تستبد بي
رغبة الرحيل من جديد...».
ابدأ بكلام الرحالة والروائي والمترجم علي
مصباح، والذي التقيته في إحدى زياراته لأبوظبي، وكان لجريدة سبا الثقافية معه
حواراً مفتوحاً على الحياة والتجربة، وكأنني أقف أمام شريط سينمائي، أو أمام إنسان
خبر المدن، وعرف أن الطريق بلوى.
إنسان مهجوس بالسؤال حول المكان والزمان، فهل
يمكن حقاً التخلص من ذاكرة التاريخ المتغلغل في أحجار المدن، وإلى أي درجة يحمل المكان ظل الأزل، ويخنزن أرواح مَن مروا،
وبالتالي كيف يرى من مضى إلى ترجمة أهم أعمال نيتشه، الزمان والمكان والرحلة، ولماذا
تشكل المدن القديمة له حالة شغف؟
ولأنه يعرف أن البلاد محكومة بالاستبداد، كتب
حارة السفهاء، وخلص إلى: «أن نموت ضحكاً فذلك خير لنا من أن نموت كمداً»، وكأنه
يشير إلى عالم تراجيدي مؤلم، فيمضي إلى التسكع
لينسى ولكن هيهات أن ننسى.
وهو المعروف عربياً كمترجم لنيتشه، «هكذا
تكلم زرادشت»، و«نقيض المسيح»، و«إنساني مفرط في إنسانيته»، و«هذا هو الإنسان»
وغيرها.
حول الرحلة والتجربة والطريق، نفتح باب
الحوار.
البيت
والطريق:
·
لأنك متسكع خاص، أود بداية أن أسألك عن
الطريق، من خلال علاقته مع المتحرك بعيداً عن الاستقرار والثبات.
الطريق حرية، أما البيت فيقولون عنه في تونس
قبر الأحياء، وكأن الناس عندهم رغبة أن يستبقوا موتهم في الاستقرار، ولأنني أضجر
من الرتابة والعادة، فإن هذا كان سبباً في تنقلي بين دراسات واختصاصات مختلفة،
صحافة، علم اجتماع، حقوق، ثم تركت الحقوق وسجلت في معهد للديموغرافيا، ثم تركت
ورجعت لعلم الاجتماع من جديد.
درست في باريس، وبطرسبورغ، ثم عدت لتونس،
فاعتبر الناس رجوعي جنوناً، وحين فكرت أن
أترك تونس وأذهب إلى ألمانيا، كان الاستغراب والتساؤل، لماذا لم يعد إلى فرنسا
التي يعرف لغتها، ويذهب إلى ألمانيا؟
لم يعرفوا حينها شغفي في السفر، ورغبتي في
تعلم اللغة الألمانية، كانت تلك المرحلة مهمة جداً لي، لأجلس مع ذاتي، تعلم اللغة
فتح أمامي اكتشاف مجتمع كان عندي أفكار مسبقة عنه، ووجدت شيئاً آخر، ثم أن الطريق
هو وسيلة لكي لا نتوهم أننا أنجزنا شيئاً واكتمل لدينا، هو بحث متواصل لهذا يؤكد
المتصوفة على الطريق، المريد يبدأ بالطريق، قبل أن يصل إلى الموقف، الاتحاد
والفناء في الذات الإلهية، الطريق مسيرة معرفية، اجتهاد مساءلة وبحث دائم، هو ضد
الاطمئنان والجلوس على الثبات والجاهز ويبدو عدو الفكر الأول الثبات والوقوف على النمط
الجاهز.
كان بيتنا يطل على طريق أقرب لمشهد سينمائي،
كنت مجذوباً بالرحل والدراويش، والعرّافات والمتسولين، وقارئات الكف، فهم الناس
الذين يسحرونني.
كارمن والأوبرا التي يحملها كاديس، يسحرني
عالم الغجر، موسيقاهم أغانيهم رقصهم، «تايم في جيبسي»، تلك الموسيقى التي تعيدني
إلى حي الغجر، وحي البيازين، لهذا أحب الرحلة وعالم التسكع الذي كان أبي يلومني
ويزجرني عليه، ورغم هذا كنت أزداد شغفاً في المشي، المشي في المدن كثيراً، لا أمل أبداً
كأي متسكع وشريد، وهذا ربما تعلمته من نيتشه الذي يقول «أنا لا أثق في فكرة الطير الجالس، البارك».
