عماد الدين موسى
لا تجد شاعرًا عاريًا يريد أن يظفر بالحريَّة ليسترها مثل الشاعر والروائي سليم بركات في عملهِ الشِعري الجديد "الشظايا الخمسمائة- أين يمضي الذي لا تلمَسُهُ يداي؟" (دار المدى، بغداد- 2021)، الشاعرُ الذي تسكنه أصوات خفية وهو صاحب المزاج المتَّسم بالمغامرة وحواسه مفتوحة للشمس، وقد كسر كل تفاعيله، لنرى أفعاله؛ شظاياه في شكل متجدّد ممزقًا القوالب والأشكال النمطية لقصيدة الشعر العربية وهو الشاعر الكُردي السوري، فنقرأ شعرًا مليئًا بالمآسي لسوريته وكُرديته التي طعنتها خناجر الأصدقاء كما الأعداء. فالشعر وبعد هذا العمر يبقى فعل صيرورة وتحوُّل، يحطم فيه سليم بركات بنية الجملة، وينقيها من الفوضى والعماء، جملة لا تكبح جماحها حتى ينبثق دمها:
"الأسبابُ واضحةٌ:
نجومٌ. كواكبُ. أكوانٌ صغار مخبَّأة في بَيْضِ السرعوفةِ. أكوانٌ كبارٌ، منذهلةٌ من سَعَةِ مجهولها. صحائفُ بأخبار النمورِ، والسيولِ، وسرقات الماسِ من مناجم الجحيمِ. خيامٌ فوق الكثبانِ وتحتها. طواحينُ تديرُها الحورياتُ بنفخٍ من أفواههنَّ على القواديسِ. أوعيةٌ مدفونةٌ بالطعامِ فيها إلى جوار المومياءاتِ. شرعيٌّ. لا شرعيٌّ. مُبهَمٌ معتدلٌ. حقائبُ على ظهور الأفيالِ. هوادجُ رمليَّةٌ.
كلُّها أسبابٌ واضحة لِمَا جرى مرَّةً،
قبل انفصالِ إعصارٍ عن أمِّهِ في موسم السِّفاد بين الأعاصير".
جملةٌ طويلة لكنَّها من صور سريالية مُرعبة، صورٍ مأساوية خارقة للمألوف، لأنَّه لا أسرار عند سليم بركات، ولا جثث فكرية، ولا سقوط مفاجئ في هذا الواقع الفولاذي للشر، صورٌ ببنية لغوية ذات زخم انفعالي، وهو يمزج الماضي بالحاضر، فيذهب من المباشرة إلى الإيحاء، ومن الوصف إلى السرد. شاعر حاذق مجرِّب يكتب بمعرفة قائمة على الحلم وهو يمسك العالم بقبضته:
"تسلَّمتُ الحياةَ ـ كما تسلَّمتموها ـ رقيقةً، متورِّدةَ الخدَّينِ كردفيها؛ حنونةً؛ زيتيَّةَ الملمسِ؛ مُفَلْفَلَةً بحكمةِ السَّمْنِ؛ متجرِّدةً بلا لباسٍ؛ حُرَّةً بمهبلٍ حُرٍّ؛ مُغتلِمةً؛ فاضلةً؛ ملقَّحةً كزهرة الخُزامى في فصلِ هياجِ الخزامى؛ أنيقةً بارتداءِ المشيمة عَقبَ الولادة؛ هوائيةً؛ نادرةً؛ فريدةً؛ تترفَّع عن كلِّ تعريفٍ.
وها هي أيضًا كما هي:
حياةٌ مرآبُ مَرْكَباتٍ تُستأجَرُ،
ومقامٌ للأممِ العناكب.
إنها الحياةُ أساءتْ فهميَ،
فأسأتُ فهمَها عن قَصْدٍ يُرْضي".
قفر موحش، ولكن بركات يحلق في سماء الفكر، ويرمينا بحجارته حجرًا حجرًا، وبحماسة فائقة البهجة رغم ألمه. بركات مثل شلال مجلجل يرسل شعره؛ شظاياه، الذي هو تعبير عن حركة عقله مقاومًا الخدر، خدر الحياة التي حوّلها- حوّلتها القوة/ القوى الأعظم إلى غنيمة ومضخة لمشاعر وأحلام الإنسان في مزارعها ومستنقعاتها، بعد أن مزقتها وحولتها إلى شظايا ببراميلها المتفجرة. إنه في هذه الشظايا يرسم ويصور تلك النار المتوحشة في داخله، وضجيج عواصف أعصابه:
"لواعجٌ احتياطيَّةٌ.
