جان بابير
حقيقة،
أحاول في نهاية كل شهر أن أغتسل من الأفكار القديمة كمُسلم يتطهر من الجنابة، لكني
دائماً أقع في رجس أفكاري القديمة وحبائل جملة استخدمتها سابقاً، ربما قبل عشر سنوات،
والتي
تأخذ خلسة حيزها فيما أكتبه اليوم.
لا أريد
ترميم ما بنيته سابقاً وبدأ يتصدّع في ذاكرتي، لعله الوجع القديم يتجدد،
لعلها
ذاكرتي التي نشرتها أمي على حبل الغسيل ما تزال رطبة! أو أنه جسدي المتعثّر بفتوته
ينادي، وأنا ما بعد الخمسين ألتفت إلى الوراء؛ أيهما أفضل الوراء أم الخلف، لا أدري.
أُلبِس
أمسيتي هذه عباءة من الكلمات، زملائي في هيئة التحرير يطلبون المادة الصحفية، وأنا
أعلم جيداً أن القارئ في هذا الوقت لا يقرأ نصّاً طويلاً، فما بالك بصديقتي ميلينا
الشاعرة الرقيقة التي تقول: "هل نقرأ الإلياذة ونناقشها معا؟"
أسمع
خريري الداخلي بهدوء و صمت، فأهجو الكلمات وأكتب:
هل ضاع
منّي الدرب أم أن قدمي أضلّتا الطريق؟
لتكن
مراكب أسطري قد أبحرت، لكني أخاف صعود أسطر قديمة أو الركوب على متنها. الكتابة
تشبه الحرب دائماً، تنهشنا قبل أن یغسل الضوء وجه الفجر بعد الغسق بساعات، وأيضاً من
قعر كأس مملوءة بالعرق تخرج إلينا الأفكار .
منذ
مدة تمشي أفكاري حافية القدمين على الرماد، و منذ مدة لم أشرب القهوة، لكن المرارة
تسكن حلق جملي، أتوسّط السطرين كــــ حمار تحت حمل (خرج)، أتسوّل العرق الذي ينزّ من
مساماتي. آه لو أستطيع أن أخيطها بصمت! أو كما حلم أذهب إلى طفولتي، وتوبّخني أمي وترميني
بالمكنسة قائلة:
-
"يا لك من ولد عاق! منذ ساعة لبست هذا البنطال، انظر إلى ركبتيك وقميصك الملوَّث،
الكلب يشبع من وسخك ."
يشطرني
الفراغ إلى نصفين، نصفي الأول ماء ونصفي الآخر نار. أبحث عن الفراغ ما بين بينين، أعلّق
حزني بدلاً من قميصي على المشجب، يثرثر النهار مع الليل والماء مع النار؛
أنا
عارٍ في العراء، ليس لي وطن أبكيه ولا وقت لديّ لأرضعه من ثدي جارتنا التي تشحد الشمس
لنهديها، حتى أحلامي باتت جثثاً عفنة. يبدو أني شطحت كثيراً، ما علاقة كل هذا بزاويتي
الشهرية في الجريدة؟ نعم، إنني أتحايل فقط لكيلا تغافلني الأفكار القديمة، وتعشعش في
رأسي كالطيور المهاجرة.
لم أستعجل
في فتح باب الغد وقد داهمني بالقدوم!
ما أكتبه
الآن يشبه من هو على موعد مع سَفر، أتأكد من توضيب الحقيبة، وورقة اختبار الكورونا،
أنا في حيرة من الموضوع الذي أتناوله ومن موعد ساعة السفر، هل كل شيء على ما يرام؟
الأمس
لم يكن بعيداً عن عينيّ يومي.
رجاءً
تمهلي قليلا أيتها الذاكرة، ولا تباغتيني على عجل!
أطلقت
العنان لساقَي أيامي، لا أعرف إلى ماذا تسعى أيامي؟ إنها تهرب مني!
بنشوة
الوصول أعيش في دائرة العبث، وأحصد الخيبات، أنفض عقلي مثل كيس طحين وأفرغه من كل ما
علق به من أمسي الباهت.
لا
أملك متسعاً من الوقت ولا ملعقة سكر لديّ لأزيل بها المرار من أفواه جملي.