البيت
الأول:
·
البيت الممتد، بيت عشت فيه، حدثنا عن ذاك
الطفل الذي رأى، وغيّر بعدها بوصلته لتكون الغربة بالنسبة إليه وطن.
في بيتي الأول، أتوقف عند طبيعة العائلة،
التي تحمل صفة فلاحية تقليدية، وقد سمح لي في ذاك البيت أن أتعرف على ثلاثة أجيال، جيل جدي وجدتي،
جدي الذي يمسك بالأمور «البطريرك»، وأبي الذي كان يعلن حالة عصيان دائمة، وأنا
بينهما.
وهنا أتذكر كيف أدخلني جدي إلى الكتّاب، وعلى
طرفٍ آخر كيف أخذني أبي إلى المدرسة الجديدة، وهو أول صراع عشته في تلك العائلة،
حينها كان استقلال تونس الذي ترافق معه بداية التحديث الذي أراده «بورقيبة»، أتذكر
حماس والدي لكل شيء جديد، وحواره المتمرد مع أهله، «أنتم تريدون أن تصوموا رمضان
وتناموا، لتدخلوا الجنة، أنا أريد أن افتح باب العلم لولدي»، في عام 1965 منع
بورقيبة تعدد الزوجات.
البيت أمي، الإنسانة المضطهدة في العائلة،
جدي البطريرك، وأبي الطبقة البرجوازية، وأمي
الطبقة الشغيلة التي كان يمارس عليها سلطته، وأنا الابن الأول، أخذني جدي
من أمي، لهذا كانت تقول لي دائماً (هربان عني)، وكنت حين أتضايق من أمي وأبي أذهب
إلى جدي، تعلمت من جدي اشياء كثيرة، تزوج بعد أن ماتت جدتي وكان لي عمة أصغر مني،
هذا البيت كان في مزرعة بين تونس والقيروان في زغوان، أتذكر أننا غادرنا هذا البيت
عام 1961، حين بدأ المعمرون من الفلاحين الفرنسيين والإيطاليين يرحلون، فاشترى
والدي بيتاً قرميدياً، بيت إيطالي مرتب، ورغم فرحي بهذا البيت لكن كان عندي قطيعة
حادة مع البيت الأول الذي فتحت عيوني فيه، وكان بين البيت والبيت ربوة وهذه كانت
رحلة بالنسبة إليّ.
بعد ضياع البيت الأول، كأن الإنسان لم يبقَ
ما يخسره، شهقة النفس أثناء الولادة.
جدي
وجدتي:
·
الحياة رواية، ودائما تقف عند كلام جدك الذي
زرع فيك روح الرحلة، ماذا بقي من تلك الصور؟
كان جدي يسأل جدتي، أين تقع
آخر الدنيا؟ فترد عليه: هناك عند جبل زاغون.
زغوان مدينة منابع المياه المعدنية والعيون
الساخنة، كانت تراها الكون، وحين يسألها جدي من أين أنت؟ تقول: من وادي الرمل،
فيقول لها: أين يقع؟ ترد: وراء الجبال، فيشاغب عليها ويقول: إذا أنت من بلاد الجن
والعفاريت، يضرب على رجله بحركة مسرحية، ويقول: يا وليدي
الجهل مصيبة.
جدي الذي طاف العالم أثناء الحروب، أورثني الجهات وما
بعدها، فهل ثمة حرية أكثر مما أعلنه الغجر في أغانيهم.
الشباب
الأول:
·
ماذا عن رحلة الدراسة والانفصال والتكوين،
خصوصية تلك المرحلة على تكوينك الثقافي، وبالتالي زرع بذرة التمرد فيك؟
أعود إلى مرحلة المراهقة، ودخولي إلى المدرسة
الثانوية، حيث كان علي الارتحال مسافة 120 كم، إذ لم يكن في منطقتنا مدارس ثانوية،
ففرض علي الانتقال والمبيت في مدرسة داخلية، شكّل لي هذا الرحيل صدمة، لأول مرة اكتشف
غصة أمي، وحزنها، إلى جانب أنني وجدت نفسي في عالم غريب، ومزدحم، كنت في حالة صراع،
أنا الصغير ذو القامة الضئيلة، كان علي أن أثبت ذاتي بين هذه الجموع، بالاجتهاد،
والخبث، حتى لا أكون ضحية.