زحامٌ احتياطيٌّ.
جنونٌ احتياطيٌّ.
أعصابٌ احتياطية.
حزنٌ احتياطيٌّ.
نزفٌ احتياطيٌّ.
عواصفُ احتياطية.
غبارٌ احتياطيٌّ.
أنبياءُ احتياطيون.
عضٌّ احتياطيٌّ.
غَرَقٌ احتياطيٌّ.
انهيارٌ احتياطيٌّ.
رمادٌ احتياطيٌّ.
مَرَاثٍ احتياطية.
ركودٌ احتياطيٌّ.
أوبئةٌ احتياطية".
بركات مثلُ ملتاثٍ أمام جبروت الطاغية، وضراوة أفعاله الاحتياطية، حيث لا تنفد عنده رساميل القتل مهما استهلك من أدواتها. يسخر من الاحتياطي- تصوَّر أنَّك تعيش على الاحتياط، على القلق، والخوف والرعب، على الهامش، على لا لزوم اللزوم، وذلك في تكثيف للصورة الشعرية، وهو يكشف عن معاناته النفسية والفكرية من الاحتياط، من انبعاث الفساد العقائدي والاقتصادي والسياسي في بلدٍ/ بلادٍ تحترق. فلا فعل ثوريا، لا ريح، لا أمطار، ولا صواعق ولا بروق، والناس في سبات، كأن لا مخلِّص:
"مرحى للجريمةِ قبل حدوثها؛
مرحى لها بعد حدوثها:
الجرائمُ متكاملةٌ عناقيدَ تتدلى من دوالي السفوحِ،
ومن دوالي الأوديةِ،
ومن دوالي السهولِ،
ومن دوالي الأرقامِ في الإحصاءاتِ الرَّتيبة.
مرحى للوجودِ لن يختبئَ من تَرَفهِ وجودًا.
مرحى للعَدم لن يختبئَ من تَرَفهِ عَدَمًا.
مرحى لي:
سأختبئ أنَّى وجدتُ مكانًا لا موضعَ لتَرَفِ الموتِ فيه".
إنَّها رؤيا الشاعر، ليست رؤيا سوداوية، ولكن لكثرة المآسي، كثرة الجرائم، كثرة الحطِّ من شأن الكائن الإنساني. مجادلات، منازعات، مناقشات، ومن ثمَّ إعدامات استعدادًا للخلود!. ما هذه البطولة التي يتحوَّل فيها الإنسان إلى وقود وعلف في مطابخ ومداجن تجار الحروب والدماء. بركات في (الشظايا الخمسمائة) يستعمل عقله لا ذاكرته، يمارس سيمياء الواقع لا الكيمياء التجريبية، يضرب ببصره وبصيرته هذا الواقع الشيطاني:
"تعديلٌ على الأصلِ يُستغنى عنه، مُذ يُسْتغنى عن الأصل.
تعديلٌ على الشرقِ، والغربِ، والشمال والجنوب، يُستغنى عنه، مُذ يُسْتغنى عن الجهات
يُستغنى عن الصوتِ، وعن البريِّ، والبحريِّ،
وعنِ السحابةِ المقطَّعةِ الثيابِ،
وعن الشعوبِ حلَّت في المواضعِ المسكونةِ،
وعنِ الرَّحْبِ الضيِّقِ، والضيِّقِ الرَّحْبِ،
والبروجِ يصعدها المنتحرون إثْرَ خلافٍ مع التاريخ على الغنائم".
رؤياه وثابة، فيزيل في هذه الشظايا أقنعة تماثيل الموتى الذين ما يزالون يحكموننا ويتحكَّمون في مصائرنا، شظايا واقعية حدسية قائمة على الصراع، صراع الموتى مع الجرحى، بركات لمَّا يكتب يعطي للكلمة من شعر أو نثر قوة مؤثرة، هي قوَّة العاقل؛ ولكنه ذاك الذي يلبس ثوب الجنون.
عن موقع: ضفة ثالثة.