هذه المعركة تعني لي دخول معترك الحياة ضد
سلطة المدرسة، المدرسة الداخلية التي تطبق نظام عسكري على الطلبة، كلّ شيء كان
محدداً، قص الشعر بالماكينة، وهذا خلق عندي حالة من التمرد، لأطيل شعري بعدها
وأكون كالهيبز، فكنا نسمع التعليقات والسخرية.
هذه المدرسة فرضت علينا العزلة، وهذا بدوره
أخذني إلى رياضة الكرة واكتشاف الشعراء الصعاليك، وكان هذا بالنسبة لي كاكتشاف
كولمبوس للقارة الأمريكية، كنا نسرق للحاجة والمتعة، وهو ما أكده أبو الصعاليك
عروة بن الورد.
لَحَى اللهُ
صُعلوكاً، إِذَا جَنَّ لَيلُهُ
مُصَافِي
المُشَاشِ، آلِفاً كُلّ مَجزرِ
يَعُدّ
الغِنَى من نَفسِه، كُلّ لَيلُة
أَصَابَ
قِرَاهَا من صَديقٍ مُيَسَّرِ
وكنا كأننا وجدنا شيئاً مكتوباً لدعم نزاعاتنا
على التمرد، ثم جاء اكتشافنا للأدب الفرنسي، ودخلنا إلى عالم الروايات، ووجدنا رواية
«زولا»، ثم اكتشفنا «ماركس»، فتفتح ذهننا بطريقة أخرى وأصبح عندنا بعدا أدبيا
لمقاربة المجتمع والسلطة، وكانت الموسيقى من الركائز في تلك الفترة، لم يكن أحد
داخل موجة اليسار بعيداً عن الموسيقى، اكتشفت الشيخ إمام في باريس، وكوّنا فرقة
كورال، كنت أحد أفرادها، كان النضال هو المانشيت العريض لكل شيء.
ثم جاء تعرفي على سارتر في المدرسة الوجودية،
وفرويد في التحليل النفسي، وآخرين ساهموا في تكويني، وهنا أشير إلى أننا كنا
محظوظين بمدرسين شباب كانوا يساريين، يأتون لتدريسنا بدلاً من الخدمة العسكرية،
هؤلاء الأساتذة فتحوا أذهاننا على الأسئلة، والقراءة، وأسماء كثيرة في الفكر
والثقافة، كنا أول مرة نرى أساتذة بالجينز، نسهر عندهم في بيوتهم حين كبرنا، صاروا
أصدقاء حقيقيين، تعلمنا من أبي نواس حتى وشت بي أمي إلى المدرّس.
المدينة
الشرقية والغربية
·
تربط دائماً بين ألف ليلة وليلة والمدن
بأحيائها واسواقها القديمة، ما الذي يسحرك حقاً في هذه المدن، التي تحدثت عنها
بجمالية عالية في كتابك الحائز على جائزة ابن بطوطة «مدن ووجوه»؟
أحب الجلوس أمام مقاهي المحطات. كما أفضل من
بين المحطات تلك التي تكون متوسطة لمركزٍ حيٍّ ونشط من المدينة، وأكره المحطات
الملقاة في أحياء نائية، ولا تحيط بها مقاه ومطاعم وفنادق صغيرة وحانات، يسحرني في
المدن الغربية تلك اللمسة الشرقية التي تكون فيها، لهذا أحببت لشبونة، وهي أفضل
مدينة في نظري، قلب دولة البرتغال المطلة على الأطلسي، وهي أكبر مدينة فيها
وعاصمتها.
هذه المدينة فتحت على يد الأمويين وأطلقوا
عليها آنذاك اسم أشبونة أو لشبونة وجعلوا منها قاعدة عسكرية من قواعد الأندلس.
مدينة شرقية عتيقة، كتلة من الأسرار، شوارعها
وأزقتها على شكل متاهة، أزقة قصيرة تفضي إلى منعرجات، الناظر لا يستنفد المشهد،
وينجذب إلى سرّ ما وراء المشهد، هذا الغموض هو سحر الشرق.
الالتواءات، المنعرجات، كأنها ألف ليلة وليلة،
التي سحرت العالم بغموضها لهذا وصلت إلى العالمية، رواتها كان لديهم هاجساً أن
يجعلوا المستمع يلهث، وشهرزاد لعبة الحياة والنقد والتجديد، في مجاراة لحركة الأفكار في الكون «لا تكونوا مثل التي
نقضت غزلها».
إن من نبهني إلى العلاقة بين ألف ليلة وليلة
والمدن الشرقية عبد الفتاح كليطو، في كتاب «لسان آدم»، آدم أول من قال شعر في رثاء
ابنه حين مات، أعود إلى ألف ليلة وليلة، والأسلوب السردي الذي يلف ويخلق حلقات
وحلقات من قصة واحدة، تدخل في متاهة القصص، هكذا هي المدن
الشرقية، فمدينة فاس هي المرأة اللعوب لا تسلم نفسها حتى تدجن الآخر وتقتله في
التيه، أعجبتني دمشق القديمة، كأنها منسحبة عن نفسها مثل الكهوف، مثل عوالم
ألف ليلة وليلة.
تسحرني
الأسواق:
أحب سوق الخرداوات، والأشياء العتيقة، أغراض
نائمة تنتظر حركة من أصابعك لتستيقظ، غالباً ما أقضي وقتاً في هذه الأسواق أفكر في
أسماء بعضها «سوق اللصوص»، مثلاً ربما لوجود الكثير من القطع المسروقة فيه، ملاعق
فضيّة وفناجين بزهور باهتة الألوان وتحف من الخزف القديم وعلب شاي وقهوة معدنية،
عالم الأشياء يطل علينا من وراء ستارة الغياب
وكأنني ألتقي أصحابها، وهنا أستحضر سوق
باب الأحد بمدينة الرباط، سوق باب سيدي عبد السلام في تونس، مونتراي بباريس
أيضاً، إلى جانب أسواق في برلين واسطنبول وبانكوك وشانغهاي، ودمشق، الأسواق تمنحني
متعة قد لا أجدها في زيارة المتاحفو في أوروبا أقول هناك مدينتين جميلتين واقعتين
على طرفي أوروبا، لشبونة واسطنبول، وهذا لكثرة الروابي والماء.
هناك أشياء كثيرة تعجبني في المدن، وهو أن
تكون المدينة معانقة للتاريخ، على طرف آخر ثمة مدن حديثة لم تستفزني، لا أشعر
بأنفاس متوهجة داخل الحجارة، كأنها شيء اصطناعي، أو كأنني أمشي داخل لعبة ألكترونية، كثبان رمال شاقولية لو تهب
عليه الريح أو المطر تذوب.
حجارة وتاريخ:
وهنا أحكي عن درسدن المدينة الألمانية الأجمل،
التي دمرها الإنكليز والأمريكان، في أواخر الحرب العالمية الثانية، هذه المدينة أثارت
الكثير من الجدل بسبب العنف المفرط الذي استخدم فيها ضد المدنيين دون مبرر،
ورغم الأنقاض المخيفة، حين أعيد بناؤها، بدت
وكأن الحجارة نفسها جمعت، أو كأن الحجارة
عادت إلى موقعها، ربما السر في التاريخ، في الجذر البعيد للمكان.
المرأة
ومؤسسة الزواج:
·
في سياق الرحلة حبذا لو نتوقف قليلاً عن
المرأة التونسية الغربية، لماذا في هذه النقطة انحزت للمرأة في الغرب؟
بدات أعرف المرأة في باريس، تعرفت عليها في
الجامعة والبارات والحارات، كنت أنتقل بين الجامعة والعمل كنادل «جرسون»، العالم
بدون امرأة صحراء، ابتئس في تونس حين أدخل مقهى كلّه رجال، لأنه يذكرني بالثكنة
العسكرية، لهذا أصدقائي 70% من النساء، والباقي رجال، في المجتمع العربي نفتقد إلى
التلقائية بين المرأة والرجل، ونكون كأننا في حلبة صراع تخطيطات ومراوغات بعيداً
عن العفوية والتلقائية والمباشرة.
لهذا فإن مؤسسة الزواج عندنا ثقيلة ومكبلة
للطرفين، وهو ما منعني من أن أتزوج تونسية، ففي مجتمعاتنا من يريد أن يتزوج كأنه
يتزوج قبيلة كاملة، وهذا ينطبق على المرأة بالتأكيد، لذلك شعرت بارتياح أكثر مع
المجتمع الأوروبي فتزوجت ألمانية، تلك المرأة التي خطفها الموت سريعاً.
الموت
والزمن:
الزمن الذي يلف الأشياء والعواطف والأمكنة،
يدخل في مجمل حياتنا، عبر قنوات متعددة، كتبت زوجتي أثناء مرضها وصية، أن يأتي
الجميع إلى موتها دون لباس حداد، لأن كانت تعتقد بأن الموت إشارة لشيء اكتمل،
وطلبت أن يغنى لها أغنية لويس ارمسترونج:
What A Wonderful World – يا له من عالم
رائع
«عندما تراني أقع، دعني أقع مثل ورقة في
الخريف
أنا لا أخاف من الألم
ما أجمله من عالم!».
الترجمة
والإبداع
·
الترجمة والتنقل بين ضفتين، العربية
والألمانية، لماذا اخترت ترجمة نيتشه، كيف
ذهبت إلى الترجمة، هل أخذك العمل، أم اللغة، أم أشياء أخرى، وإلى أي حد أنت
نيتشوي؟
دخلت ألمانيا عام 1989، بعد سقوط جدار برلين
بأسبوعين، كانت بالنسبة لي بداية من كلّ النواحي، اشتغلت ببناء الخيام ومنصات
الحفلات، اشتغلت جرسون وطباخ، لهذا تتخلل كتاباتي شيء ما عن الطعام، اشتغلت في
المصانع، كنت أكتب وأنا أعمل، كان فكري متحرر من الشغل، حين أرجع إلى البيت أبيّض
ما كتبته اشتغلت في البناء، اشتغلت موظف استقبال في الفنادق.
دخلت عالم الترجمة لأترجم وجع اللاجئيين،
عملت عشر سنوات ترجمة فورية مع جمعية تعنى باللاجئين وضحايا التعذيب في العالم
الثالث، من عراقيين وفلسطينين، ولبنانيين، وكُرد إيزيديين من سوريا، وأفريقيا
الكاميرون وانجولا بصفة خاصة، شخصيات مدمرة، كنت أمام مشهد وكأنني في عمل مسرحي تراجيدي،
أو عوالم تشيخوف وربما أكثر بكثير، كنت أسمع البؤس الإنساني، هل لك أن تتخيلي ألم
اللغة؟!
ثم انتقلت إلى ترجمة النصوص والمقالات، عن
الألماني والفرنسي، ترجمت الكثير من الكتب لا سيما نيتشه، وكانت البداية دعوة
لترجمة نص لنيتشه من الشاعر خالد المعالي، دار الجمل، وربم فتح لي هذا الطريق.
·
لماذا
نيتشه بالذات، وهل تتبنى فكرة الإنسان الأعلى؟
لست نيتشاوياً، رغم أنني أحب كتاباته، وأرى فلسفته من أهم وأعمق ما وجد في
تاريخ الفلسفة، عرفت نيتشه حين كان عمري 18 سنة، قرأته في اللغة الفرنسية، تلك
اللغة التي فتحت لي على الكثير من الثقافات، واكتشفت لاحقاً بؤس بعض الترجمات التي
قرأتها بالفرنسية، لكن البؤس الحقيقي كان الترجمات الكارثية في اللغة العربية،
ربما لهذا السبب ذهبت لترجمته، وأعتبره فيلسوف القرن 21، لما لا وهو صاحب مقولة أن
بعض الناس لا يولدون إلا بعد الممات. الإنسان حسب نيتشه كائن متعطش للانتقام وهو
ما يجب تجاوزه.
بعد أن غادرت تونس إلى ألمانيا، وتعلمت اللغة، قرأت «هذا هو الإنسان»، ثم «الإنجيلالخامس لنيتشه»، للكاتب بيتر سلوتردايك، وبدأت ترجمته بمناسبة الذكرى المئوية الأولي
لوفاة نيتشه، وآثار هذا الكتاب الكثير من الجدل حول نيتشه.
ثم مضيت إلى الكتاب الأكثر شمولاًً، كتابه هذا هو الإنسان، ترجمة هذا
الكتاب دفعتني للرحلة إلى الشرق الأدنى.
تعلقي بنيتشه مثل المصير تماماً.
وختم: «كل القطارات تذهب إلى
حيث لا أذهب. كل القطارات تمضي إلى مكان غير الذي أرغب في الذهاب إليه».